هيئة مياه الخرطوم ونهج تبرير الفشل الادارى

 


 

 


سيف الدين عبد العزيز ابراهيم – محلل اقتصادى بالولايات المتحدة
Aburoba04@gmail.com
علوم الاداره المستحدثه والتفكير الخلاق لها حد أدنى من التوقعات والافتراضات المبنيه على اسس ونظريات فى غاية التبسيط فى مظهرها العام ولكنها ذات دلالات توحى بأعمق مما يظهر منها وتنفذ الى لب العمل الادارى الجيد الذى يختص أو يمس حياة المواطن ناهيك عن المستهلك أو الزبون الذى يدفع مقابل خدمته أموالا كثيره. ودون الغوص فى بحث أكاديمى طائل ممل لانحتاجه فى هذه المساحه لاسناد راينا حاشية علميه للوصول الى غايتنا, ولكن سنتحدث وباختصار عن أن فرضيات علوم الاداره المستحدثه تستند على أن ادارة أى وحده اداريه سوا كانت خدميه أو غيرها تبنى على الاستعداد والتحوط لكل ماهو معروف ومتوقع كالنشاط الموسمى أو زيادة الطلب على المنتج فى الموسم المحدد, ازدياد الطلب على شركات الطيران فى الصيف أو زيادة الطلب على أدوية نزلات البرد فى فصل الشتاء وما الى كل مايمكن التنبوء به, ذلك الاستعداد يتم تحت طائلة اللوائح والترتيبات الفنيه التى تنطلق فى لحظة الحوجه لها فى عمليه تلقائيه أو أوتوماتيكيه دون الرجوع لأى قرارات تطالبها بذلك لان الاستعدادات والترتيبات لها قد انجزت ضمن برنامج عملى معلوم ومدروس. بل وذهبت تلك الفرضيه الى ضرورة التخيل والتصور خارج نطاق التفكير المألوف وانتهاج منحى توقع مالايفكر فيه الانسان العادى اى بمعنى أنك كمؤسسه يتوجب عليك التحوط للاشياء التى يضعف احتمال حدوثها بصوره متكرره كنزول الجليد فى الصحراء او طيران السياره العاديه حيث أن احتمال نزول الجليد فى الصحراء ضئيل جدا ولكن طيران السياره فوق حائط قصير يمكن حدوثه وان كان احتمالا ضعيفا ولابد من وضع تصور له حين حدوثه الغير متوقع. هذه المنظومه الاداريه لن تغفر لاى اداره أو مدير خطأ عدم التحوط لماهو معلوم ومتوقع ولو بنسبه ضعيفه وتعاقبه عليه, وتتريث فى الحكم على الاداره أو المدير فى حالة عدم احتواء تداعيات مالم يكن متوقع وتطالبه أو تطالبها بالتوضيح فى تلك الحالات الخاصه ومن ثم الحكم عليهما. هذا النمط ظلنا نشهده ونقرأ عنه فى معظم دول العالم أو بالأحرى  فى الدول التى تحرص على ترقية الاداء الادارى وتطوير منظومة التقدم لديها لرفاهية المواطن ناهيك عن أساسياته التى لاتساوم فيها على الاطلاق.
سبب هذه المقدمه هو ما ظلت تطالعنا به الصحف السودانيه فى الايام الفائته عن اخبار قطوعات المياه بولاية الخرطوم وتصريحات مسؤولى هيئة ولاية الخرطوم عن نقص حاد فى مواد التنقيه والذى استهلك نتيجه لزيادة كمية الطمى وما الى ذلك من التبريرات الطويلة التفصيليه لكل ما حدث وكأن ماحدث كان كنزول الجليد فى صحراء الربع الخالى. لست لدى أى خبره هندسيه ولست ملم بخبايا انسياب المياه فى النيل ولكن كغيرى من عامة المواطنيين أدرى تماما أن النيل يفيض بصوره منتظمه عند هطول الامطار جنوبا وفى الهضبه الاثيوبيه. كلنا ندرى أن مياه النيل الازرق تزداد بها كميه الطمى لسرعة اندفاعها من الهضبه الاثيوبيه جارفه معها كميات أكبر من الطمى فى زمن الفيضان. هذه المعلومات لم أبحث عنها فى قوقل أو اى موقع الكترونى وانما معلومات درستها فى المرحله الابتدائيه والمتوسطه بالسودان. وللعاقل أن يتوقع أن يلم القائمين على أمر الهيئه بهذه المعلومات الابجديه والتى تجعلهم يتحسبون لمثل هذه الاشياء التى تحدث مرارا وتكرارا سنويا أو مره كل عدة سنوات. فأين المفاجأه التى أتت لتجعل تلك الهيئه غير مستعده للتعامل مع هذه الزياده الطبيعيه أو قل الهائله للطمى المترسب فى مناسيب النيل (على حد قولهم) والذى أدى بدوره الى استهلاك أكبر لمواد التنقيه؟. هذا هو صميم عمل الهيئه لأن ماحدث هو شئ متكرر وحدث من قبل وسيحدث مرة أخرى. لست بصدد تفنيد تبريرات هيئة مياه الخرطوم وما اذا كانت مقنعه أو أن ماحدث فوق احتمالات وطاقة الهيئه على التكيف والتعامل مع ماجرى أو ان الطاقه التخزينيه لمواد التنقيه ليست بالحجم الذى يسمح بتخزين أكبر وما الى ذلك من الاسباب الفنيه. ولكنى بصدد تناول انتهاج القائمين على الهيئه ذلك النهج التبريرى الذى دأب عليه معظم مسؤولى السودان فى معظم مايجرى من تخبطات. ظللنا ننعت مرددى النظريه التأمريه الذين يفترضون أن اى خطا أو اى حادث يحدث انه من فعل شخص أو جهه اخرى تتربص بهم, حيث ظللنا ننعتهم بقصر النظر والفشل فى التعامل مع المعطيات والاحتماء خلف حائط تلك النظريه التأمريه. فى حالة هيئتنا الموقره هذه فلا أجد لهم شئ أنعتهم به سوى الفشل الادارى ومحدودية سقف العقل الادارى والابتكارى لديهم. هذه هيئه تتعامل وتتحكم فى أهم أساسيات حياة الانسان ودونها لن يعيش الانسان سوى بضعة أيام قبل زواله لذا لابد من اعطاء هذا الامر أهميته التى يستحقها. الماء يا سادتى ليس كالمتطلبات الكماليه وانما هو من مقومات الحياه بل واهم عنصر فيها, وحصول جزء من مواطنى العاصمه أو اى مدينه على الماء لن يكون مبررا لعدم حصول البقيه له, لانه شرطا اساسيا للحياه ليس كفرض الكفايه الذى ان قام به البعض سقط عن الباقيين ولتلك الاسباب لايمكننا تجاهل هذا النهج والنمط التبريرى الذى يرميه هؤلاء على وجوهنا كل ما فشلوا فى شئ فى محاوله بائسه للضحك على الدقون.  
جدتى لوالدى (حبوبتى كلتوم بت الفارس جاد الله) أطال الله عمرها فهى امرأه عظيمه تفوق المائه ولا زالت بكامل قواها العقليه وان وهن عظمها ولكنها ذات قريحه متقده وعزيمه لاتلين ولازالت تؤدى صلواتها الخمس فى مواقيتها دون معاونه من أحد ذكرت لى فى أحدى زياراتى للسودان مشيرة الى التسنامى الذى اجتاح بعض الدول الاسيويه فى السنوات السابقه مما أدى الى مقتل الألاف من المواطنيين والذى شاهدت مناظره على التلفزيون (ياولدى ماتسكن فى خشم البحرلانو البيسكن فى خشم البحر بياكلو) هذه النصيحه المبسطه فى كلماتها لها دلالات كبيره تنفذ الى عمق ما أنا بصدده فى حديثى عن علم الاداره المستحدثه حيث لم تسمع حبوبتى عن الاداره المستحدثه أو ادارة نادى المريخ ولكنها وبحس وعمق تجربتها تدرى أنك لا بد لك أن تتحوط وتستقرأ تاريخ الفيضانات ليتسنى لك التدبير والسكن فى مأمن منها بقدر الامكان وهذه النصيحه هى من أبجديات الاستحداث. الأداره يا سادتى علم متوشحا بمنتهى المسؤليه الاخلاقيه التى تحتم على من يمتهنها أن ينتهجها بعد ايمانه القاطع بها. وباختزال شديد تطور ذلك العلم من الاداره العلميه الى فريديك دوغلاس الى ليليان وغلبرت الى الاداره الحديثه من ثم الاداره المستحدثه. ليس من الانصاف المقارنه بكل ماهو حديث  ومحاولة تطويعه وادخاله فى نهج الاداره فى السودان ومطالبة تلك الادارات اتباعه مع علمنا التام الى افتقارها للكادر التدريبى الحديث (وهنا أعنى التدريب على أحدث الوسائل وليست السمنارات السنويه التى تردد مواد جافه انتهى العمل بها واصبحت جزء من تارخ الاداره وليست من علومها) لأنها ستشبه جهد من يحاول ادخال البغله فى الابريق, ولكن نريد فقط أن نضع الامور فى نصاهبها وبوتقها الذى يؤطرها. حل المشاكل الاداريه لايتأتى بالمجهودات الفرديه فحسب (رغم أهمية المهارات الفرديه فى بعض الأحيان) ولكن ادارة المؤسسات لابد لها ان تستند الى المؤسسيه فى التعامل مع المعضلات كأسمها. فى مثالى الذى اتخذته مدخلا (هيئة مياه الخرطوم) هذه الهيئه الموقره تدرى تماما ان ماحدث سبق ان حدث ويمكن حدوثه مكررا, فلماذا لاتوجد آليه للتحوط لمثل تلك الاشياء الروتينيه؟ نعم أعتبر الفيضان وزيادة الطمى والاستهلاك العالى لمواد التنقيه أمر روتينى. فمن الطبيعى أن نتوقع من هيئه تعنى بمياه عاصمة دوله يفوق عدد سكانها الملايين ان تكون قد وعت دروسها وتحوطت لابسط قواعد الطبيعه كالخريف والفيضان وماشاكلهما, ولكن النهج الادارى عندنا فى السودان لايقدر أهمية الاستراتيجيه والمنظومه الاداريه لتسيير العمل. هذا الخطا الذى نتناوله هنا تجده متكرر فى أكثر من مؤسسه حيث نرى فى كل خريف كيف تغرق الخرطوم فى شبر مويه. نبنى الانفاق الصغيره جدا مقارنة برصيفاتها ولكن نفشل فى تصريف المياه من داخلها. تجد السكان على مرمى حجر من مياه النيل ومواسيرهم تشخر جدبا وجفافا. هذا هو القليل جدا من الامثله التى يمكن أن تشغل حيزا كبيرا وتملا صحفا عن القصور الادارى فى بلدنا السودان. العله تكمن فى المنهج الادارى القديم البالى الذى يترك للادارى الحبل على القارب لادارة مؤسسته فى حين أن العمل الادارى أصبح منظومه تحكمها استراتيجيه مبوتقه ومؤطره لها سياساتها المعروفه ولوائحها التى يسهل اتباعها لكل من تؤول اليه ادارتها, اى بمعنى أن الاداره جسم متكامل يؤطر لنوع العلاقه بينه وبين العامل ولها من المرونه بمكان أن تسمح للعامل المبتكر بها أن يضيف اليها ويحسنها دون المساس بأساسياتها فى تناسق وتناغم بديع هدفه فى النهايه خدمة المواطن, المستهلك, أو الدوله. ماننادى به ليس بالرفاهيه المطلقه وليس بطلب خاص لجلب لبن الطير ولكن ماننادى به هو دعوه لاعادة النظر فى النهج الادارى تطبيقا ولكن والاهم هو اعادة النظر فى تدريس مادة الاداره لدى المدراء الجدد والقادمين. وحتى الفنيين الذين ارتقوا بالتدرج الى المناصب الاداريه دون تاهيل حديث, يتحتم عليهم من باب المسؤوليه الاخلاقيه والمهنيه الارتقاء بأنفسهم واعادة تاهيلها بأنماط اداريه مستحدثه ومتطوره لمساعدتهم فى اداء وجباتهم ومن ثم عكس ذلك التطور على المستهلك والمواطن وان لم يكونوا قادرين أو مستعدين, فليتوخوا الامانه الادبيه وليفسحوا المجال للاجيال الجديده علها تأتى بالجديد المستحدث. لقد ملل المواطن من السياسات التبريريه والتى تشير الى كل المعوقات والاسباب ولكنها لاتعترف بخطا واحد او تتحمل مسؤلية اخفاقها المزمن بكل شجاعه وامانه والله المستعان.  
 
 

 

آراء