مهنة … في محنة (2): الصحافة السودانية وعصر الكَبَدْ

 


 

د. محمود قلندر
16 November, 2014

 


ماذا فعل اللبراليون الرواد بالصحافة؟
وماذا فعل سياسيوها للصحافة حين تسنموا الحكم؟
ثقافة الرد على المقال بالعصا الغليظة موروث استقلاليمارسته الأحزاب 
عبد الله رجب وعرابي كسرت أذرعهما وخنقت صحافتهما حتى الموت
قفزت القيادات السياسية الرائدة من أعمدة الصحف إلى مقاعد الحكم
ثم فشلت حين تسنمت الحكم، في صدعنف السياسة عن الصحافة 

د. محمود قلندر
ما تعرض له الزميل عثمان ميرغني في أخريات رمضان الماضي، ليس بدعة جديدة في موروث العنف السياسي-الصحفي في بلادنا. فالأجيال الكهلة من الصحفيين، تذكر- ولو بالتداعي- كيف ضاقت صدور اللبراليين،حديثي النبات في بيئة الالتزام المتعصب للهايراركية الطائفية، بالأقلام الناقدة للأسياد، أو اللاسعة بالسخرية رموز الطوائف والعشائر.
نزعة الضيق بالآخر، جين أصيل من جينات السياسة السودانية، تخلقت مع تخلق العلاقة بين السياسة والصحافة،حتى قبل ميلاد السياسة السودانية الطليقة من شبهات الأثر والتأثير البريطاني أو المصري. فما إن أفرخت السياسة السودانية أحزابها في سنوات ما قبل الاستقلال، حتى انقسمت على نفسها طوائف وشيعا، أوسعت بعضها البعض تجريحاً تجاوز اللسان إلى البنان. وكانت صفحات الصحف النابتة لتوها، هي ساحات الشتم والتقريع والتهكم بين الساسة. ولأغراض تلك المهام، صارت المواهب الربانية من قدرات صياغة كلمات الهجاء، ووصف الآخر بما ليس فيه، "متطلباً مهماً، ليس ضرورياً" من مقتضيات المحرر الموهوب والمرغوب..
وكان الغريمان الغريبان المتنافسان على حكم السودان، يغذيان نزعة الضيق بالآخر بين القوى السياسية الوليدة بشتى السبل: بالدعم مالاً ومعدات من الغريم المستضعف، وبالخنق الإداري الاقتصادي من الغريم المستبد.
وحكايات الضيق بالآخر في ذلك العصر المبكر من الفعل السياسي الوطني، مشهودة بوقائع وأفعال.. بعضها –بحكم الشطط فيه- مسموع ومسنود بالتسجيل، وبعضها انزلق من ذاكرة الأحداث من فرط التكرار حتى مصاف الاعتياد..
ومن الحكايات المسنودة المشهودة حكاية رجب وعرابي..
***
الصحفي الرائد عبد الله رجب، هو أكثر الصحافيين السودانيين عصامية بلا جدال، فقد حفر بأظافره طريقه نحو قمة العمل الصحفي، وسالت في سبيل ذلك دماؤه وأموال أخيه . وكانت "صراحة" الرجل (الصحيفة والمواقف) وراء ما حاق بذلك "الأغبش"  الذي عد نفسه منذ يومه، الصحفي الملتزم بالمقهورين. ولذك تصلح سرد قصة الأغبش  مع آخرين للوقوف على حقيقة عنف السياسة ضد الصحافة في البلاد. 
وكما هو معروف ومشهود، فقد كانت للرجل نزعة نحو اليسار، لم يكن أساسها التزام أيديولوجي، بقدر ما كان مصدرها واقع التنشئة والمعايشة في ريف سادت فيه العصبية بالعشيرة والولاء للطائفة . ومن ثم فقد كانت الصراحة أكثر الأوراق "إزعاجاً " لهيمنة العصبية للعشائر والطوائف، حتى صارت الصراحة "بطة سوداء" تخالف ما جبلت عليه قاعدة المجتمع من توقير العشيرة وتبجيل الطائفة. 
ولعل في سرد مالآت "الصراحة" ما يوضح واقع العنف الذي واجه الصحافة في زمان اللبرالية السودانية البكر..
فقد اصطدمت الصراحة منذ عددها البكر مع مواعين الحكم اللبرالي: أحزاباً وحكومة.  وتم تجريم الصحيفة لصوتها اللاذع مراراً، وانهمرت عليها الملاحقات القضائية والإدارية بل والحزبية..  وكانت الغرامات الصادرة في إطار الأحكام القضائية هي سبيل تعويق الصحيفة.
ففي وقت كان فيه سعر بيع الصحيفة خمس مليمات، توالت الغرامات على "الصراحة" بما يعد بواقع اليوم مليارات (الجنيه يساوي ألف مليم).. 
فقدحكم عليها اول الأمر بالغرامة خمسة جنيهات، 
ثم حكم عليها بالغرامة عشرون جنيها 
ثم حكم عليها بالغرامة ستون جنيها..
ثم حكم عليها بمائة جنيه..
ثم حكم عليها بغرامة شبيهة، لمقالات ناقدة للمشاريع الاقتصادية ذات الصلة بالطوائف.. 
ولما انهمرت الغرامات على الصحيفة، ابتدع صاحبها بدعة  "العدد الممتاز" لتغطية الغرامات المتعددة،  فكان القراء أكثر وفاءً، فانتزعوا الصحيفة من وهدة الإفقار التي دفعت إليها.
***
لم يكن نصيب الفتى السنجاوي الأغبش هو الغرامات المالية فحسب.. بل نالت يده اليمنى ما اغترفت يداه..
فقد انهمرت عليه عصٍ غلاظ من جماعات حزبية لغليظ قوله في الحزب والطائفة..
ثم ناله تعنيف بالايدي من منتسبي الحزب الآخر "لتطاوله" على الطائفة الأخرى..
ثم نال سجناً  طويلاً (ستة أشهر) لمقال لم يخل من نقد لمؤسسة اقتصادية ذات صلة بالكبار-أحزاباً وطوائف..
ثم تعرضت صحيفته لأطول إيقاف لصحيفة ( في التاريخ القديم) إذ أجبرت على التوقف ستة اشهر عقاباً على غليظ قولها ضد العشائرية والطائفية..
***
لم يكن عبدالله رجب وحده الذي انهكت السياسة السودانية بدنه بالضرب المبرح...
صالح عرابي، صحفي تمددت ولاءاته عبر النيل من الشمال إلى الجنوب.. عمل بالصحافة المصرية، وامتزجت في قلمه سخرية مدرسة روز اليوسف بالتهكم الفطري لأهل المحس. وحينما  "نزل" عرابي بذاته الصحفية إلى السودان، كان صحيفته الأسبوعية "التلغراف" أكثر الأوراق سخرية بالسياسات والسياسيين المحليين والمصريين على حد سواء.وكان قلم عرابي الملئ بالسخرية، والذي جسده بابهالخارق الحارق "تلغرافات مستعجلة"، هو الذي أثار عليه سخط وغضب كل سياسي وطائفي وعشائري. 
ولما كانت السياسة السودانية مشحونة بالغضب الموروث، ولا تعرف سبيلاً للتنفيس سوى الاعتلاء بالدرر والعصي، فقد تعرض عرابي لما تعرض له عبد الله رجب، فكسرت يده على يد جماعة من ذات الطائفة،  فلم يجد عرابي الساخر إلا السخرية من ضاربيه بقوله " انهم  أرادوا إعادته أمياً كما هم".
وكما حدث لعبدالله رجب، سجن عرابي أِشهراً ستة
وكما حدث لرجب تعرض للغرامات المتكررة
ولكن عرابي نال على يد السلطة الوطنية ما لم ينله رجب ولا  نالته الصراحة.. 
فقد  تم إعدام التلغراف على يد  الحكومة الوطنية عام 1955، التي أصدرتقراراً إدارياً بإيقافها عن الصدور، من غير رجعة..
***
كم من السياسيين السودانيين قفزوا من سطور الصحافة إلى مقاعد الحكم والسلطان؟وكم منهم رضع السياسة من أثداء الصحافة؟
لقد أحصيناهم فوجدناهم صحفيين-سياسيين عدداً.... 
بعضهم بدأ خطى مشيته الاولى في دروب السياسة على صفحات الصحافة... وبعضهم اعتلى مناصب أعلى في الصحافة، قبل أن يلج أبواب السياسة، وبعضهم خلط الصحافة بالسياسة.. فصار الإثنان ساقاه التي بهما يسير بين الناس..
والأمثلة على ذلك كثر...
المحجوب،علم السياسة السودانية النير.. ورئيس حكومات أكثر من مرة.... كان قلماً شديد الصرير في "الفجر"، وأوشك –في مرحلة من المراحل- أن يعتلي  قمة "الأمة" رئيساً لتحريرها....
خضر حمد.. راد المقال السياسي في عصر باكر، فلما منع المستعمر انغماس الخادم المدني بالسياسة، ركن  إلى  "طوبجي" توقيعاً يتقي به شر الفصل والسجن، كما كان مصير الملازم علي عبد اللطيف..
عبد الله عبد الرحمن نقدالله... اقترب من الصحافة بإدارة مطابعها، ثم غاص في بحر الصحافة حتى  اعتلى هرمها نائباً لرئيس التحرير..
عبد الماجد أبو حسبو،  من ألرعيل الأول من يسار السودان النابت في مصر ، كانت ساحته الصحفية "أمدرمان" القاهرية،  لساناً معارضاً لحكم البريطانيين للسودان من خارج السودان.. ثم عاد فيما بعد ذلك بعقود، ليكون صاحب القول الفصل في أمور الصحافة والإعلام كله..
أحمد السيد حمد.. بدأها صحافة في مصر ثم أكملها صحافة وسياسة في السودان..فصار رئيساً لتحرير "العلم" بعد انفراج أزمة الاتحاديين التي قسمت الحزب بين نورالدين والأزهري..
محي الدين صابر..ترأس تحرير "صوت السودان"، وقبلها، كان في مصر قلماً داعياً بوحدة وادي النيل في جريدة "السودان" الصادرة في مصر..
محمد توفيق، صاحب "الجمرات" التي تلظي منها الساسة المنافسون لحزبه، لم يتذكر من أمر القوانين واللوائح المكبلة لماضيه الصحفي، ما يحفزه على السعي للإطاحة بها في مزبلة التاريخ
حسن الطاهر زروق.. بدأ محرراً في صحيفة السودان ، وتدرج من الصحافة غير الحزبية إلى الحزبية ، فصار أول رئيس لتحرير الميدان وظل كذلك حتى مداخل البرلمان..
***
ما نَعُدُ هنا من صحفيين اعتلوا صهوات السياسة الوطنية ليس كلٍ من كلْ.. بل هو بعضٌ من كل..  ولكن اخترنا بعضاً من ذلك الكل،الذي نراه كان يمكن أن يكون نصيراً للصحافة وهو في مواضع السلطة واتخاذ القرار..
المحجوب.. ثاني رئيس وزراء من بعد الاستقلال وأولهم من بعد النظام العسكري الأكثر عبساً في وجه الصحافة والصحفيين.. كان الرجل في الموقع الذي يسمح برفع يد الظلم عن كاهل الصحافة.. ولكنه لم يفعل..
عبد الله عبد الرحمن نقد الله، صار وزيراً للداخلية، وكانت بعض من مواد التصدي للصحافة والصحفيين في القانون سيئ الذكر، ذات ارتباط وثيق بوزارته وخاصة أجهزة الأمن الداخلي فيها.. ولكن لم يحركه الوفاء لماضيه  الصحفي ليسعي إلى القانون بالإعدام..
عبد الماجد ابوحسبو، يعده كثيرون ساطع النجم  حين صار وزيراً للإعلام، لما تحقق من إيجابيات على الصعيد الإعلامي العام.. إلا أن أبا حسبو لم يحرك – حينها- في أمر القوانين واللوائح المعوقة للصحافة والصحفيين في البلاد..
وفي ساحات البرلمانات اللبرالية (او الجمعيات التأسيسية)  المتعاقبة كانت هناك  كوكبة من السياسيين الذين مر طريقهم إلى السياسة عبر الصحافة، لكنهم لم يرفعوا الصوت ضد اللوائح والقوانين الخانقة للصحافة وهم يتمرغون بالسلطة التي  -ربما- جاءتهم بها أقلامهم الصحفية..
من أمثلة أولئك ..
محمد عبد الجواد،  البرلماني لأكثر من دورة، ووزير الاتصالات في إحدى الحكومات الحزبية المتعاقبة...
عمر مصطفي المكي،  رئيس تحرير الميدان.. والمحمول من مقعد الصحافة إلى مقعد البرلمان على أكتاف المثقفين الخريجين..
صادق عبد الله عبد الماجد، رئيس تحرير الميثاق..الصحيفة الني بزغ فجرها مع فجر أكتوبر، فلم يجد الصحفي حماساً يرفع به عقيرة المطالبة برفع كل الاطواق عن عنق الصحافة.  
السياسيون في عصور اللبرالية، أبقوا القوانين  المناهضة للصحافة ولم يسعوا -لا باليد ولا باللسان- لرفعها عن كاهل الصحافة... بل أسوأ من ذلك.. أقدموا – في بعض الأوقات – على الانتقاء من تلك القوانين ما كبحوا به الصحافة في زمن كان واجباً أن تحلق حرة بلا قيود..
فقد سعت حكومة الأزهري الأولى إلى منع الصحافة من "النشر غير المسئول" إبان أحداث "تمرد توريت"، فحرمت بذلك الصحافة من تناول الأحداث الأكثر أثراً على مسار السياسة في السودان..
وفي سابقة نادرة، أوقفت الحكومة الدموقراطية الأولى، صحيفة صالح عرابي "التلغراف"...
وهو ما جعل عرابي  يقول "إن التلغراف أغتيلت بأيدي أصدقائها السابقين" إشارة إلى السياسيين الذين كانوا على كراسي الحكم عام 1955..
وظل سيف الترخيص مسلطاً على الصحافة تحت كل الأنظمة الديمقرطية اللبرالية..
صحيح أن مقاييس المنح والمنع في زمن اللبرالية لم تكن كما هي في عهود الكبت والكبح، ولكنها ظلت قيداً يترك للمانح أن يضيقه أو يوسعه بما يحقق الأغراض والأهواء..
وشهدت سنوات ما بعد العسكر الأوائل.. أكبر تعدٍ "ديمقراطي" على الصحافة في تاريخ النظم اللبرالية...
فقد أوقفت الحكومة الثورية التي أعقبت عبود، وهي الحكومة التي ولدت من رحم ثورة غرست رايات الحرية واللبرالية، ست صحف يومية وأسبوعية، من بينها صحيفة الصحافة، أوسع الصحف انتشاراً يومها.. بادعاء تعاونها مع نظام عبود
***
حتى اللبراليين إذاً، لم يكن سجلهم في التعامل مع الصحافة ناصع البياض...
هل جينات السياسة السودانية – ليبرالية وشمولية- معادية بالفطرة للصحافة؟هل يتحسس الساسة مسدساتهم كلما نطق أحدٌ كلمة صحافة؟
mahmoudgalander@yahoo.com

 

آراء