هل تنقض كينيا غزلها؟

 


 

 



شهدت كينيا أحداث عنف قبلية مؤسفة بسبب التوتر الذي صاحب إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في نهاية عام 2006 ، والتي تقول المعارضة أنها قد شهدت عمليات تزوير واسعة. أدت الأحداث لمقتل ما يربو على الألف مواطن وتسببت في جرح وتشريد عشرات الآلاف ، وكان من نتائج تلك الأحداث انفجار العنف القبلي الذي ظلت كينيا في منأى عنه منذ استقلالها في مطلع الستينات من القرن الماضي بالرغم من الارتباط الوثيق بين القبلية والسياسة في ذلك البلد. كشفت الأحداث بوضوح لا لبس فيه عيوب المسرح السياسي  الكيني ، وخطر الاستقطاب على أساس قبلي وإثني مما حدا بالقوى السياسية المختلفة للتواضع على دستور جديد يضمن الحقوق الأساسية للمواطن أياً كان انتماؤه ويساعد البلاد على تجنب تكرار مثل تلك الأحداث المؤسفة. دعا الدستور المعني لقيام محكمة دستورية عليا وعدد من المفوضيات المهمة وعلى رأسها مفوضية الانتخابات ومفوضية الأراضي باعتبار أن الموضوعين كانا بدرجات متفاوتة من الأسباب الرئيسة وراء الأحداث. غير أنه بالرغم من الاحتفاء الدولي والمحلي بإجازة الدستور في عام 2010 ، إلا أن هناك من المتابعين من ينتقده باعتباره صناعة خارجية أشرف عليها السيد كوفي عنان وأن مشاكل كينيا المستعصية أكثر تجذراً من أن تتجاوزها وثيقة دستورية مهما كانت شموليتها.
جرت الانتخابات الرئاسية الأخيرة بكينيا في مارس من العام الماضي على ضوء الدستور الجديد ، وبالرغم مما اكتنفها من نواقص أدت لرفع الأمر للمحكمة الدستورية العليا بواسطة الطرف المتضرر وبالرغم من التوتر الذي ساد العملية برمتها ، إلا أن الأمور مرت بسلام وذلك بعد أن أعلن الخاسر وهو رئيس الوزراء رائيلا أودنقا القبول بقرار المحكمة الدستورية العليا والتي أفتت بصحة العملية الانتخابية وفوز غريمه أوهورو كينياتا برئاسة الجمهورية بفارق ضئيل من الأصوات. على عكس ما حدث في نهاية عام 2006 وبداية عام 2007 فقد جرت الانتخابات الأخيرة في أجواء من التفاؤل بأن البلاد مقدمة على مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي والانفتاح الديمقراطي ، وقد كان خلوها من العنف وقبول المعارضة بالنتيجة من الأسباب وراء التفاؤل بأن البلاد في طريقها لتجاوز محنتها.
غير أن العوامل نفسها التي قادت للعنف في عام 2007 ظلت تتفاعل تحت السطح ، إذ بالرغم من أهمية القضايا التي كانت محور التنافس بين الأحزاب إلا أن الوضع الذي نتج عن الانتخابات الأخيرة لم يأت مختلفاً عما كان سائداً في البلاد منذ استقلالها ولا زالت الحكومة والمعارضة تقومان بشكل أساسي على التحالفات القبلية ، لذلك فإن الكثير من المراقبين يرون أن الأزمة لا زالت تراوح مكانها. ولعل التباين الواضح في اتجاهات الناخبين في الحضر حيث ارتفاع الوعي السياسي ومركز الصراع والدعوة للمزيد من الانفتاح الديمقراطي ، والريف حيث الغالبية العظمى من المواطنين الذين يمثلون الثقل المطلوب للفوز بأي انتخابات زاد من تعقيد الأمور بصورة كبيرة. ولعل الناظر لتشكيلة البرلمان الحالي يدرك ذلك فالائتلاف الحاكم يتكون من 12 حزباً بينما يتكون الائتلاف المعارض من 7 أحزاب ، ومع أن حزب الحركة الديمقراطية البرتقالية برئاسة رائيلا أودنقا حصل على أعلى نسبة من المقاعد داخل البرلمان إلا أنه يجد نفسه حالياً خارج تشكيلة الحكومة.
كان من نتائج هذا الوضع أن نشأت الأزمة الأخيرة التي تجري الإشار لها باسم "سابا سابا" أي يوم السابع من الشهر السابع "يوليو" ، وذك عندما دعا رائيلا أودنقا لمواكب هادرة في هذا اليوم للتعبير عن غضب الشعب عن الأداء الضعيف لحكومة الرئيس أوهورو كينياتا في مجالات حيوية مثل تحقيق الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية والأمن. وقد اختار الائتلاف المعارض هذا اليوم بالذات لرمزيته القومية فهو يصادف التاريخ الذي بدأ فيه التحرك من أجل اسقاط نظام الحزب الواحد على أيام الرئيس الأسبق دانيال آراب موي في عام 1990 ، وقد كان رائيلا أودنقا الشاب في ذلك الزمان من المشاركين في ذلك التحرك. ولعل أودنقا أراد ان يؤكد أن الرئيس الحالي يمثل النقيض للأهداف التي قامت من أجلها حركة "سابا سابا" الداعية للديمقراطية وإشاعة الحرية والمساواة التامة بين مكونات المجتمع المختلفة ، فهو يسير في طريق والده جومو كينياتا الذي كان وراء انهيار النظام الديمقراطي الذي ورثته كينيا من الاستعمار البريطاني ، وأقام ديكتاتورية الحزب الواحد تحت قيادة الاتحاد الأفريقي الكيني الوطني "كانو". ويشير أودنقا في هذا الصدد للخطوات المحسوبة التي اتخذتها حكومة أوهورو كينياتا حتى الآن والتي تعمل أساساً على تقويض النظام الديمقراطي القائم على دستور عام 2010 ، حيث يشير إلى قانون الصحافة الذي أجازته الحكومة والذي يهدف إلى تقييد الحريات الصحفية على حد قوله ، بالاضافة لتعديلات في قوانين أخرى كقانون الشرطة ، وقانون مفوضية الأراضي من أجل إحكام قبضة الحكومة على الأمن والاقتصاد وتجريد المفوضيات التي سبق الاتفاق حول اختصاصاتها في إطار دسنور 2010 من صلاحياتها.
يدور جدل واسع في أجهزة الإعلام الكينية المختلفة حول مدى نجاح الدعوة التي أطلقها رائيلا أودنقا ، فقد كان المشاركون في الحشد الذي دعا له الأسبوع الماضي أقل بكثير مما ظلت تتحدث عنه دعاية حزبه ، ويبرر معسكر أودنقا ذلك بأن الحكومة قامت باستنفار أكثر من خمسة عشر ألف شرطي لمحاصرة المناطق المؤيدة لهم لضمان عدم مشاركة مواطنيها في  الحشد وعلى رأس هذه المناطق منطقة كبيرا في ضواحي نيروبي والتي يشار إليها باعتبارها أكبر موقع للسكن العشوائي في العالم. بالرغم من ضعف الإقبال على الموكب المذكور فإن القضايا التي أثارتها المعارضة تمس عصباًحساساً لدى الشعب الكيني وتثير قلق الحكومة. فقضايا الفساد ، والعطالة ، وعدم التوزيع العادل للأراضي الزراعية والتغول عليها من جانب الموسرين ، وانعدام الأمن كلها من القضايا التي تشغل بال المواطن الكيني في الوقت الحالي ويعني فشل الحكومة في معالجتها أنها غير قادرة على تصريف الأمور في البلاد بالصورة المرجوة مما سيضعها دائما في موقع الهجوم.
يمثل توفير الأمن أهم القضايا التي يشكو منها المواطن الكيني في الوقت الحاضر ، فمنذ نجاح القوات الكينية في هزيمة تنظيم شباب المجاهدين الصومالي وإخراجه من معقله في ميناء كسمايو قبل عامين من الآن أضحت الأراضي الكينية مسرحا لعمليات إرهابية متواصلة. فقد شهدت البلاد عدداً من العمليات الإرهابية الخطيرة التي راح بسببها الكثير من الضحايا ولعل أهمها عملية متجر ويست قيت في سبتمبر 2013 ، وعمليتا مدينة مبيكيتوني في منطقة الساحل. وبالرغم من محاولات الحكومة الكينية التقليل من شأن هذه العمليات أو نسبتها لخلافات بين بعض مكونات المجتمع الكيني ، إلا أنها تركت الكثير من الآثار المدمرة لسمعة الحكومة ومقدراتها على توفير الأمن للمواطن خاصة وأن بعض المغامرين تمكنوا من مهاجمة مخافر للشرطة وقاموا بالاستيلاء على السلاح الموجود فيها. ولعل انعكاس هذه العمليات على قطاع السياحة الي يعتبر مصدر الدخل الأهم في البلاد وعلى الوضع الاقتصادي بصفة عامة بعد أن حذرت الدول الغربية مواطنيها من زيارة كينيا زاد من محنة الحكومة واتهام أجهزة الأمن بالعجز. ولم يكن من المستغرب أن يربط الكثيرون بين هذه الأحداث وبقاء القوات الكينية في الصومال ، خاصة وأن تنظيم الشباب المجاهدين هدد بأنه سيستمر في تنفيذ المزيد من العمليات إن لم يتم سحب القوات الكينية من الصومال. لم يكن مستغرباً لذلك أن يطالب التحالف المعارض خلال موكب "سابا سابا" بانسحاب القوات الكينية من الصومال وهو الأمر الذي رفضه وزير الدفاع رفضاً باتاً. ولا شك أن الحكومةالكينية تجد نفسها الآن في موقف لا تحسد عليه ، فإن هي استجابت لمطالب المعارضة وتنظيم الشباب المجاهدين فإن ذلك سيؤدي دون أدنى شك لانهيار الائتلاف الحاكم ، وإن هي أصرت على موقفها الحالي فقد تجد نفسها في مواجهة تراجع واضح في كل المؤشرات الاقتصادية للبلاد. من ناحية أخرى ، فإن الأمر لا يخلو من جانب يرتبط بعلاقات الحكومة الكينية الخارجية حيث تنظر الدول الغربية التي تمثل الصديق التقليدي للبلاد بقلق شديد تجاه توجه حكومة كينياتا نحو الصين الشعبية.
يرى بعض المراقبين أن المشاكل العديدة التي تواجه الحكومة الكينية في الوقت الحاضر قد تدفع بها للسعي نحو تشديد قبضتها على الأوضاع الداخلية ، مما يعني التراجع عن عدد من المكاسب التي حققها المواطن بإجازة دستور 2010. ولعل النقاط الثلاثة عشر التي أعلن عنها تحالف الاصلاح والديمقراطية في موكب السابع من يوليو تشير صراحة إلى أن الحكومة الكينية قد بدأت فعلاً في نقض غزلها والتراجع عن بعض هذه المكاسب. ومما لا شك فيه كذلك أن التوتر الأمني المزعج المتمثل في الأحداث العديدةة التي شهدتها البلاد مؤخراً وتفشي البطالة ينذران بخطر وقوع  اضطرابات سياسية وقبلية قد تعيد للأذهان ما جرى في أعقاب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في عامي 2006 و2007.

mahjoub.basha@gmail.com
//////////

 

آراء