هل كانت حركة اللواء الابيض خطأ تاريخيا فادحا؟

 


 

 




مدخل الى مجتمع ودولة التعاقد في السودان (الحلقة الرابعة)

د-عبدالسلام نورالدين

abdelsalamhamad@yahoo.co.uk

-1-
انسلت الحركة السياسية  السودانية  التي ترقرقت مساربها الاولى  اثناء وبعيد الحرب العالمية الاولى  ثم تلاقت روافدا لاحزاب لها عدد  بعد الحرب العالمية الثانية  وقد أل اليها الحكم أخيرا  في دولة ما بعد الاستعمار  من تجاويف المؤسسة السودانية ولا يستقيم تصور هيكل الحركة السياسية دون اضافة الفئات والطبقات الحديثة التي اضفت ابعادا والوانا جديدة الى تشكل لوح ذلك الهيكل السوداني   وفي مقدمتها - فئة أو طبقة  الافندية - التي انبعث  من طين  تخلقها  المتدرج  منذ مطلع القرن 1900"  وحتى  الربع الاول من القرن العشرين  قادة وجماهير ثورة 1924  التي اضحت المرجعية الثابتة في حراك وتدفق الزخم  في الحركة الوطنية في شقها الذي يعود  بنسبه الأجتماعي والسياسي  الي الافندية.
قد اصيبت البنية الاجتماعية  والذهنية  لفئة  الافندية  بتشقق  وتباين  في الرؤى والتوجهات  بعد الهزيمة الساحقة التي لحقت باللواء الابيض  في مواجهة مع الجيش البريطاني ولا مبالاة  من طرف القوات المصرية التي شحذت وحرضت وتبدت معركة مستشفى النهر  التي دخلت تاريخ  الربع الاول من القرن العشرين  في ذلك الجزء من العالم  وكأنها عملية انتحارية  صرفة الشئ الذي دفع بسؤال خافت ان يرشح  -هل كانت  كل الحركة  بمقدماتها وليست المواجهة العسكرية وحدها خطأ تاريخيا فادحا  حينما تبنت أجندة  وتصورات الحركة الوطنية المصرية  للسودان  ولم تقف على مسافة واحدة من شريكي الحكم الثنائي البريطاني والمصري؟ وايا كان الجواب  فقد تكفلت طلائع الافندية وجماهيرها في المدن بتسديد فاتورة الفشل  التي استنزفت جسدها وعقلها وروحها لاكثر من اربعة عشر عاما  حسوما (1924 -1938 ) حتي تأتى لها  رغم  الوهن  الذي لازم مسارخطاها وعقلها  أن تقف على قدميها  بتوجة يرجح كفة التصالح  والتوافق  والتراضي علي التواجة  طبع حركة الخريجين  منذ نشأتها  في عقد الثلاثين من القرن الماضي  لخصها الدكتور بشير  البكري -في  كتابه من هنا نبدأ ص410" أما الميزة الثانية للحركة الوطنية في السودان  فهي انها لم تكن حركة دموية بل كانت حركة سادتها روح   المصالحة والتالف  والتوافق وقد بدا ذلك في كثير من المواقف التي يذكرها اسماعيل (العتباني) في تراثه اذ روى اختلاف الراي بين فريق ابراهيم احمد  هذا السوداني الكبير وبين يحي الفضلي هذا الشاب الثائر التي انتهت بالمقاربة والمصالحة علي الرأي الوسط, كذلك  كان اللقاء بين كبار القوم وشيوخهم واسرهم وبين الاتجاهات الشابة التي انتهت دائما الى المصالحة والوفاق "
-2-
الغياب الكبير :العقد الاجتماعي & المشروع القومي الشامل
لقد عجزت الحركة الوطنية   تلك التى أعلنت وجودها المنظم بمؤتمر الخريجين  فى 1938م  وشكلت لها بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها - أحزاباً  سياسية ومؤسسات مدنية – من نقابات واتحادات وروابط وجمعيات منذ عام 1945م  وانتسبت  عبر  الاحتواء  المتبادل  والتصالح  والتراضي الى  المؤسسة السودانية بتقاليدها  واصولها الضاربة في نزاعات الشركاء في الحكم الثنائي  وقد قيض أن يتحقق بمشيئأتيهما  المشتركة الأستقلال في 1956م -لقد عجزت   أن تقدم مشروعا  قوميا شاملاً  للنهوض والتنمية البشرية المتواصلة أذ غاب عن افقها هشاشة الدولة القومية بعمرها القصير في السودان وغاب عن افقها ايضا التعدد والتنوع الذي يسم البناء القومي والديني والثقافي واللغوي   والشأن كذلك تحول الأستقلال إلى غنيمة  تتجاذبها وتتنازعها الأطراف النافذة في المؤسسة السودانية  التي تمثلها  الفئات التالية :
1.    قيادات الطائفية وصفوه  المتعلمين والمثقفين في احزابها.
2.    قيادات الخدمة المدنية والعسكرية )الافندية)
3.    رجالات الإدارة الاهلية .
4.    بيوتات الطرق الصوفيه
5.    رأسمالية  تجاره  الصادر والوارد وملاك مشاريع القطن في النيل الابيض والزراعه الاليه  في القضارف والدالي والمزموم.
بررت الحركة الوطنية التى آل  اليها الاستقلال عزوفها عن التصدى لقضايا البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي  ذات الطابع القومي الشامل في وطن متعدد القوميات والاديان والأعراق  والثقافات واللغات  -  أن المرحلة تقتضى تحريراً من الاستعمار وازالة  عقابيل مخلفاته  وليس  تعميراً أوتنميه وقد شجعها وغرر بها آنئذ  ( 1956  ) ان عدد السكان  كان صغيراً (13 مليون) فى بلد متعدد الموارد كبير المساحة ( واحد مليون ميل مربع-عاشر قطر في العالم) -  إذ كان السودان جزءاً  من الاقتصاد العالمي وقد عززالازدهار – الاقتصادي  BOOM إرتفاع اسعار القطن في البورصات العالمية  نتيجة الحرب الكورية 1953  وقد واكب ذلك  صعودا في الحركة الوطنية (  الاتفاقية 1952) وتراجعا من قبل البريطانيين  فى وجه التقدم الحثيث  لقوي الاستقلال، الامر الذي ثبت  انطباعا  خاطئا – بتلازم ما بين حركة التحرير ودوام    تلقائية الازدهار الاقتصادي الذي  يضرب  بجذوره في الخطوط الحديدية ذات الكفاءة العالية – ومشروع الجزيرة  والزيداب  واروما  ومؤسسة جبال النوبة في جنوب غرب كردفان بادارات مستقله ويرعى كل ذلك  جهاز رفيع للخدمة المدنية – ونظام تعليمي يسير على ضوء  مناهج التعليم العام فى بريطانيا .
افضى شد التجاذب والتنازع الملحاح للفئات الآنفة الذكر في تداخلها  تحالفاً وتضاربا  مع بعضها البعض ومع قوى المجتمع المدني-صغير الحجم- وضده في ان واحد الى سباق مبادلة اعمي  للهيمنه علي السلطة والثروة فى السودان وكانت النتيجة دورات محمومه من الانقلابات العسكرية تعقبها انتفاضات مدنية عارمه تطيح بها من جديد ذات الانقلابات    بيانات  تعيد انتاج نفسها بديباجات ذات طابع هلامي.
وكانت محصلة تنازع نخبة  المؤسسة السودانية وسباق مبادلتها صوب السلطة والثروه ان قد خرج السودان من خارطه الاقتصاد العالمي  واهملت مرافق ومؤسسات الانتاج الاساس: الكهرباء- الخطوط الحديديه- المشاريع الزراعيه الكبري والمصانع التي تنشأ عاده مع بدايه كل دوره عسكريه جديده وانتفاضه مدنيه ثم تذوي رويدا لتموت بعد حين  .
لم يعرف السودان منذ الاستقلال 1956  تلك التي يطلق عليها –التنمية المتواصله وتركزت خدمات الماء والكهرباء والتعليم والصحة والمواصلات  ووسائط الاعلام والبنوك والحراك الثقافي في محور   دنقلا – كوستي – سنار لتوفر البنية التحتية  والقاعده الانتاجيه(  مشروع الجزيرة – توليد الكهرباء – الطرق - والخطوط الحديدية النقل النهري والجوي– والتعليم  وشيئا من التجانس الاثني في بنيات قوى الحداثة ) واهملت بدرجات متقاوته – بعداً وقرباً  من ذلك المحور  كل اقاليم السودان - اقصى الشمال -  الشرق – الغرب – والجنوب , وكانت النتيجة  اقصاءا وحرمانا  شبه  كامل لكل اقاليم السودان الشمالي المسلم الذي يقع خارج المحور  المختار  ثم اندلعت   الحرب  مع جنوب السودان  فى عشية الاستقلال 1955  لستنزف موارداً بشرية ومادية  كانت كافيه لتنمية ذلك الاقليم   ، الجدير بالذكر   ان قد اصاب " الخدمات فى المثلث المختار نفسه " تدهور ا ملحوظا حيث  ضجت  واحتجت فئات العاملين في حاضره البلاد والمدن الكبري من تدني معيشتها واسلوب حياتها   وكان من  النتائج الوخيمه التي ترتبت علي ذلك  العجز والاهمال في تداخل مع سباق المبادله  المحموم لفئات الصفوه  شطر السلطه والثروه ما يمكن ايجازه في التالي:
1-أغفال كامل لحمايه البيئه الطبيعيه وتنميتها  مع التخلي في ذات الوقت عن مكافحه افات الزراعه والحيوان سيما في اقاليم الري المطري  في شمالي كردفان ودارفور  مما افضي الي مزيد من التصحر  والجفاف مع تدهور للتربه بوتائر عاليه وكان طبيعيا  ان تتقلص مساحات الرعي والزراعه والتحطيب وان يختل التوازن البيئي  والسكاني وان يؤدي ذلك في سياق مجتمع تحوز فيه القبائل الارض والكلأ ومساقط المياه  ان  تتفجر النزاعات والحروب حول ملكيه الارض والمراعي والماء والنفوذ في سياسه الديار وكان ذلك جليا في جنوب النيل الابيض وشرق النيل الازرق وشقيق الماجديه وجنوب كردفان ودارفور وشرق السودان كما قد أشارت مرارا وتكرارا تقارير مصلحه المراعي والعلف في مطالع عقد السبعين 1970. لم تك الدوارات المتسارعه للمجاعات  التي تخلف مواسم الجفاف المتعاقبه واكثرها سوءا في الصيت مجاعه 1985-1993 سوي التعبير المأساوي عن الخلل الذي اصاب البيئه والسكان في غياب  خدمات الدوله ومسؤوليتها وفي حضور طاغ لراسمالية الزراعة الالية  .
2--أطلقت دوله  المؤسسة السودانية يد تجارها في كردفان ودارفور وشرق السودان فعاثوا نهبا في الموارد( المحاصيل بانواعها والثروه الحيوانيه والتمباك في دارفور والكروم والمعادن في شرق السودان)  أما ملاك مشاريع الزراعه الاليه في القضارف ,الدالي والمزموم –جنوب كردفان-جنوب دارفور فقد قدموا شهاده    حيه ان دمار البيئه  وصناعه التعاسه لمئات الالاف من السكان المحليين    كان مصدرا لثرائهم  وسعادتهم علي المستوي الخاص اذ كانت  تقوم بتصدير وتهريب  ملايين الاطنان من الذرة  الي دول الجوار  في ذات الوقت  الذي تستنهض فيه منظمات الاغاثة الدولية  قوي الخير في العالم لانقاذ السودانيين  من اهوال المجاعات .
3-لم تكتف الفئات التي ال اليها الاستقلال ان تنصرف عن تنميه البيئه واقتصاديات المجتمع فحسب ولكنها  انكرت أيضا هويه السودان   التعدديه( متعدد الاعراق-متعدد القوميات-متعدد الاديان-متعدد الثقافات-متعدد اللغات-  لغه130) وابتسرت كل ذلك في دين واحد ولغه واحده وثقافه واحده-الاسلام والعروبه. ويبدو أن ذلك الانكار كان مستبطنا  لدي القوى التي أل اليها الاستقلال حينما أكتفت من مفهومها لتقرير المصير الذي رفعته ابان  المحاورات والمداورات  مع مصر  التي تدعي لها حقوقا في السودان حول الاتفاقية 1952 باعلان الاستقلال من داخل البرلمان وكان من شأن حق تقرير المصير اذا سارت فيه الاحزاب الاتحادية الى نهايته المنطقية ان يفضي الى حاجة شعوب السودان الى عقد جديد  بينها يجسد خيارها في الوحدة الطوعية أو يتكشف لكل الاطراف المعنية بالعقد الاجتماعي  أن لا سبيل للعيش معا في وطن واحد وعليهم جمعيا البحث عن افضل الوسائل للتعيش بسلام وتعاون  كدول متجاورة.
تفاعلت مازق غياب التنميه المتواصله مع الدمار الذي لحق بالبيئه والانسان مع النهب المنظم  تحت الحمايه المباشره لمركز  المؤسسة السودانية وافضت   الي انهيار مجتمع المنتج الصغير في شمال كردفان وفي شمال دارفور  حيث لم تبق سوي خيارات جد محدوده  وكلها تعيسه لسكان تلك الاقاليم كالهجره الداخليه والخارجيه والنهب المسلح او الانضواء في جيوش الارتزاق التي تمولها الدول المجاوره  ولما كان ذلك  قد تم  في سياق  الحاق وابتسار كل القوميات والثقافات   والاديان واللغات السودانيه في لغه وثقافه ودين وقوميه المركز( المؤسسة السودانية ) العربيه الاسلاميه  التي لاتتجاوز وسط شمال السودان  فقد قاد ذلك الي أزمه عامه في الهويه والمواطنه والوجود الاجتماعي انتظمت كل السودان افرادا وجماعات واعراق وقوميات وشرائح وفئات وطبقات اجتماعيه واقاليم وليس  اللجوء الى اشهار السلاح   الذي سرى  في كل  مرابع  السودان  كالنار في  مستودع القصب  الجاف  سوى صرخة  من غاضب   في أذان  الذين جعلوا  اصابعهم في اذانهم  واستغشوا ثيابهم- أن  قد طفح الكيل  ولم يبق في قوس الصبر منزع .
**
د-عبدالسلام نورالدين
abdelsalamhamad@yahoo.co.uk

 

آراء