نحن والعالم: سلوك دبلوماسي جديد

 


 

 

شغلت الزيارة التي قام بها القائم بالأعمال البريطاني والقنصل الفرنسي لعدد من أسر شهداء سبتمبر بال الصحافة السودانية على مختلف توجهاتها ، وطالب بعض كتاب الأعمدة بطرد الدبلوماسيين الغربيين بسبب تصرفهما "المجافي للأعراف الدبلوماسية" ، واعتبر الكثيرون منهم الزيارة تدخلاً سافراً في شؤون البلاد الداخلية.من جهته ، وصف رئيس البرلمان  الروفيسور ابراهيم أحمد عمر تصرف الدبلوماسيين الغربيين بأنه يمثل انتهاكاً لسيادة السودان وتدخلاً في شؤون البلاد الداخلية ، وقد كان ذلك هو رأي حزب المؤتمر الوطني الحاكم بالطبع. أما المعارضة فقد استنكرتمطالبة حزب المؤتمر الوطني باستدعاء الدبلوماسيين ومساءلتهما عن تصرفهما الذي لا يبدو أن المعارضة ترى فيه مجافاة للأعراف الدولية. وبينما رأت بعض أطراف المعارضة أن الزيارة كانت ذات طابع إنساني بحت بغرض مواساة أسر شهداء سبتمبروأنها لا تحمل أي دلالات سياسية ، فإن جانباً آخر من قوى المعارضة يرى أن اللوم يقع في المقام الأول على الحكومة نفسها إذ أنها كانت أول من بادر بتدويل قضايا السودان الداخلية. لم يقع نظر كاتب المقال على بيان من وزارة الخارجية يوضح رد فعلها على الزيارة التي قام بها الدبلوماسيان الأوربيان ، كما أن صفحة الوزارة على الانترنت لا تشير لاستدعاء أي منهما أو كليهما للاحتجاج على ما قاما به من تصرف. كانت وكالة الأنباء الحكومية "سونا" قد نقلت في وقت سابق عن الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية أن الوزارة تدرس الموضوع وأنها وستتخذ الموقفالمناسب حالما تكتمل التحرياتت التي تقوم بها وتتأكد المعلومات التي حصلت عليها ، بما يحفظ للسودان كرامته وسيادته وعدم التدخل في شؤونه الداخلية.

ولعل وزارة لخارجية تدرك بحكم متابعتها للتطورات الهائلة على الساحة الدولية بعد نهاية الحرب الباردة أن الممارسة الدبلوماسية بشكلها القديم قد ذهبت إلى غير رجعة ، وأن الحديث عن السيادة وعدم التدخل في شؤون الدول لم يعد يحتل نفس المكانة أو الأهمية التي كان يحتلها تحت ظل الحرب الباردة عندما كان العملاقان يتجاوزان عنالكثير من انتهاكات حلفائهما في مجال حقوق الانسان أو غيره من المجالات. بل إن الكثير من المحاولات لإدانة انتهاكات حقوق الانسان في بعض الدول وئدت داخل مجلس الأمن لعدم توفر التوافق بين الأعضاء الدائمين. وقد تحدث علماء السياسة الدولية عندئذٍ عما عرف في الممارسة السياسية على المستوى الدولي باسم "السيادة السالبة" وهي الاعتراف بسيادة الدولة على كامل ترابها الوطني حتى وإن كانت الحكومة القائمة عاجزة فعلياً عن ممارسة هذه السيادة في بعض أنحاء البلاد. ولعلنا لسنا في حاجة لأن نذهب بعيداً للبحث عن الدليل على ذلك فقد كانت الحكومات السودانية المتعاقبة في حالة حرب دائمة مع الحركات المسلحة في جنوب الوطن ، ولم تتمكن من فرض سيادتها كاملة على ذلك الجزء من البلاد إلا لسنوات محدودة بعد توقيع اتفاق أديس أبابا في عام 1972. لم يؤثر ذلك كما هو معلوم على وضع السودان كعضو بالأمم المتحدة والمنظمات الدولية والاقليمية الأخرى كدولة كاملة السيادة. غير أن قرار مجلس الأمن رقم 688 بتاريخ 5 إبريل 1991 يهدد بصورة واضحة مفهوم "السيادة السالبة" حيث قرر الحماية الدولية لمواطني شمال العراق وبصفة خاصة الأكراد الذين يشكلون غالبية السكان في تلك المنطقة ، وفتح الباب على مصراعيه أمام مختلف أشكال التدخل بواسطة الأمم المتحدة والدول العظمى في الشؤون الداخلية للدول المستضعفة بدعوى حماية السكان الذين يتعرضون للاضطهاد.

على ضوء قرار مجلس الأمن المذكور وما تبعه من خطوات فإن الممارسة والأعراف الدبلوماسية التي تم التوافق عليها والتي جاءت نتيجة لتراكم الخبرات على مدى أربعة قرون من ظهور الدبلوماسية الحديثة في أوربا الغربية تشهد الآن تطورات مهمة من حيث النظرية والممارسة. لم تعد سيادة الحكومات على أقاليمها ومواطنيها بذات القدسية التي كانت قائمة خلال الحرب الباردة ، لذلك فقد أصبح من الضروري أن تعيد الدول النظر في ممارساتها الدبلوماسية بالصورة التي لا تجعلها عرضة للانعزال عن أو المواجهة مع المجتمع الدولي. ومما لا شك فيه كذلك أن حقائق جديدة تفرض نفسها على الساحة الدولية لذلك فإن على كافة الحكومات أن تعيد النظر في تحديد أولوياتها فيما يتصل بالسياسة الخارجية ، والعمل على إعادة النظر في وسائل تنفيذ هذهالسياسات. ونسبة لأهمية استصحاب الرأي العام حتى لا تجد الحكومة نفسها في مواجهة مع مواطنيها ، فإن العمل على إشاعة الثقافة الدبلوماسية الجديدة في فترة ما بعد الحرب الباردة لا يجب أن تقتصر على الدبلوماسيين العاملين وحسب بل من الواجب العمل على نشرها على مستوى المجتمع ككل خاصة وأن المواطن العادي ومنظمات المجتمع المدني من أحزاب سياسية وغيرها أصبحت تكتسب يوماً بعد يومدوراً أكبر بكثير مما كان عليه الحال في الماضي القريب. 

mahjoub.basha@gmail.com

 

آراء