"على بَابَك، نهارات الصَّبر واقفات. بداية الدّنيا هِن واقفات. وكَمْ وَلْهَان ، وكَمْ طائر، بَعَد نتَّف جناحو وَرَاك، لَمْلَم حَر نَدَامتُو وفَات، قَطَع شَامَة هَوَاك مِن قَلْبُو، إلاَّ هَوَاك، نَبَت تَانِي، وعلى بَابَك، وَقَف تَاني..." الشاعر عبد القادر الكِتَيَّابي
تقول حكمة من بلاد الشمس المشرقة (اليابان): "أزهار البارحةِ هي أحلامُ اليوم". وحكمة شرقيَّةٌ أخرى تقول: دائماً يأخذ الماءُ شكل الإناء الذي يحتويه. وظعائن أحلامنا الرَّاحلات منذ أمس قد مرت طيوره البكر (الأوائل) Early birds ، المغردات على أغصان شجرات الرحيل الطلق، ودارت دوراتها ذات التمام والكمال والتحكر الشفيف في مسام الروح ونُويَّات الذاكرة البكر فينا، ضاجةً فيها قبل الغياب، تظلُّ نُوَّارات نبات التَّبَرِ تنشر لونها في فضاء الرحيل المتتابع، وتنثر أريجها الريحانات الصديقة أوان اندلاق موسمها الفوَّاح طِيْباً على قوارير الزمان، وتشكلات مياهه بلورية المآل سمتاً ومخبرا في توشحها بوسم مواعينها ورسمها الحياتي المتاح.
الـمَحَلِّيَّةُ، والبُوسْتَه، هما باخرتان نيليتانِ تشرعان في نَسْجِ رحلاتهما الميمونة من ميناء مدينة كوستي النهري وهما محمَّلتان بالبضائع والرُّكاب، تمرَّانِ بأولى محطاتهما النهرية "صعيداً" الجبلين، فتنازعان تيار النيل الأبيض المنحدر من أعالي النهر النبيل نواحي البحيرة العظمى فكتوريا، ثم تمرانِ بالقيقر ثم الرنك، وبعدها جنوباً وداكونه، فجلهاك، وكاكا التجارية، وملوط، وكدوك، ثم تكتمل رحلة الباخرة المحلِّية بمدينة ملكال، لتواصل باخرةُ البُوسته رحلتها جنوباً حتى جوبا حاضرة الجنوب وعاصمته. والرحلة بين كوستي وملكال تأخذ حوالي أربعة أيام ذهاباً، وثلاثة أيَّامٍ عودةً،كما أنَّ رحلة البوستة إلى جوبا تستغرق حوالي أسبوعٍ ذهاباً، والعودة في حوالي خمسة أيام، وذلك يرجع لاندفاع تيار النهر نحو الشمال، وبالتالي تزداد سرعة الباخرة، لتنقص عدد من أيام الرحلة. وملكال كما نعرفها، ويعرفُها مُتعمِّقاً فيها ابنُها اللواء (م) شرطة بشرى أحمد إدريس، مندلقاً في واحدةٍ من كتاباته عنها وهو ينضح بكامل النوستلجيا، وتمام الحنين المشوب بالحزن النبيل والجرح الثخين،" ... ملكال ليست مدينة شلكاوية أو دينكاوية أو نويراوية، ولا تنتمي إلى قبيلة، ولا تعرف العنصرية، ولا تعترف بالعصبية، لأنها ولدت على سُرُرِ المحبَّة ، ورضعت من ثدي السلام، والوئام، وتغذَّت من طهارة أرضها ...". فهي مدينة في حدودها الجنوبية تشمخ أحياء بم ودنقر شوفو، مروراً بالمديرية التي تحد بعض بيوتها غرباً شاطئ النيل الأبيض وشرقاً شارع الأسفلت (الظلط) الرئيس الممتد من المطار شمال المدينة، ثم نأتي إلى سوقها الكبير، فحي الجلابة، ثم الري المصري الذي يمتد على مساحات شاسعات من الحدائق الغناء والبساتين المثمرة مانجو، ويوسفي وبرتقال وزونيا واللارنجا وجوافة، ثم شمالاً ناحية حي الملكية، وحديقة الحيوان، والمطار وسوق الجو. ولا ننسى ثورة الجلابة وثورة الملكية والألواكات، فهي مدينة تستحق الحسرة والأسف الطويل عليها،لأنها مدينةٌ في قسماتها وسمتها، قرية وريفة حنينة في روحها واجتماعها.
قُلتُ: قُرابةَ شاطئه الغربي، شمال قريتنا الحبيبة (وداكونه)، وفي محطة البواخر، كانت تحتشد أخشاب أشجارنا واثقة القامة ممشوقتها، وافرة النبل والكرم والعطاء، واهبة البواخر وبحَّاريها (البَّحارة: طاقم الباخرة) وقوداً وطاقةً تشرف عليها مصلحة الغابات وتستزرع الأشجار في حيازات حكومية منظمة ومواكبة لاحتياجات البواخر و هيئة النقل النهري آنذاك. وجنوب المحطة، تنتصب أشجار العرديب (التمر هندي) متطاولة تتباهى بسموقها الفطري ، وثمارها المكتنزة بما يلذع من حموضة ويقرص في حلاوةٍ تروي من ظمأ، وتشبع من خواء. فهي دانية متدلية قريبة لساكني العَرْديبَاتِ من طيورٍ مغرِّدةٍ،وقُرُودٍ مُشاغبة، هميمة الحركة، نشيطتها،كثيرة التَّلفُّت كأنَّها تمارس فعل الاختلاس، وتدري أنها والناس في حق اصطياد الثمار وجمعها من هذه الشجرة المنعوتة بالبركة، سواء. فأشجار العرديب التي اسمها العلمي هو Tamarindus Indica، وتُعرفُ عربيَّاً بالتمر هندي، هي شجرة عرفتها الأمم والحضارات الإنسانية في الهند، واليونان، ومصر، وممالك النوبة حيث يطلقون عليها (جركد). وتنتمى إلى البقوليات، مستديمة الخضرة، حيث تزهر في فترتين من العام، مرةً في الفترة بين شهري نوفمبر وديسمبر، والفترة بين مايو وأغسطس، ويتراوح طولها بين عشرة أمتار وثلاثين متراً، وقد يصل عمرها إلى مائتي سنة. فهي من الأشجار المعمرة التي تحتوي على عناصر مضادات حيوية تقتل أنواعاً كثيرة من البكتيريا. ونواصل