هوامش ومتون حول القمة العالمية لمجتمع المعلومات بجنيف

 


 

 



بينما تتهادى الطائرة التركية المقلة لنا فى طريقها للهبوط فى مطار جنيف الساحرة الخضراء، لم أملك إلا ان أسبح بحمد الله عز وجل وأحمده وأنا اجيل البصر والنظر فى سهوب وسهول سويسرا الخضراء وجبالها وتلالها المجللة بالثلوج وبحيراتها الباذخة الجميلة... هذه هى الزيارة الاولى والقصيرة لسويسرا .. لم تتعد أيامها الستة ولياليها الخمس إلا أنها كانت مليئة بالمتعة والمعرفة والعلم والوعى بالاحداث التى تصنع المستقبل، فقد رأينا رأي العين فى قاعات الاتحاد الدولى للاتصالات المضيف والمنظم للقمة العالمية لمجتمع المعلومات، كيف ُيصنع المستقبل من خلال تسخير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لصالح الإنسان فى مدنه وحضره وريفه وقراه، فى الزراعة والتعليم والتدريب والطب والمعاملات الحكومية وحماية الطفولة والعناية بالمرأة والشباب، بل وفى تشجيع مجتمعات السكان الأصليين على الحفاظ على ثقافاتهم ولغاتهم وتقاليدهم من الاندثار، وغيرها من مجالات الحياة البشرية المختلفة.
مدينة جنيف تقع في الحزام الناطق باللغة الفرنسية من سويسرا، وهى قريبة للغاية من الحدود الفرنسية، لدرجة أن العديد من العاملين بها يسكنون فى الجانب الفرنسي لرخص الحياة والايجارت به مقارنة بجنيف، أما درجة الحرارة فى جنيف فى هذه الايام فتتراوح بين 13 إلى 15 درجة مئوية، والأمطار تهطل فى معظم الأوقات بلطف وبدون استئذان.. والمدينة بالطبع جميلة بل باهرة الجمال ونظيفة ومرتبة، والحياة تمضى فيها بدقة وترتيب كدقة الساعات السويسرية المشهورة، أما بحيرة جنيف المشهورة فهى المركز والبؤرة التى تنطلق منها الحياة فى هذه المدينة السويسرية الساحرة، ويتناثر سكان المدينة وسواحها حول حواف البحيرة وحدائقها الغناء ونافورتها الشهيرة، إلاّ أن مدينة جنيف فى المقابل تبدو غالية فاحشة الغلاء، ويبدو انها مصممة لسكانها وقاطنيها من منسوبى المنظمات الدولية ومنظمات الأمم المتحدة والاثرياء الذين يفدون إليها من مختلف بقاع العالم للاستمتاع بطقسها الساحر ومناظرها الخلابة وحياتها المرفهة ومصارفها الآمنة بالغة السرية.. الأمم المتحدة ومنظمات الأمم المتحدة تحتل حيزاً كبيراً من المدينة، فتجد هنالك مبنى عصبة الأمم ومبنى الأمم المتحدة بجنيف، كما يمكنك أن تشاهد وأنت تتجول فى حى الأمم المتحدة المبانى الباذخة والعتيقة أحياناً لمنظمات الأمم المتحدة البالغة التأثير وذات السطوة والنفوذ على مستوى العالم مثل منظمة الصحة العالمية، الاتحاد الدولى للاتصالات، اليونيسف، منظمة العمل الدولية، المفوضية السامية للاجئين، منظمة الملكية الفكرية «الوايبو» وغيرها من المنظمات ذات الأثر والتأثير الضخم في مجمل حياة البشرية كالصليب الأحمر ومنظمة الهجرة الدولية إلخ.
أما القمة العالمية لمجتمع المعلومات، فهي كما جاء فى الموقع الإلكترونى للقمة فهي قمة لزعماء العالم الملتزمين بتسخير إمكانات الثورة الرقمية في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لخدمة البشرية. وهي تمثل عملية تعددية حقيقية لأصحاب المصلحة الذين يشملون الحكومات والمنظمات الدولية الحكومية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني. وهدف القمة هو «بناء مجتمع معلومات جامع هدفه الإنسان ويتجه نحو التنمية، مجتمع يستطيع كل فرد فيه استحداث المعلومات والمعارف والنفاذ إليها واستخدامها وتقاسمها، ويتمكن فيه الأفراد والمجتمعات والشعوب من تسخير كامل إمكاناتهم للنهوض بتنميتهم المستدامة ولتحسين نوعية حياتهم». ووفقاً للقرار 56/183 للجمعية العامة للأمم المتحدة فقد تم تنظيم القمة العالمية من مرحلتين ــ جنيف 12ــ10 ديسمبر 2003م وتونس 18 ــ 16 نوفمبر 2005م، وكُلّف الاتحاد الدولي للاتصالات بولاية أداء الدور الرائد في الأعمال التحضيرية بالتعاون مع الجهات المهتمة الأخرى من المنظمات والشركاء.
لهذا فقد جاءت القمة العالمية لمجتمع المعلومات التى انعقدت أخيراً بجنيف فى الفترة من 13ــ17/5/2013م مواصلة لأعمال القمتين العالميتين وتنفيذاً لقرارتهما بالانعقاد السنوى بجنيف لمتابعة تنفيذ الجهود الدولية فى ردم الهوة الرقمية بين الشمال والجنوب، والتوصل إلى صيغة متفق عليها لإدارة جماعية لشبكة الإنترنت، ومواصلة النقاش والحوار حول العديد من القضايا المهمة فى هذا الاطار، وقد شارك فى أعمال القمة «1800» مشارك يمثلون «140» دولة، منهم حوالى «80» وزيراً ووزير دولة والعديد من السفراء والمديرين التنفيذيين لكبرى الشركات والمؤسسات العاملة فى مجال الاتصالات والمعلوماتية، فضلاً عن قادة المجتمع المدنى ومنظماته، كما أن هنالك العديد من المشاركات تمت على البعد من شتى بقاع العالم عن طريق المؤتمرات المتلفزة بوسائطها المتعددة.
وامتدت القمة العالمية لمجتمع المعلومات على مدى خمسة أيام، وكانت حافلة بالأنشطة والفعاليات المختلفة، فبالإضافة للمعارض ومعرض الاتحاد الدولى للاتصالات كانت هنالك مئات السمنارات وورش الأعمال والاجتماعات المتخصصة، ونسبة لازدحام البرنامج وكثرة أعداد المشاركين فقد كان على المرء أن يختار بعناية المناشط التى يرغب فى المشاركة فيها، واللهث فى معظم الأحيان بين بنايات الاتحاد الدولى للاتصالات وقاعاته التى تبدأ تحت الأرض وتنتهى بالطوابق العليا فى بنايات الاتحاد وعمائره المتعددة، فى برنامج عمل يبدأ من الساعات الباكرة من الصباح ويمتد حت السادسة مساءً يومياً.
ومثَّل الوفد السودانى عدد مقدر من المشاركين كان أبرزهم دكتور عيسى بشرى وزير العلوم والاتصالات، ووفد الهيئة القومية للاتصالات برئاسة المهندس نادر الجيلانى، ووفد المركز القومي للمعلومات برئاسة المهندس مبارك محمد أحمد، ودكتور محمد فضل الله من مفوضية العون الإنسانى، ودكتور أحمد حسن من الإمدادات الطبية، ودكتور فتح الرحمن القاضى الخبير السودانى المستقل، وآخرون من ممثلى منظمات المجتمع المدنى، وكان من الملفت بالنسبة لى غياب العنصر النسائى تماماً من تركيبة الوفد، بينما لاحظت أن العنصر النسائى يحتل مكاناً مقدراً فى قائمة الدول العربية، كما كان لافتاً بدوره غياب أيٍ من شركات الاتصالات السودانية عن شهود أهم منشط سنوى للاتحاد الدولى للاتصالات.. وكان لافتاً للنظر المشاركة المقدرة والمميزة للعالم السودانى البروفيسور عز الدين محمد عثمان المدير الأسبق لجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، والذى صادفناه فى العديد من الفعاليات محاوراً ومناقشاً، كما قام بإلقاء كلمة السودان فى اليوم الختامى للقمة، أما نجم الوفد السودانى بحق فقد كان وزير الدولة للزراعة الأسبق السيد أحمد محمود رئيس منظمة القضارف الرقمية بنشاطه وحيويته وعلاقاته العالمية الواسعة، كما كان الوحيد المشارك باسم السودان فى المعرض المصاحب، والذى لاحظنا أن دولاً صغرى قد احتلت فيه مكاناً كبيراً ولافتاً للنظر أمثال بوروندى، سلطنة عمان، بنغلاديش، الكاميرون وبولندا، بالإضافة إلى دول نشطة على الصعيد العالمى كالسعودية والكويت والإمارات، ولم تقصر معظم هذه الدول فى تقديم الهدايا من منتجاتها الوطنية لزوار أجنحتها والمشاركين في أنشطتها المتعددة.
وفى ختام فعاليات القمة قام السيد حمدون تورى الرئيس التنفيذى للاتحاد الدولى للاتصالات بتقديم جوائز القمة العالمية لمجتمع المعلومات وعددها «18» جائزة، وقد منحت الجوائز تكريماً لجهود الدول وإنجازاتها في تنفيذ نتائج القمة العالمية لمجتمع المعلومات، وفاز من المنطقة العربية البلدان التالية:
المملكة العربية السعودية: من خلال وزارة التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم.
سلطنة عمان: من خلال وزارة الصحة.
الكويت: من خلال مجلس الخدمة المدنية.
الإمارات العربية المتحدة: من خلال لجنة أبو ظبي لتطوير التكنولوجيا.
والجالية السودانية بجنيف قليلة العدد إلاّ أن العين لا تخطئها.. وجدناهم في شارع لوزان الشهير بجنيف فى محل الرضوان للثياب والمنتجات السودانية، كما وجدنا أحد وجوههم المتألقة الدكتور خالد كيعورة فى صيدليته العامرة، وهو صيدلى سودانى الأب سويسرى الأم، ووالده من كبار رجالات التعليم فى السودان، وقد نال الدكتور خالد شهادات البكالريوس والدكتوراة من جامعة بازل الشهيرة.. أما المقهى السودانى المصرى فقد ضم عدداً منهم، وبالطبع أصروا على إكرامنا والحفاوة بنا كعادة السودانيين.. أما السفارة السودانية بجنيف فالحديث عنها يطول، فقد جاء معنا بالطائرة التركية من السودان الدكتور عبد الرحمن ضرار سفير السودان بجنيف، وهو رجل لطيف المعشر ودود واجتماعى من الطراز الأول. وتجاذبت معه أطراف الحديث فى مطار جنيف، ولم يتردد فى الاتصال تليفونياً بصديقنا الوزير المفوض محمد المرتضى حال سؤالي عنه.. واستقبلنا رجالات السفارة السودانية وعلى رأسهم الأخ عبد القادر مسؤول العلاقات العامة، وقد ظننت أنهم قد قدموا لاستقبال السفير ضرار فقط، ولكن علمت فيما بعد أن هذا شأنهم مع كل الوفود السودانية استقبالاً وتوديعاً بالمطار وترتيباً للحجوزات الفندقية وحلاً وتذليلاً لكل المشكلات، فمن هنا لهم جميعاً التحية والتجلة والإعزاز للأدوار العظيمة والمقدرة التى يقومون بها، والتهنئة موصولة أيضاً لصديقنا الدبلوماسي محمد المرتضى الذي صادف وجودنا هنالك خبر ترقيته لدرجة السفير، وهي ترقية يستحقها بلا جدال وهو أهلٌ لها.
إذن فالمؤتمر كان سانحة وفرصة طيبة لكل المشاركين فيه لمتابعة التطورات المتسارعة فى مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، كما كان فرصة ذهبية لتوسيع دائرة العلاقات بالعاملين فى هذا المجال على المستوى الدولى والإقليمي، واستنباط العدد من الأفكار والبرامج التى يمكن أن تصلح للتطبيق فى السودان من أجل ردم الهوة المعرفية والمعلوماتة، فالمعرفة عادت هى القوة بمقياس عالم اليوم وبها يقاس تقدم الأمم وتخلفها.. أما أنا فقد نعمت بالطقس الجميل الممتع وبالمتعة البصرية التى لا توصف لدى التنقل بالبصر بين السهول الخضراء والحدائق الغناء باذخة الأزهار والمبانى الجميلة والشوارع بالغة النظافة والترتيب، بالإضافة إلى الرفقة الكريمة الجميلة، كما سعدت بالتعرف على العديد من الأصدقاء الجدد، كما نعمت بلقاء بعض قدامى الأصدقاء والإخوان كالسفير محمد المرتضى والباشمهندس عابدين أحد الحاج من الهيئة القومية للاتصالات، والأخوين مبارك محمد أحمد وصبري من المركز القومي للمعلومات، كما أنها كانت مناسبة لاستدرار العديد من الأفكار والرؤى التي سيكون لها ما بعدها على أرض الواقع بالسودان إن شاء الله.
* كاتب صحفى وباحث فى العلاقات الدولية
جنيف ـ سويسرا
nadir elsufi [elsufinader@hotmail.com]

 

آراء