نِقوش على جِدار الحرب السودانية (5): حكومة بورتسودان

 


 

 

د. مقبول التجاني

فِي صبيحة يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣م، بعد إندلاع الحرب مباشرة، فِي العاصمة السودانية الخرطوم، أصيبت جميع مؤسسات الدولة السودانية، بحالة مِن الشلل التام، و الانهيار الكامل، و كانت الولايات البعيدة الأخرى، تعمل بصورة تلقائية فيجاتيتيفية.

فقد لازم إندلاع الحرب فِي الخرطوم، حدوث إنشقاقات رأسية و أفقية حادة، فِي جسد المنظومة السيادية و الأمنية فِي البلاد، و لم تقتصر تِلك الإنشاقات على التباعد و التناحر بين الجيش و الدعم السريع فقط، بل تعدتهم إلى إنشقاقات داخل مجس السيادة، و داخل هيئة أركان قيادة الجيش نفسها، و داخل منظومة الاستخبارات العسكرية، و جهاز المُخابرات العامة، و وزارة الداخلية.

أما بقية مؤسسات الدولة الأخري المدنية، فقد دخلت لفترة طويلة، فِي حالة مِن الصمت الغريب و الحياد السلبي، فِي إنتظار مُريب لمآلات الحرب و الصراع، و لمعرفة لمن ستؤول الأمور و الهيمنة فِي نهاية المطاف.

كان رأس الدولة السودانية، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، مُحاصر فِي البدروم، فِي مكتبه فِي القيادة العامة، لمُدة أربعة أشهر، و كانت بقية الولايات السودانية بمثابة جسد مقطوع الرأس، و مُصابة بحالة مِن الترقب الحَزِر و الزهول الشديد، و بفقدان التوازن.

البرهان لم يُقيل حميدتي مِن منصبه، كنائب لرئيس مجلس السيادة، إلا بعد أربعة أشهر، على إندلاع الحرب السودانية، و هذا الأمر العجيب يؤكد وقتها على غياب سُلطة الدولة الكامِلة، و على إنعدام الرؤية المستقبلية لمؤسساتها المُتبقية.

بعد سقوط الخرطوم فِي يد الدعم السريع، شَكَّلت مدينة بورتسودان الساحلية البعيدة، نقطة تجميع و منصة إنطلاق جديدة، و أتاحت فرصة ثمينة لإعادة تشكيل المؤسسات و السلطات الإتحادية المُختلفة، للدولة السودانية.

يُعتبر الفريق أول عبدالفتاح البرهان، هو المؤسس الثاني بعد كتشنر، للدولة السودانية، و ذلك بحكم الصدفة التأريخية، و لكنه للأسف مُحاط بمجموعات مُتناثرة و مُتناحِرة، مِن التشكيلات السياسية و الإجتماعية الضعيفة، ضيقة الأفق و التكوين، و ببقايا أبواق و فلول الإسلاميين العاجِزة، و بكرات لهب مُشتعِلة مِن الصياح و الجنون الإعلامي، و بحالة مِن الهيستريا و دخان اللايفاتية.

يحتاج السيد البرهان الآن، إلى إعادة هندسة المشهد السياسي فِي بورتسودان، حتى يتمكن مُجدداً مِن خلق إدارة سياسية و مدنية قوية، تكون قادِرة على إدارة الأزمة الشامِلة فِي البلاد، و قادِرة على إجتراح حلول سياسية، و التقريب بين الفئات المُتباينة، و مُساعدته فِي إدارة الشأن العام.

الطريق إلى ذلك المُربع السياسي و الوطني الجديد، يُمكِن أن يمر عبر مؤتمر قومي و شعبي، للحوار الحقيقي السوداني السوداني، ينعقد فِي مدينة بورتسودان، و تُشارك فيه مجموعات المُقاومة الشعبية مِن كل الولايات، و قطاعات المهنيين، و فئات المرأة و الشباب، و مُمثلين مِن الدُّول المُختلفة لسودانيي الخارِج.

يقوم هذا المؤتمر القومي و الشعبي، بعد الرجوع لدستور ٢٠٠٥ م، بإختيار مجلس تشريعي إنتقالي، و تعيين رئيس وزراء شاب، و تشكيل حكومة تنفيذية إنتقالية رشيقة، و التمهيد لقيام المؤتمر القومي الدستوري.

لتقوم بعد ذلك، الإدارة السياسية الجديدة فِي البلاد، بالتصدي للمشاكِل الإقتصادية و الخدمية المُختلفة للمواطنين، و بإدارة ملف التفاوض السياسي للحرب، حتى تتمكن قيادة الجيش، مِن التفرغ للعمليات العسكرية، و يبتعد السيد البرهان بعدها مِن الحرَّج السياسي المُباشِر، و مِن إبتزازات و نعيق اللايفاتية.

مِن حق الجيش السوداني الدفاع عن نفسه، فِي مواقِعه و حامياتِه المُختلفة، و مِن حقه أيضاً البحث عن سلاح و تمويل يُمكِنه مِن الصمود، و لكنه غير مُطالب فِي الوقت الراهَن، بتحرير جميع المناطِق التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع، و يجب عليه التحلي بالصبر و بالواقعية.

المُواطن السوداني البسيط، يحتاج الآن إلى مؤسسات قوية للدولة، و الدعم السريع عاجِز إلى الآن، عن تقديم نموزج حي للدولة فِي مناطِق سيطرته، و لذلك على السيد البرهان أن يقوم بمبادرة جريئة و سريعة، تُمكِنه مِن الحِفاظ على ما تبقى مِن جسد الدولة السودانية.

يظل التحدي الحقيقي، فِي قُدرة هذه المجموعات السياسية المُحيطة بالبرهان، على مُساعدته فِي إحداث هذا الإختراق السياسي الكبير و الهام، مع العلم أن أغلب هذه المجموعات و الشخصيات السياسية، هي مأزومة التكوين بالأساس، و كانت مُحيطة بالبشير نفسه أيام الحِّوار الوطني، و شكى وقتها البشير مِن تكالبها المحموم، و تهافت أياديها الطويلة على كيكة السُلطة الصغيرة.

كما أحاطت هذه الفسيفساء و القِوى السياسية المُتشظية، بالبرهان بعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، و فشلت وقتها في مُساعدته فِي تشكيل حكومة إنتقالية، و مِن ثَّم أفشلت الإنقلاب نفسه.

لكن يظل الأمل معقود، أن يحدث شيئ ما فِي بورتسودان، يُساهِم و لو بقدر بسيط، فِي تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين، و فِي حلحلة المشاكِل السودانية المُزمِنة، و يؤدي فِي النهاية إلى خلخلة المواقِف المُتحجرة، و مِن ثَّم إلى إيقاف الحرب الأهلية.

magboul80@gmail.com

 

آراء