هيروشيما: الذكرى والعبر

 


 

 

في مطلع الثمانينات من القرن الماضي شرعت في رحلة كنت أرجو أن تشمل كلاً من هيروشيما وناغازاكي ، المدينتين اللتين عاشتا أول وآخر تجربة ــ حتى الآن ــ لاستغلال القنبلة الذرية كسلاح من أسلحة الدمار الشامل في الحروب بين الحكومات ولا أقول الأمم. لم أتمكن من إكمال برنامج رحلتي إذ أن مارأيته في هيروشيما أصابني بصدمة مريرة وترك في نفسي انطباعاً سيئا عن وحشية الإنسان ، إن كنا نحسن الظن بأولئك الذين اتخذوا قرار إلقاء القنبلة الذرية على المدينتين ونعتبرهم من ذوي المشاعر والممارسات البشرية السوية. كان هذا الاحساس الذي ظل يلازمني حتى يومنا هذا سبباً في إلغاء رحلتي المزمعة إلى ناغازاكي بالرغم من إصرار منظم الرحلة على مواصلتها. شملت  رحلتي إلى هيروشيما كلاً من حديقة السلام ، والمتحف ومشاهدة فيلم عن الآثار المباشرة لإلقاء القنبلة على المدينة بالقاعة السينمائية الملحقة بالمتحف. تم تصوير الجانب الأكبر من الفيلم المذكور بعد إلقاء القنبلة وخلال الأيام القليلة التي تلت ذلك مما يعكس في نفس كل من رآه صورة محزنة للغاية ولكنها صادقة للمعاناة الهائلة التي عاشها مواطنو هيروشيما عندئذٍ. أما المتحف فقد ضم العديد من المعروضات التي تعكس رمزية وعمق المأساة من بينها ساعة حائط توقفت عند الثامنة والربع موعد إلقاء القنبلة ، وستائر ورقية لشبابيك تحمل آثار الأمطار السوداء التي أعقبت الانفجار وذلك بسبب اختلاط سحائب الدخانوالغبار المتصاعدة من الحرائق في شتى أنحاء المدينة مع ذلك المتولد عن انفجار القنبلة نفسها بذرات الماء في طبقات الجو الدنيا مما أدى لهطول هذه الأمطار. كما شمل المعرض عدداً من المتعلقات الشخصية لأناسٍ لا بد أنهم قد قضوا نحبهم في ذلك الحادث المشؤوم مثل شنطة الكتب المحترقة لأحد تلاميذ المدارس ، والأواني المحطمة التي كان تلميذ آخر يحمل فيها غداء يومه الذي لم تسعفه المأساة حتى يستمتع به. لم تقتصر آثار القنبلة على ذلك الزمان بالطبع حيث لا زالت نسبة الإشعاع والإصابة بالأمراض المرتبطة به ومن بينها السرطان في المدينتين من أعلى النسب في العالم بعد سبعين عاماً مرت على الحدث المؤلم. وإن كانت الحكومة اليابانية ترمي من الفيلم الذي شهدته والمعرض الخاص بالقنبلة الذرية إلى تنفير كل ذي بصر وبصيرة من تكرار مثل هذه التجربة في المستقبل ، وتهدف عن طريق ذلك إلى دعم الحركة الرافضة لاستعمال أسلحة الإبادة الشاملة في أي حرب مستقبلية فاعتقادي أنها نجحت نجاحاً لا شك فيه. جرى احتفال اليابان بالذكرى السنوية السبعين للحدث في السادس من أغسطس الحالي ، وهو اليوم الذي يصادف تاريخ إلقاء القنبلة على مدينة هيروشيما في عام 1945 ، وقد جاء إلقاء القنبلة الثانية على مدينة ناغازاكي كما هو معلوم بعد ثلاث أيام من ذلك التاريخ. لا شك أن الاحتفال يشكل كما هو الحال في كل عام فرصة لاستعادة ذكرى التجربة المريرة والأرواح التي فقدت في ذلك الوقت بسبب الانفجار والنتائج المترتبة عليه طوال السنوات السبعين الماضية. غير أن الاحتفال يمثل من جانب آخرمناسبة لإعادة تأكيد إصرار العالم أجمع على عدم تكرار هذه التجربة المحزنة . لم يكن من المستغرب إذن أن يشارك في الاحتفال ممثلون لما يزيد عن المائة دولة من بينهم بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية نفسها والتي جاء تمثيلها على مستوى وكيلة وزارة حظر الأسلحة والسلام الدولي والسفيرة الأمريكية في طوكيو. كما ورد في تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري قوله أن الاحتفال يشكل مناسبة لاستعادة ذكرى الحرب ومآسيها ودعماً للجهود الدولية المبذولة حالياً للتقليل من مخزون الأسلحة النووية. لا يفتقر قرار إلقاء القنبلة الذرية بالطبع لمن يجدون له التبرير باعتبار أنه كان حاسماً في في قرار الحكومة اليابانية بالاستسلام وإنهاء الحرب ، ومن ثم التوقيع اتفاق السلام فساهم بذلك في إنهاء الحرب التي كان بالإمكان أن تستمر لسنواتأطول تحصد خلالها المزيد من الأرواح على الجانبين وتخلف الكثير من المآسي في اليابان ، وقد كان هذا المنطق هو ذاته الذي اعتمدت عليه الحكومة الأمريكية عند اتخاذها قرار إلقاء القتبلتين. وبالرغم من وضوح النتائج السالبة لاستعمال أسلحة الدمار الشامل والتي لا يختلف حولها الناس في زماننا هذا ، إلا أن استطلاعاً للرأي في أبريل الماضي وجد أن 56% من الأمريكيين لا زالوا يعتقدون أن قرار إلقاء القنبلتين على هيروشيما وناغازاكي كان ضرورياً ، في الوقت الذي أشار فيه 79% من اليابانيين إلى أن القرار كان خطأً شنيعاً يجب ألا يتكرر في أي مكان بالعالم. تأتي الاحتفالات في هيروشيما هذه العام في اجواء تختلف تماماً عن السنوات الماضية ، فقد برزت إلى السطح مع وصول رئيس الوزراء شنزو آبي للحكم كأحد الصقور في الجناح اليميني داخل الحزب الحاكم مسألة السياسة الدفاعية لليابان. كانت الحكومة قد دفعت إلى البرلمان في الأشهر القليلة الماضية بمشاريع قوانين جديدة تتعلق بسياستها الدفاعية يرى فيها الكثيرون انحرافاً عن الخط السلمي الذي ظلت تتبعه الحكومات اليابانية المتعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والمعروف أن الفقرة التاسعة من الدستور الياباني الحالي والذي أُعِدَّ بواسطة سلطات الاحتلال الأمريكي للبلاد في أعقاب الحرب العالمية الثانية تضع الكثير من القيود على سياسة الحكومة الدفاعية. ولعل أهم ما اشتملت عليه السياسة التي أعلن عنها مؤخراً رئيس الوزراء آبي إعادة تفسير الفقرة التاسعة من الدستور بالصورة التي تسمح للقوات اليابانية بالقيام بعمليات دفاعية خارج حدود البلاد ، وتنفيذ عمليات مشتركة مع قوات من دول أخرى في إطار اتفاقيات الدفاع المشترك التي تربط اليابان بهذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة. لا شك أن قراءة متأنية للتحول في سياسة اليابان الدفاعية على ضوء التطور الواضح في المقدرات الدفاعية والاقتصادية لعدد من دول الجوار وعلى رأسها الصين وكوريا الشمالية يعيد للأذهان الأجواء التي كانت سائدة خلال الفترة الممتدة من الثلاثينات في القرن الماضي وحتى وقوع الحرب العالمية الثانية مما يوجب قلق الكثيرين ، خاصة وإن تلك الفترة التي سيطر فيها اليمين على مقاليد الحكم في اليابان جعلت المواطن الياباني شديد الحساسية حيال أي توجهات يمينية في سياسة حكومة بلاده. ولعله بالاضافة إلى ميول رئيس الوزراء آبي اليمينية الواضحة فإن بعض تجاربه مع حكومة الرئيس أوباما ربما كانت دافعاً مهماً وراء سياساته التي يرى فيها الكثيرون نزعة عسكرية غير محمودة. فقرار الرئيس اوباما التحول 180 درجة في سياسته حيال التطورات في سوريا انعكس على مواقف الرئيس آبي من ناحيتين. فمن ناحية جاء تراجع الرئيس الأمريكي خذلاناً بيناً لرئيس الوزراء الذي وقف إلى جانبه بالرغم من المعارضة الشديدة حتى من داخل حزبه ، ومن ناحية أخرى فإن الموقف الأمريكي بالتراجع في سوريا يثير الكثير من كوامن القلق في اليابان حول مدى صدق التزام الحكومة الأمريكية بالدفاع عنها في وجه الضغوط التي قد تتعرض لها من القوى الصاعدة الأخرى في الجوار وخاصة الصين وكوريا الشمالية كما أشرنا أعلاه.تمر الذكرى السبعين لإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونغازاكي في وقت تواجه فيه اليابان الكثير من التطورات التي تثير قلق الحكومة والمواطن على حد سواء ، وبالرغم من الحديث الذي تردد خلال الاحتقال والمشاعر التي عبرت عنها الوفود التي شاركت فيه عن ضرورة الالتزام بعدم تكرار التجربة ، إلا أن المواطن الياباني ربما كان أكثر قلقاً الآن حول المستقبل من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

mahjoub.basha@gmail.com

 

آراء