هل يعقب الحرب في السودان انتقال أم تأسيس؟

 


 

 

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري - الخرطوم

يمثل توازن القوى في السودان بين الأوضاع السائدة أثناء الإحتراب المدمر بين الجيش والدعم السريع وبعد انتهائه العامل الأبرز في تحديد مسارات الفترة الانتقالية القادمة. حيث يشار إلى ثلاثة سيناريوهات نموذجية مختلفة تطرح نفسها بحيث يفرز كل منها ثلاثة أنواع مختلفة جوهرياً من بنود اختصاص الانتقال القادم. وتشمل هذه السيناريوهات:
أ. انتهاء الصراع بانتصار عسكري حاسم لجانب من جانبي الصراع المسلح (على سبيل المثال، نهاية نظام منجستو في إثيوبيا عام 1991، وانتصار التوتسي على الهوتو في رواندا عام 1994).
ب. توافق بين الجانبين بحيث يلعب المنتصر جزئياً دوراً حاسماً في نهج الانتقال (على سبيل المثال، الاتحاد السوفييتي السابق).
ج. التفاوض على تسوية بين طرفي الصراع لفشل كلا الجانبين في تحقيق سيطرة مطلقة. وفي هذه الحالة يتم التفاوض على مسارات ومآلات الفترة الانتقالية (على سبيل المثال، جنوب أفريقيا).
ونظراً لأن المفاوضات التي شهدها السودان منتصف عام 2019 قد نتج عنها طغيان جانب العسكريين بعد سقوط النظام السابق، فإن الاستياء الكامن لدى الجانب الآخر من الصراع المتمثل في قوى الحرية والتغيير قد أعاق الانتقال نحو التحول الديمقراطي. وأدت تراكمات الاحتباس السياسي الناجم عن الصراع إلى انقلاب أكتوبر2021، وفي نهاية المطاف لحرب أبريل 2023.
وفي المقابل، عندما تنصهر جوانب الصراع في شراكة حقيقية عبر حوار وطني لإنتاج مرحلة انتقالية وطيدة ومتماسكة ـ كما كان الحال في جنوب أفريقيا ـ فإن أمكانية تجاوز مرحلة الصراع بتحقيق السلام المستدام تصبح هي الأرجح. وفي هذه الحالة تمثل المرحلة الانتقالية مجرد "جسر" مصمم هيكلياً لعبور السودان من الصراع للسلام ثم التحول الديمقراطي، دون تحميل هذا الجسر أكثر من طاقته التصميمية بما يؤدي لانهياره. ولعل من أبرز قضايا الحوار الوطني خلال الفترة الانتقالية القادمة هو الاختصاصات والمهام المسندة للفترة التي تعقب انتهاء الصراع المسلح – هل هي "انتقال" نحو التحول الديمقراطي؟ أم "تأسيس" الدولة السودانية؟
وتقتضي الإجابة المستنيرة على التساؤلات المصاحبة لهذين الخيارين التأمل الحصيف في طبيعة شرعية سلطات الانتقال القادم بعد انتهاء الصدام المدمر بين الجيش والدعم السريع، الذي أحيل فيه الشعب السوداني المفجر لثورة ديسمبر إلى فريسة للمتقاتلين. ذلك أن الممارسات المتعارف عليها في أدبيات ما بعد الصراع في جميع أنحاء العالم تؤكد أن "تأسيس" الدولة خلال الانتقال لا يمكن تحقيقه إلا عبر الشرعية الثورية، التي كانت قد فقدت صلاحيتها في السودان بتجاوز عمر ثورة ديسمبر الشعبية لأربع سنوات، أو عبر قوة السلاح فاقدة الشرعية بغض النظر عن المنتصر بين الجيش والدعم السريع.
ونظراً لفقدان "الشرعية الثورية" لصلاحيتها منذ انقضاء بضعة أشهر على نجاح ثورة ديسمبر الشعبية في الإطاحة بالنظام السابق، فإن الذي يحل محلها منطقياً هو "شرعية المؤازرة الشعبية" التي تتأتى بالتوافق على "عقد اجتماعي" مستوحى من أهداف ثورة ديسمبر. ولا يحل محلها بتاتاً ما يُسمى "الشرعية التوافقية". وينطوي هذا "العقد الاجتماعي" على مجابهة تحديات الانتقال المتراكمة التي ظل يعاني منها الشعب السوداني. وذلك باجتناب واتقاء مكابدة تعقيدات الشرعية "لتأسيس السودان الجديد" التي تقود حتماً لتواصل فشل الانتقال نحو التحول الديمقراطي بتأجيج صدام مسلح أوسع نطاقاً وأفدح خسائراً. وتشمل بنود هذا العقد الاجتماعي، فيما تشمل:
• وقف الأعمال العدائية بين المتصارعين.
• الالتزام بمبادئ الحرية والسلام والعدالة لثورة ديسمبر 2018.
• تفكيك نظام الثلاثين من يونيو1989 وفقاً للقانون.
• مراجعة اتفاقية سلام جوبا.
• التسريح ونزع السلاح وإعادة الإدماج.
• تكوين جيش سوداني واحد وموحد يشمل الدعم السريع والحركات المسلحة.
• تحقيق العدالة الانتقالية.
• عودة اللاجئين والنازحين.
• إرساء أسس الدولة المدنية الفاعلة.
• تحقيق الاندماج المجتمعي وإدارة العلاقات المجتمعية.
• توفير الوظائف للشباب.
• الإيفاء بحقوق المرأة.
• ترسيخ علاقات إقليمية ودولية ترتكز على تحقيق المكاسب المشتركة (Win-win).
• الشروع في تحقيق الانتعاش الاقتصادي.
• تهيئة البيئة الصالحة لقيام انتخابات حرة ونزيهة.
ذلك أن الممارسات الجيدة في العديد من البلدان الخارجة من الصراع قد أكدت أن ما يسمى "الشرعية التوافقية" ما هي إلا مجرد غطاء لفرض رأي سلطة الأمر الواقع، مثل ما حدث في حوار الوثبة إبان النظام السابق. وفي بعض الحالات فرضت "الشرعية التوافقية" رأي السفارات المتنفذة في تلك الدول الخارجة من الصراع.
ولا يغيب على السودانيين أن محاولة "تأسيس السودان الجديد" عبر سلاح الحركة الشعبية لتحرير السودان قد أدى لانفصال الجنوب في عام 2011، عقب فترة انتقالية دامت ست سنوات طغى عليها نظام الإنقاذ السابق. ونتج عن ذلك "ترسيخ السودان القديم"، بدلاً عن "تأسيس السودان الجديد"! وتشير الدلائل إلى تواصل خطل "التأسيس" خلال فترة الانتقال حتى بعد انفصال الجنوب عندما استخدم نفس سلاح الحركة الشعبية لتحرير السودان في عام 2013 لمحاولة "تأسيس جنوب السودان الجديد" بعد عامين فقط من احتفال "تأسيس" الدولة الوليدة في عام 2011، حيث دام ذلك الصراع المسلح خمس سنوات سقط خلالها مئات الآلاف من القتلى.
إن الفترة الانتقالية بعد هذه الحرب المدمرة بين الجيش والدعم السريع لا تعدو عن كونها جسر عبور واهن نحو التحول الديمقراطي، معرض للانهيار إذا حُمّل فوق طاقته التصميمية التي لا ينبغي أن تتجاوز تنفيذ العقد الاجتماعي بين سلطة الانتقال المدنية والشعب. ويماثل تلك الحمولة الفائضة عن الحاجة أيضاً تحميل الفترة الانتقالية مشروعات "نهضوية" اشتهائية لا تقوى على تنفيذها. ونظراً لهشاشة هذه الفترة فإن المشروعات "النهضوية" خلال الانتقال تمثل "إفراطاً" بنفس القدر الذي تمثل فيه المهمات "التأسيسية" خلال الانتقال "تفريطاً".
خلاصة القول إن محاولة إغراق الفترة الانتقالية بمهام "تأسيس السودان الجديد" يمثل تمريناً نخبوياً لا يستند إلا على شرعية السلاح، فضلاً عن كونه قصير الأجل تجُبُّه حتماً السلطة المنتخبة بعد انتهاء الفترة الانتقالية. ذلك أن "التأسيس المستدام" للسودان الجديد لا يتم إلا عبر سلطة منتخبة تعقب إنجاز الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسلام عبر فترة انتقالية رصينة ومتماسكة لا تقل مدتها عن خمس سنوات، يقودها مدنيون مستقلون ويحميها جيش واحد موحد، ويتم خلالها تنفيذ العقد الاجتماعي بين السلطة الانتقالية والشعب.
melshibly@hotmail.com

 

آراء