وجاء يوم 26 يناير 2011 : بدأ المفتاح في الدوران 2-2
بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان حلقة هذا المقال الأولى كانت: التاريخ كعبء أو كمفتاح! وقد كتبناها قبل حشد يوم 26 يناير التسونامي وإن كانت لسوء التخطيط نشرت بعده بيوم، وفيها كانت تتلبسنا الحيرة حول ما سيحدث في يوم الفرقان كما سماه الإمام الصادق المهدي، وفي الحقيقة ليس الحيرة فقط بل والتوجس مما سيدور، وكتبنا في مقالتنا متسائلين "هل يكون لقاء أم درمان السلمي اليوم بجامع الخليفة جزءا من تواريخ الاتعاظ بالتاريخ كمفتاح، حيث يعبأ الشعب باتجاه الأجندة الوطنية ويكون أمام المؤتمر الوطني إما التسليم أمام رغبة الشعب المتعاظمة أو الانهيار تحت سنابك ذلك الشعب مهما كلف ذلك من خسائر؟ أم يكون حلقة من حلقات التاريخ كعبء ثقيل؟ حيث تتخلف المسيرة عن سجل الكرامة بفعل فاعل، ويوضع قائد عظيم مثل الصادق أمام امتحان أنه وحده الذي يستبطن التاريخ ويعلم دروبه وملفاته المضيئة والوعرة، أو أن غردوننا بألاعيبه يستطيع شل قدرتنا على الحصار المدني.. الله وحده يعلم!"
وحينما نشرت المقالة بالخميس 27 يناير كانت الصورة قد اتضحت تماما لكل من حضر يومها: إن الصادق تقف وراءه جحافل مشحونة بالحماس، ومهما فعل الفاعل لم يحل بينها وبين القدوم لتقول إنها تسند الأجندة الوطنية التي طرحها الإمام.
نشر مقالة التساؤل بعد يوم الفرقان كان سوء طالع كذلك إذ تضافر مع التغطية المشروخة للحدث في صحفنا الوطنية كلها بلا استثناء مع فرق في الدرجات إذ هنالك من لم يعط الحدث أهميته، وكلها لم تنشر صورا لبحر الجماهير المتلاطم، وهنالك من حرف في الخطاب الرئيسي الذي ألقاه الإمام، وبقيت الإنترنت رئة أفضل درجات عديدة.. ما حدث يوم الفرقان كان عظيما وله أثره في نفوس كل من حضره كمغسلة لكل ترهات (حانوتي الأحياء) وإعادة ثقة في شعب السودان، قال الأستاذ فاروق أبو عيسى لصحيفة (حريات) الإلكترونية إنه (في الظروف الراهنة هو أكبر حشد رأيناه في الأيام الأخيرة، والأهم هو الحرارة والحماس للشيب والشباب، خصوصا حينما طرح الإمام الخيار بين القومية والتونسية، رأينا العجائز والنساء قبل الشباب يهزون بالتونسية، حقيقة شيء مفرح وكان لا بد ان يراه كل من ظن أن شعب السودان قد مات وأصبح مشغولا بلقمة العيش وبالحياة فقط هذا الحماس وهذه الحرارة أثبتت ان الشعب السوداني ما زال حيا مفعما بالحماس كالجمل يختزن كل ما وقع في جوفه في ظهره ليسعتد بها ليوم التغيير الذي نراه قريبا ويرونه بعيدا). وكذلك قالت بروفسورة بلقيس بدري التي أكدت إن كل الأجيال حضرت فقد حضرت هي وابنتها وصهرها وأخواتها..
لقد كان يوم الفرقان رسالة واضحة لحانوتي الأحياء ومن شايعه إنه لن يستطيع دفن عشرنا قبل أن يدفع رقبته ثمنا! ورسالة ثقة قوية لمثلنا ممن كان يتوجس ألا يبلغ الحشد وزن الكرامة الضروري للخلاص الوطني، فإذا بالميزان يفيض، كم من الناس صرخ في وجه الإمام: دايرين نموت! نحن مكفنين ومحضرين جاهزين! وغيرها، وكان شعار "التونسية" أي الثورة قاطنا في الشفاه والقلوب التي حضرت في مسجد الخليفة يومها. وكانت عرضة الخيل من شباب وشابات ترفع الهامة للسماء هذه أرضكم وسنابك خيولكم تطربها، جولوا فيها إنها قد امتلأت غيظا من الصعوط يتفل عليها، ومن تنابلة السلطان الذين لا يشبهونها ولا تشبههم يعيثون فيها انكساراتهم وتتألم من خطواتهم، كانت النشوة مشتركة بين الحشد الذي فجر ينبوع الكرامة وبين الأرض التي ولدت في يوم الكرامة وبأيدي الكرام.
الحشد الذي غضت أجهزة الإعلام عنه الطرف كان رسالة قوية يجب أن تصل (إلى من يهمه الأمر) حتى لا يغض الطرف هو كذلك عن فرقان أم درمان، مثلما غض غردون الطرف عن سقوط حامية أم درمان في أول أسبوع من يناير 1885م، وحصد البوار، ووقع المحظور الذي كان الإمام المهدي يتوقاه وهو يطيل الحصار: أن يقتل خلق كثير، وأن يقتل غردون بأيدي الثوار، وكان المهدي يريده فدية لعرابي باشا، كما كان يخاطبه بكل احترام وعرض عليه كما رأينا أن يعيده لبريطانيا بدون خمسة فضة!
تحدث الإمام الصادق المهدي يوم الفرقان مؤكدا أن تحرير الخرطوم ملهم في أمرين: الأول أن الثورة عمت كافة البلاد وحررتها ثم حاصرت الخرطوم، وهو درس نراه ماثلا في الانتفاضة التونسية ثم لدرجة ما في مصر الآن. وإذا كانت ثورتا أكتوبر وأبريل قامتا في الخرطوم فإن الإجراءات السلطانية الحالية فيها –أي الخرطوم- قد لا تجعلها المحضن الأنسب للثورة إذا اختار المؤتمر الوطني أن يمزق التذكرة القومية، وكان على الشعب السوداني أن يقطع التذكرة التونسية ليدخل (ستاد الشعوب الحرة) ولكن ليس متفرجا بل لاعبا أصيلا! أما الأمر الثاني الذي أشار له الإمام فهو ما شرحناه قبلا من أن الإمام المهدي ما كان يريد الاقتحام لولا أن دفعه قرار بريطانيا بإرسال نجدة لغردون، وقال الإمام الصادق إن العاقل من اتعظ بغيره! كان الإمام المهدي يحث على التروي ومن معه قد سبلوا أرواحهم في سبيل الله ويشتاقون لملاقاته نصرة للدين كما مدح مادحهم الأمير محمد ود التويم متشوقا لجمعة استشهاده حيث كان الإمام المهدي بشره بذلك فقال قصيدته "متين يا المهدي يوم جمعة" وظل ينشدها حتى لقى الله بقلب سليم ظهر الجمعة بكرري أو كما كان يتمنى ود سعد "متى يا المهدي نتلاقى على الكوثر بلا عاقة".. وكذلك الآن الإمام الصادق يتروى ولا يريد الاقتحام ومن معه ملجمون وقد قالها الأستاذ محمد المهدي حسن – مساعد الأمين العام لحزب الأمة للطلاب سابقا- قالها صراحة في ندوة الدوحة في يناير هذا الجاري مؤكدا أن كل من في صفنا يتشوق للصدام ولكن هذا هو الذي يمنعنا (مشيرا للإمام الصادق) فجهاده المدني هذا ليس كأسا مشروبا لكثيرين، ولكنهم تارة يسمعون كلامه حين قال: المشي قدام الخبير ضهاب! أي توهان، وتارة يقاطعونه كما حدث في اجتماع يوم 24/12 وفي جميع الأحوال فهو الوحيد القادر على إلجام هذه الجموع الثائرة لأنهم عايشوه وعايشوا نظافة يده ولسانه ويعلمون أنه ذائق الأمرين معهم وكل ما طال وقت الانتظار كلما عانى تماما كجيوش المهدية، وإنه إنما ينظر لمصلحة الوطن ويخاف عليه ألا يكون هناك وطن بسبب الصدام، إنها ذهنية (أم الجنى) وهي تتعذب وطفلها بيد غادرة كاذبة خطفته وادعت أمومته ورضيت أن يقال يقسم بينهما نصفين، ولكن أم الجنى صاحت وقالت اتركوه لها كله ولا تقسموه نصفين فيموت ابني الحبيب!
نعم كان تاريخ تحرير الخرطوم ملهما فيما قال الإمام الصادق. وأضاف الأستاذ عبد المحمود أبو شامة معاني أخرى ربما تجيب على المستاءلين حول استحضار تاريخ تحرير الخرطوم في طحاننا اليوم. صحيح، ربما لم يكن مناسبا أن يكون في يوم الفرقان كلمتان تاريخيتان فالناس كانوا مشحونين بالحاضر، وضج بعضهم من حديث أبو شامة التاريخي مع أن فيه عبر تهمنا كثيرا، وأبو شامة من النوع الذي نعد الضجر من حديثه جنحة معرفية حتى ولو كان يروي التاريخ المحض يوم الفرقان فما بالنا وقد ربط للبيب بين الحدثين، قال أبو شامة إن المهدي لم يكن يريد الاقتحام وهذا ما قاله الحبيب الإمام الصادق أيضا، وروى كيف استخدم غردون الحرب البايلوجية بضرب قوات النجومي في الكلاكلة بالجدري مستعينا بطبيب أغريقي اسمه نيكولا، وكان ذكر في كتابه إنه النجومي شكا للإمام المهدي أنه كان يموت في كل يوم خمسين من الأنصار جراء الجدري فحثه على الصبر واحتسابهم عند الله. وقال أبو شامة كذلك إن التحرير ليس معركة بالمعنى المفهوم بتقاتل جيشين، فصّل أبو شامة استحاكامات غردون من حائط وخندق وأوتاد خشبية وضريسة معدنية وبراميل ديناميت، وأكد أن الأنصار اقتحموا الخرطوم وفجروا الديناميت الذي كان غردون وضعه ثم دخلوا وأن "السلاح كان الله أكبر ولله الحمد من أربعين ألف مجاهد بصوت هز الخرطوم وقوات غردون تركت أسلحتها وهربت". وأضاف "ثم بدأت عملية التصفيات التي لم يردها الإمام المهدي" مشيرا لمقتل غردون.
ومعركتنا لتحرير الخرطوم اليوم فقدنا فيها كما ذكرنا كل حين وآخر مئات ذهبوا لقاء جدري غردوننا الجديد: كشكش تسد، المال، وقال أحد المصابين بذلك الجدري بدون أدنى حياء إن الصادق المهدي لا يدرك إن مطالبات البقال والغسال صارت تحدد الأجندة السياسية لكثيرين! الصادق المهدي يدرك جيدا جدا ضرورة مطالبات البقال والغسال واللبان والجزار وغيرها، ويدرك كذلك إنها أثمان نحتسبها لوجه الله تعالى ولوجه وطن يستحق محاولات المستميت لإنقاذه، حتى ولو بمهادنة (سارقة الجنى) حتى يرد لأمه مثلما رد موسى لأمه وقرت عينها ولم تحزن! كذلك معركتنا اليوم نخوضها بمخاطبة الإمام لغردون بألين الكلام الممكن وبتطمينه أكثر التطمينات الممكنة حتى يسلم وتسلم البلاد، فإن أبى فإن سلاحنا هو الله أكبر ولله الحمد هادرة تشق عنان السماء وتجعل الظالم يولي الأدبار، والله أكبر ولله الحمد!
قال أبو شامة إن المهدي كان أعظم إستراتيجي عرفه السودان. وقال الإمام الصادق المهدي إن ظروفنا تحتاج لأصلب المواقف الاستراتيجية وألين المواقف التكتيكية.
وقال أبو شامة في كتابه إن الإمام المهدي طوق غردون في الخرطوم، وكتب إليه وجاء في تحشية أحد خطاباته لغردون: (في أحد تلغرافاتك الجفرة المرسولة لبحري وضبطت تذكر أن العساكر الموجودة الآن ببحر الغزال وخط الاستواء وغيرها ثلاثين ألف عسكري، ..، فاعلم أن بحر الغزال والاستواء جميعها قد دخلا في المهدية وانخرطا في سلكها وجميع ضباطها صاروا من أنصار الدين، .. وقال له في النهاية: ولزيادة المعلومية والشفقة عليك وعلى عباد الله أوجبنا لك هذا التذييل لتكون على بصيرة، لزمت التحشية).. وفي يوم الفرقان كان معلوما أن الجنوب قد ذهب ولكن الجديد بشرى التعاون الأكيد بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وبين حزب الأمة والأنصار إذ كانوا الجماعة الوحيدة التي حضرت بقواعدها وليس فقط القيادة والناشطين الذين حضروا على أعلى مستوى، ورفعوا أعلامهم إلى جانب أعلامنا في إخاء ومودة.. وهذا مثلما عنى لغردون الأول نراه واجب أن يعني لغردون اليوم الكثير..
ومن دروس فتح الخرطوم الأول العزيمة والمثابرة: فرحلة الإمام المهدي للخرطوم من الأبيض بدأت منذ مارس/ أبريل 1884م، وكما قال الكردفاني فإن ذلك بسبب سيرهم على الأقدام (مراعاة لحال الضعفاء والأصحاب الذين معه في السفر) وقبلها رد المهدي على غردون ملك كردفان الذي عرضه عليه.. واليوم فمن يستطيع تصديق هذا الصمود السرمدي لأكثر من عقدين، رد فيها الإمام الصادق على غردون مناصفة الملك مرتين، في مشوار طويل جفت فيه الحلوق وخلت الجيوب وضاقت القلوب ولكن حاديهم يقول لا بد من صنعا وإن طال السفر!
ومن دروس الخرطوم الأولى مشاركة المرأة. فقد زحفت أنصاريات كثار مع ذويهن وبعضهن كن مقاتلات أو مستخدمات لدى الجيش، وخاصة في حمل الرسائل وأثناء حصار الخرطوم ظلت مشاركة إحدى النساء محفوظة وجاء في أحد خطابات المهدي لغردون:"فتخبرك المرأة الواصلة" فهي ليست مجرد موصلة للرسالة الخطية بل أمينة على رسالة شفوية أيضا. وأثناء حصار الخرطوم استشهدت العديد من النساء اللائي شاركن في الحصار. منهن الحاجة ست البنات أم سيف والتي شاركت تحت قيادة قريبها الأمير أبو قرجة حيث وجدت مستشهدة هي وأربعة من إمائها. واليوم انظروا لمعركتنا وفيها سارة نقد الله رئيسة مكتبنا السياسي ومريم الصادق مندوبتنا لقوى الإجماع الوطني، والنساء في كل ملف مبادرات وقائدات فقد قدمن وليس فقط كما قيل قادمات!
ومن أوجه التشابه بطش غردون وعدم احترامه للسودانيين كما ورد في مذكراته لأيام الحصار، واضعا الشعوب (الملونة) خارج منظومة الإنسانية تقريبا، وبالتالي لم يتوقف في البطش بأشراف المدينة. فحينما وقف الشيخ المصري أحمد العوام مع الثورة وكتب كتابه (نصيحة العوام) تم إعدامه بحجة أنه حرض امرأة لتلقي جمرة في مخزن السلاح من الشباك. وسجن كبار الخرطوم الذي كاتبوا المهدي مؤيدين. أما إساءة أهل "الإنقاذ" لأهل السودان فمعلومة عددنا بعض ملامحها في مقال هذا الشهر..
صحيح إن حادثة تحرير الخرطوم الأول لا تقاس على حادثة تحرير الخرطوم الخامس، ولكن تلقي عليها إضاءات هامة. وإذا كنا تساءلنا متشككين هل ستلقي علينا عبئا أم تكون مفتاحا لنا، فإننا نجيب اليوم بكثير من الثقة أنها لم تكن عبئا، لقد كان حشد الفرقان قبضة من أثر الكرامة وخطوة في أثر الكرام، وإن المفتاح –مفتاح التاريخ- قد بدأ بالفعل بالدوران.
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]