مُذَكِّرَات مُغتَرِب في دَوَل الخَلِيجِ العَرَبي (١٣)

 


 

 

وضَعتُ عَصا التَّرحالِ هذه المّرَّة في الجُبَيل البَلَد . كانَتْ المَدرسَةُ المُتوِسِطة مَبنىً كبيراً وفُصُولها مُتَعَدِّدة ، إلاّ أنَّ هذا المَبنَى كانَ يَشكُو مِن القِدَم والاهْمَال .
عَمِلَ معي مِن الزُّمَلاءِ الكِرَام الأسَاتِذة السُّودَانِيين عبدُ الله
دفع الله كرَّار رِياضِيات وإبرَاهِيمُ الطِّرِيفي لُغَة عَرَبِية و عبدُ الله إمَام تَربِية إسْلامِيَّة - وقد كانَ قاضِياً في السُّودَان . وقدْ كُنَّا نسْكُنُ معاً في شُقّة واحِدةٍ سَكَناً طَيِّباً وعُشرَةً أطْيَب . لمْ يكُن عَصْرُ " الموبايلات " والهَواتفِ النَّقالةِ قد حَلَّ بعدُ . كانَ لدَينا هاتفٌ عَام في الشُّقة للمُكالماتِ المَحَليةِ والدَّولِية مَعاً . كانَ كثيرٌ مِن طُلابِ المَدْرسَة كِباراً حَجْماً وعُمرَاً - يعني تَعَدَّوْا عُمرَ المُتوسِطة وكان ينبغي أنْ يكُونوا في الثَّانوية ، لذلك كانُوا كَثِيرًا ما يَعتَدُون على المُعلِّمِين وخاصةً المَصرِيين ويَرفَعُونَ عَليهِم الأيْدي والكَراسي في " هوشات " حَامِية !!! شَهدتُ في أحَد الأيام " شَكلَتين " بين أسَاتِذة وطُلاب داخِل الفُصُول ، فغَضِبتُ غَضَباً شديداً وخَرَجْتُ مِن الفَصلِ مُباشَرةً ويَمّمْتُ صَوبَ مَكتَبِ المُدير ، وقلتُ له بانفِعال شَدِيد : " ياخي دي مدرسة شنو دي كلُّ يوم هوشة وهوشتين وكراسي ومُلاكَمة طُلاب مع المُدرِسين" فقالَ لي بِبُرودٍ شَديد : " ويش تَبغَاني أسَوّي لهم أجيب لي جاز أحْرِقهُم ؟"
! فقلتُ له بزَعلٍ شَديد : " لا بالله أدّيهُم الجَاز خَلِّيهُم يَحرِقوا المُدَرِسين " !!!! أي والله بِهذا المستوى !!! ثُمَّ صَفَعتُ بابَ مَكتبِه بِشِدَّة وخَرجتُ مِنه . وأحْكِي لكُم نُموذَجاً آخَر حَدثَ لي في مَدرسةِ الجُبيل المُتوسِطة . كنَّا في ذاتِ يومٍ نُوزِّعُ شهاداتِ نتائجَ امتحاناتِ الطُّلاب في نِهايةِ العامِ الدِّراسي . وكنَّا نَستَغٍلُّ شبابيكَ الفُصُول التي تُطِلُ على بَوابةِ المَدرسةِ الرَّئيسة حتّى يأخذَ كلُّ طالبٍ شَهادَته مِن خارجِ الفصول ويَتوَكَّل خارِجاً إلى البوَّابة دونَ أن يَرى الدَّاخِل . وكانَ كُلُّ رائِد فَصْل يَلزَم شُبّاكاً داخِل الصَّف ويَنتَظِر قُدُومَ طُلابِه أمامَ الشَّبابِيك مِن الخَارِج ، وكنتُ مِن ضِمن الرُّواد . كانَ عِندي طالبٌ إسْمُه " فَضُل " وكانَ راسّباً عِندي في اللُّغة الإنجليزية . فذهبَ أولاً لِيسألَ أستاذَ التَربِية الإسْلامِية السُّوري - واسُمُه " يُوسُف " - الذي قالَ له بِحُسنِ نِيَّة " إنت راسِب انجليزي "، فجَاءني " نافِخ رِيشُه " يحْمِل في يدِه مِقلمةَ أظافر كبيرة " ضَفَّارة " ووقفَ أسْفلَ الشُّباك وكانَ طَوَيلَ القَامَة لِحُسنِ حَظّي وسُوءِ حَظه . فقال لي : " والله ما انتَ بْرَجَّال يا أسُتاذ عُمر " ! باللَّهجَة السَّعودية طبعاً ، ثُمَّ كَرَّرها مرةً أخري وقَذفَ بالمِقلَمة ناحِيةَ وجْهي . زُغتُ مِن الضَّفارة وهجمتُ عليهِ وأمْسَكتُه من تَلابٍيبِ جِلبابِه السعودي الضِّيق وكانَ بالخَارِج وأنا بالداخل وهو يَتمَلَّص وأنا أشُدُّه بِكل قُوَّتي مِن الثَّوب حتى تَمزَّق بينَ يَدَي وحِينَها انفلتَ وفَرَّ هارِباً يَركُضُ نحو البّوابَة وهو نِصفُ عارٍ وبَقِيةُ الطُّلابِ الواقِفين عند الشبابيك يَضحَكونَ عليهِ باستِهزاءٍ .( أي والله العَظِيم حدثَ حقَّاً وصِدقاً ) .
وطبعاً بعدَ هاتَينِ الحَادِثَتين وضَعَني مُديرُ المَدرَسة في عَينِ العَاصِفة ، وما إنْ واتَتْهُ الفُرصَة حتَّى طَلبَ نَقلِي ، وطَبعَاً نُفِّذ طَلبُه وتَمَّ نَقلِي .
--------------------------------------
محمد عمر الشريف عبد الوهاب

m.omeralshrif114@gmail.com

 

آراء