مُدْخَلاتُ التَّهَيُّؤِ، فَاسْتِجَابَاتُ الرَّحِيْلِ (25)
dokahassan@yahoo.com
" ... مَرْحَى ! تُطِلُّ الشَّمْسُ هَذا الصُّبحَ من أُفُقِ القَبُولْ، لُغَةً على جَسدِ المِياهِ، وَوَهَجَ مِصبَاحٍ من البلّورِ في ليْلِ الجُذُورِ، وبَعضَ إِيْماءٍ ورَمزٍ مُستَحيلْ..."
(العَوْدةُ إلى سِنَّار"النَّشيدُ الخامس: الصُّبْحُ " : د. محمد عبد الحي).
بانتهاء الفترة التدريبية بإذاعة صوت الأمة السودانية، انتقل خمستنا ( عبد الرحمن فؤاد، صلاح مدني، سيف الدولة، عبد الماجد عبد الرحمن، وشخصي) بعد اجتياز الامتحان النهائي ، إلى مرحلة أخرى فيها يتم التعرف على كيفية العمل الإذاعي، وذلك بدايةً من المكتبة وما تضمه من ثروات برامجية، مروراً بحمل الأشرطة وحضور تسجيل البرامج، ومتابعة أداء المذيعين، والمخرجين، وفنيِّ الصوت، ومن ثمَّ المرور "يوميَّاً" على كبير المذيعين، والذي بدوره يلقي عليك صفحات من نشرة سونا لتقرأها أمامه، وأحياناً بوجود نفر من الإذاعيين، ثم يشكرك، ولا تعليق!.
لقد كنتَ وزملاؤكم تتطلعون - في شغفٍ وتلهُّف- للمشاركة صوتياً في إحدى برامج صوت الأمة، فتمنَّع عليكم تحقيق التطلع، وتطاول عدَّة أشهرٍ، حتى ظننتم أن ما بينكم والمايك مثلما بين الحراز والمطر في أرض الأزوال، أو ما بين زهيرات شجرة الكرز (الساكورا) ونهايات الربيع في ديار الساموراي، وأنه اعتذار "لطيف" من أهل الإذاعة بأنَّ " الشَّمس لا تُطِلُّ الآنَ من أُفُقِ القَبُولِ"!. وما دريتُم أو فقهتم "حينها" عُمق الفلسفة، ورجاحة الرأي، وحسن المقصد، وراء التريثِ والتأخير في عُرْفِ الإذاعة السودانية وبُنياتها، والتي تمَّ توضيحها لنا لاحقاً بعد استواء العودِ ونضجه وتجاوز أخطر المراحل في تاريخ الإذاعيين والإذاعيات بهنا أمدرمان، حيث يُعدُّ العمل فيها تاجاً يزين رؤوس العاملين بها، مرصَّعاً بِعظمِ المسؤولية التي تضع الوطنَ بأهله وأرضه وخيراته، وثرواته المتباينة إنساناً وأرضاً وعادات وتقاليد في حدقات العيون، والأفئدة والأفهام واللِّسان. فالكلمة أقوى من البارود، وأندي من الطل على القلوب، وأرفأ للجراح، وأطيب للخواطر، وهي العنصر الأساس لماعون الثقافة (اللغة)، وكما قالت العرب: " ثلاثةٌ لا يمكن استرجاعها، كلمةٌ قُلْتَها، وسَهْمٌ أطلقْتَهُ، و وَعْدٌ أَخْلَفْتَه ".
وحينما استوثق أهل هنا امدرمان ، وكساهم الاطمئنان، كان المخرج سيد أحمد إبراهيم (أمد الله في عمره وأسعده) أول من أشركك في تقديم بعض فقرات برنامجه اليومي المسائي (مساء الخير يا وطني) من إعداد الأستاذ الشاعر الأديب محمود خليل محمد، تقديم المذيعة مها فريجون، وهو برنامج يمجد الوطن شعراً عامياً. بعدها - منتصف 1985- تغير اسم البرنامج إلى (مجلة المساء) حيث غلبت عليه النصوص السردية والموضوعات ذات المضامين العامة في شكل منوعات.
ومن أهم الأحداث الإذاعية في تلك الفترة، ضمُّ إذاعة صوت أو تذويبها في البرنامج العام، فصار الأستاذ محمد سليمان مديراً للإذاعة، والأستاذ عبد الوهاب أحمد صالح (عليه الرحمة) كبيراً للمذيعين. عندها صرت بلا أعباء إذاعية ، فطلب منك مقابلة كبير المذيعين لاستئناف العمل بالبرنامج العام، وما أدراك ما البرنامج العام، والذي كان مهاباً في برامجه ومقدميه ومسؤوليه! توكلت على الحي الذي لايموت، وأنبتَ برأسك أتراساً، وفجرتَ العزيمة وامتطيت الجرأة ، وقابلتَ الأستاذ عبد الوهاب، والذي كان مهاباً محترماً أنيقاً، ذا صوت مهول، وأداء مميز في تفرده. وقد كان يجالسه بالمكتب المرحوم الأستاذ علي الحسن مالك رئيس القسم الرياضي بالإذاعة والمعلق الرياضي المعروف، ضارب الشهرة والألق، والوصف الحي لمجريات المباريات بمفرداته المنتقات التي تنتاش الحدث تصويراً لا يضاهى أو يبارى. فاستقبلك، وسألك عن غرضك. فعرفته بنفسك، وأنك كنت تعمل بصوت الأمة، فأكد لك متابعته لك، وأنك ممن يتوقع لهم مستقباً واعداً في دنيا الإذاعة وهنا أمدرمان. ولَكِنْ ...
ونواصل