وداعا ، أمي ! محاسن بدوي ناصر عثمان
عبدالرحمن الامين
12 June, 2024
12 June, 2024
(1933- ليلة الاول من ذي الحجة 2024) 🟦�⬜️
🔴كتلة المحاسن والفضائل : ثلاثون حجة ، حب أمدرمان ، حقيبة الفن وتشجيع الهلال !
⚫️عبدالرحمن الامين
aamin@journalist.com
أنشد ابوالعلاء المعري في أشباه امي فقال :
يقولون في البستان للعين لذة
وفي الراح والماء الذي غير آسن
إذا شئت أن تلقى “المحاسن”كلها
ففي وجه من تهوى جميع “المحاسن”
⭐️ ⭐️ ⭐️
كتبت عن أناس كثيرين ، فأصبت وأخطأت ….حال كل الوّراقين .
لكني في هذا الصباح الكئيب أحتشد للكتابة عن سيدة صنعتني ، فيالها من مهمة!
ولدتني، وأرضعتني وربتني….
علمتني من معاني الحياة ما ظل زاداً في جرابي .
كانت "كل شئ " عندي ، إستعمرت وجداني وسكنت في نخاعي الشوكي وذاكرتي .
رغم انني فارقت العيش معها بعد المرحلة الثانوية مباشرة لكن عبقريتها الفذة جعلتها تلتصق بكل خطاي ! إستلبت عقلي وهيمنت علي ماكينة نظامي القيمي فغدوت حالة من الاستشعار عن بُعد !!
كيف فعلت ذلك ؟
إنها حالة ، أو قل ما يفعله إعجاز التواصل المستمر الذي يتسامي حتي يبلغ برمجة العقل عن بعد !
حتي الكلام العادي اذا انبجس من لسان أمي الذرب ، تناثرت منه القناعات كقطع مضيئة من المأثورات والحِكم - لالئ ودرر :
أخاف من شنو ؟ العايز يمسك مني هواء الله ده خلي يمسكه!
الزول كان خلق روحه ، كان قلنا هو مخير فيها لكن مادام هو مخلوق فما عنده غير طاعة خالقه .
سيدة عصامية بشخصية نابليونية . توهجت بذكاء فطري محير يفرق بين الاكمة والشجيرات بنظرة يتيمة ، يعقبها تحليل متماسك النسق - وهو ما سيحدث في النهاية !
حضورها الأنيق في جلسات الانس يقفز بها اتوماتيكياً لتتسيد المشهد بدعابة وظرف يغرقك في متع الضحك بلا حابس . كانت ذات أقدام راسخة في واقعها ، لا تتعاطي مع سراب الاحلام .
كانت الراحلة أمة من الحكمة ذات شجاعة بائنة لا تخطئها العيون .
فالايمان المبرم بربها وتصاريف أقداره هو أول ما يخلص له جليسها ولو قضي معها ثانيتين ! تحرص ان تكون عبارات التوحيد بخالقها هي ادوات التنوين التي تزين حديثها . فتري الشولة مكان الصلاة علي نبينا الأمي سيد الخلق ، صلي الله عليه وسلم تسليماً كثيرا . أما إيمانها بربها وخضوعها لأقداره ومشيئته فهو النقطة والضمة - رضا واستسلام راكز البنّاء و مكتمل الاركان .
خنوع تام لمشيئة الخالق-ولا بِغِمْ…..
هيا تعرفوا علي أمي ، سيدتي وتاج عمري :
محاسن بدوي ناصر عثمان ، سيدة من نساء امدرمان القديمة .
ترخصت أمي في استخدامنا لإسمها حافياً، ولا أدري لماذا ! هل لأننا وجدنا شقيقتي الكبري ، عزيزة ، تناديها محاسن فسرنا خلفها أم أنها لم تعرف مدلولات ألقاب الأمومة لصغر سنها عندما انجبت بكرها ؟ الثابت لدينا انها لم تبدِ مانعاً اذا ناديناها “محاسن" بدون لقب او كنية معتادة مثل " أمي" أو غيرها . كان البيت كله ، ومنذ صباحه الباكر يتصايح
" محاسن ، محاسن محاسن " طلباً لمشورة أو لإذن أو عوناً في طارئ . كانت الدينمو الذي حرّك كل جزئيات الماكينة المنزلية علي كبرها وإختلاف احتياجاتها . أما هي فظلت المايسترو وسط هذه الاوكسترا ، توزع المهام وتخلط الاوزان وتصدر التوجيهات ! ربما كان صغر سنها حافزاً نفسياً لنا ان نعتبرها بعض منا !
ساقتني شقاوة الطفولة لاكتشاف اقصر الطرق الي قلبها عندما أروم عطية ، أو أنتوي شحدة مصروف اضافي أو آمن عقوبة أعرف انها مستحقة .
كنت عندما أريد الظفر بشئ أعلم إحتياجه لدفرة أو جرعة اضافية من التحنيس ، أجد ضالتي في اغاني الحقيبة التي تشير لاسمها ، وما أكثرها . فتراني أحوم حولها وأدندن مستعيناً بتقنيات "الاستهبال الاصطناعي "من تطريب مُنفّر بصوت عالٍ واعادة للمقطع حتي تحفظه أواني المطبخ ! :
"من محاسن حسنه المحاسن ، في جبينه النور والجمال "…
واذا طمعت في ريال فضي اسمعتها
"وان عشقنا بنعشق محاسن ، وفي المحاسن قضي يومنا راح "
أو
"قضينا ليلة ساهرة تضمنت محاسن من كل روضة عينة ومن كل عينة زهرة"
هناك أغنية " الشلن "
للشاعر إبراهيم العبادي وعنوانها ( شوف محاسن حسن الطبيعة تلقي هيبة و روعة و جلال )
ورغم انها تعج بصور جميلة عن الطبيعة لكن ما ان تصل الي " شوف نواحي الوادي الخديره
و الحمايم يشجيك هديره "حتي يرتفع صوت الشحّاد الاشتر مردداً بتكرار لا يفتر
" دي المحاسن و أنا قلبي ديره
شاهد إيد الصانع القديره
تملأ بهجة و عظمة و جلال "
كانت أغنية ( من محاسن حسنه المحاسن وفى جبينه النور والجمال) للشاعر عبيد عبدالرحمن هي " الطرّادة المضمونة "
. وكانت صنوها في الفعالية والتأثير قصيدة عبدالرحمن الريح التي يقول فيها
" يازهرة روض المحاسن
في الأخلاق ماليك نظيره
ادبك فطري عليك ظاهر وروحك سامي عزيز وباهر
وحسنك مغري شبابو زاهر
ولونك مفرح كالأزاهر
كلك تلمعي كلجواهر وتشبهي نور شمس الظهيرة"
أما أغنية الطلب المستجاب ، والتي كانت تغازل مزاج الراحلة فتعبث به بلا رادع ، وتجعلها تنافس حاتم الطائي في كرمه فقد كانت قصيدة " اقيس محاسنك بمن
ياالدرة الماليك تمن
والله نور عيني نور الزمن" للشاعر سيد عبدالعزيز .
ولأنني عرفت انها إحدي تفضيلاتها الغنائية فقد قمت بتخصيص هذه الاغنية بالذات عندما يستدعي الامر إسرافاً في الشحدة خارج المألوف ، قل شحدة خارج الصندوق التقليدي ! .
فكلمات الاغنية كافية لاختراق كل دفاعات الراحلة وبخاصة عندما يبلغ الحلقوم الاشتر سقفه الاعلي :
( الانوار يتزاحمن
في خدودك اخدن امن
ومن فاهك يتقسمن
بروق في بروق يتقسمن)
وأخيرا يصدر الامر الملكي ( هاك الخمسين دي لكين لو ما رجعت خمسة وعشرين ما بريّحك) !
كانت لا تستسيغ كلمة طرّادة، فلم تتعاطاها رغم علمها بقيمتها الحسابية . لا يهم ، فالمهم هو انني ضمنت " حق " السينما وعشاء بازار الاحفاد العجيب !
المهم ، كان إسمها مُحفزاً ومكتنزاً بجمال ظل ملهماً لي كل عمري
رغم انني ظللت ابنها الوحيد لسنوات طويلة إلا أن الدلع لم يعرف طريقه لعلاقتي معها . كانت الاكثر حزماً معي ، والصوت الاعلي توبيخاً ونقداً لي دون سائر الناس . رغم تفوقي الدراسي بيد أنها صامت عن الاشادة بما حققت طالبة مني المزيد فجعلتني دوماً في حالة عدم رضا عن المُحقق منصرفاً للمزيد من التجويد .إذًا أحست إفراطاً في فرحة بسبب تفوق أو انجاز أطلقت مضاداتها المألوفة ( حواء والدة) فتعيدني بسرعة الي فضيلة التواضع
♦️حفظت أغاني الحقيبة وحذقت رواية قصصها . فكانت اول مخرجة سينمائية تعرفت عليها وانا في حضنها الرؤوم أسبح بخيالي بعيداً في مرافئ رواياتها السردية . قابلت شخوصاً عبر حكاويها فأحببت كثيرا منهم ونفرت من أشرارهم وبالذات ذلك البعاتي اللعين ! مزجت لي الاحاجي بكثير من مشاهدات امدرمان الاربعينات والخمسينات …فكانت أمسياتي بقربها تعج بتحفة من افلام أوسكار التراث : تاجوج ، فاطمة السمحة، بنت السلطان ، أبوزيد الهلالي وغيرها كثير .
النشأة الفقهية للحاجة محاسن أوقدت جذوة رغبتها في التعلم والبقاء بين رصيفاتها رغم قرار جدتها قطع تعليمها الابتدائي وتزويجها ! كانت غاضبة وثائرة وناقمة علي ذلك القرار فقررت الاستزادة ذاتياً من المعرفة المبذولة مجاناً .
وجدت ضالتها في راديو الترانزستور الذي يظل يلعلع صباح مساء الي جوارها .
تعلمت أصابعها التفريق بين الموجات القصيرة والمنوسطة والطويلة دونما حاجة للنظر للجهاز . فتراها تسوط وتقلب الموجات منذ الصباح الباكر تسندها ذاكرة برامجية لا تخيب في حفظ اوقات البث : ماجد سرحان وحصاد اليوم الاخباري في BBC، المبارك ابراهيم وحقيبة الفن ، ركن الرياضة وعبدالله الطيب في حلقات تفسير القرآن ! اما نشرات الاخبار فهي الثابت الدائم !
🟦محاسن: الصراع بين الأمية والتطور وسيرة لنساء من الألماس !
كانت محاسن تنظر لبنات جيلها بفخر واعزاز فقد كن رائدات التغيير المجتمعي الذي هبت نسائمه في الثلاثينات واشتدت عواصفه في الاربعينات . كانت صديقتها اسماء احمد البشير الطيب هاشم الاقرب الي قلبها ومزاجها المعرفي . فالمرحومة أسماء ، الي جانب الوشيجة الجيلية ، هي بنت عمتهاالشول ناصر عثمان ، وبنت خالها الاستاذ احمد البشير الطيب هاشم - التربوي المرموق . كانت صديقتها أسماء ، أول هاشمابية تتخرج في الخمسينات من كلية الاداب بجامعة الخرطوم وقد سبقتها في عام 1952 كل من الدكتورات ، الامدرمانية ، خالدة زاهر سرور الساداتي والارمنية السودانية زروي سركيسيان بنت الخرطوم بحري المولودة في عام ١٩٢٩.
ترجمت الوالدة ثورتها علي موروثات التقاليد البالية بالعمل علناً وسراً علي جبهتين : منع أمواس التفصيد البربرية من الوصول لتشويه وجوه شقيقاتها عائشة ، علوية وفاطمة ، من جهة ، فضلاً عن الضغط باتجاه اقناع والدها السماح لاخواتها بمواصلة تعليمهن وعدم قطع مشوارهن المعرفي فكان لها ما أرادت . . كانت النتيجة باهرة اذ اكملت الخالة علوية امدرمان الثانوية قبل ان تتزوج اما عائشة فأكملت المعهد الفني ( جامعة السودان حالياً ) وانخرطت كمعلمة بالمدارس الثانوية داخل السودان وكمنتدبة خارج السودان . وتفوقت استاذة الرياضيات والعلوم فاطمة بدوي ناصر علي قريناتها وتدرجت حتي بلغت منصب المديرة !
تابعت محاسن انجازات بنات جيلها السالف والكوكبة الخالفة بشغف فضمنت قصص كفاحهن في حكاويها اليومية .
تحدثت بفخر عن إحسان محمد فخري- المولودة في 1936 والتي تأهلت حتي اصبحت أول قاضية محكمة عليا في السودان وفي افريقيا قاطبة !
حدثتنا عن رائدة الغناء الحديث الاستاذة عائشة الفلاتية، أول مغنية سودانية تصاحبها فرقة خاصة وصاحبة أول أسطوانات مسجلة في عام 1942. ولم تنس ان تحكي عن حواء جاه الرسول “حواء الطقطاقة”المولودة في عام 1926 ، الصوت المزماري الذي زاوج بين الغناء العاطفي واغاني الحماسة وحب الوطن .
كانت معجبة بالراحلة عفاف صفوت:
اشهر الاعلاميات السودانيات و أول مذيعه سودانية تقرأ نشرة الاخبار الرئيسية في التلفزيون.
حكت عن بنت امدرمان الرياضية ، منيرة رمضان ابكر محمد:، أول سودانية تعمل حكماً في الدرجة الاولي تمارس تحكيم كرة القدم لجمهور كثيراً ما ترك أمر فريقه وانهال بالسباب والشتم علي الحكم ! لكن منيرة الرمز تمكنت من اثبات جديتها ووجودها فإحترمها الناس ولزموا حدود الادب .
كانت الراحلة كشكولاً جامعاً لانجازات المرأة السودانية ، فلم تضن في التعريف او التذكير بكثير من الرائدات . ورد في احاديثها اسم بتول محمد عيسى ناظرة مدرسة القابلات (الدايات) المواجهة لحي الهاشماب من الشرق والتي ارتقت لتلك الوظيفة في العام 1946. وتحدثت عن بنت بحري ، السيدة حواء على البصير أول عميدة سودانية لكلية التمريض والتي تخرجت من دايات امدرمان عام 1941.
وتوالي جيل المبدعات في كل التخصصات . فكانت المصورة السينمائية الاستاذة وصال موسى اول مصورة سودانية في وحدة أفلام السودان( في السودان كل الشرق الأوسط.) . وفي الاخراج التلفزيوني كانت المخرجة صفية الأمين في العام 1964 اي مع بدايات دخول التلفزيون لمعظم الدول العربية.
تقول الحاجة محاسن ان المطربة السودانية أم الحسن الشايقية هي اول من قام بتسجيل أسطوانة في العام 1927- أي قبل 15 عاما من تسجيل الفلاتية لاسطوانتها !
وتضيف ان اول عازفة عود سودانية هي جداوية موسى، شقيقة الفنانة عائشة الفلاتية.
أما اول سيدة تتقلد رتبة ضابط شرطة فهي جنابو أميرة ديمتري ومعها فاطمة ابوبكر.
🟦حجاوي ….
كانت الوالدة تردد ضاحكة انها
" فارسة عبادية "عندما تود ان تميز نفسها وتمارس جاهلية الافتخار او عندما يأتي الحديث علي ذكر النضال . لم تعرف تعصباً قبليًا وكانت مثل كل اهل أمدرمان القديمة تزدري التعصب الجهوي وتستفزها دعاوي الطُهر العرقي .
أثرت خيالي وأخواتي بروايات متكررة عن الشاعرة والمناضلة مهبرة بت عبود ، بنت زعيم قبيلة الشايقية . كانت مهيرة مُحفزة الرجال لقتال اسماعيل باشا وجيشه التركي الغازي في معركة (كورتي) 4 نوفمبر 1820، وكانت تركب على هودجها وهي تقرأ الأشعار الحماسية. حفظنا من أمي الاسم الذي تكرر علي لسانها كرمز للبطولة وتضحية المرأة السودانية الجسورة في سوح النضال . فحفظنا في سن مبكرة مقاطع طويلة من "يا الباش (الباشا) الغشيم قول لـ جدادك كر".
أيضاً ، كانت الاستاذة ملكة الدار عبدالله احدي بطلات حكاوي أمي . فهذه السيدة كانت أول روائية سودانية، إذ ألفت رواية( الفراغ العريض) التي تناولت قضايا المرأة وهمومها في عام 1948 وعمرها 26 عاما" مولودة في 1922" لكنها لم تنشر روايتها الا في عام 1970. بدأت دراستها في خلوة الشيخ إسماعيل الولي بالأبيض وكانت تحفظ القرآن وتجيد ترتيله وهي صغيرة، كما تلقت تعليمها الأولي بمدرسة القبة بمدينة الأبيض وهي أول مدرسة للبنات في غرب السودان، وتخرجت في كلية تدريب المعلمات بأم درمان عام 1934.
🟦محطات في حياة والدتي
جد الحاجة محاسن ، جهة أمها ، هو الشيخ الطيب احمد هاشم ، اول من تقلد وظيفة " مفتي الديار السودانية" ومارسها لما يقارب ربع قرن من الزمان ( 1900-1924) .
أورد البروفيسور محمد عمر بشير في كتابه الموسوم " تاريخ الحركة الوطنية في السودان (1900 -1969 )" المترجم عن الإنجليزية الكثير من الخبايا التاريخية . ففي صفحة 90 ، مثلا، تحدث عن وفد السودان الذي سافر إلي لندن عام 1919 لتهنئة ملك بريطانيا بإنتصاراته في الحرب العظمي و تقديم الولاء و الطاعة لبريطانيا. قال نصا مايلي :
(وفي يوليو 1919 أرسل وفد سوداني لبريطانيا بهدف تهنئة مليكها على الانتصار في الحرب وتكون من ثلاثة رؤساء الطوائف هم :السيد علي الميرغني والشريف يوسف الهندي والسيد عبد الرحمن المهدي .
ومن ثلاثة علماء هم :
الشيخ الطيب أحمد هاشم " المفتي " والشيخ أبو القاسم أحمد هاشم " رئيس لجنة العلماء " والشيخ إسماعيل الأزهري " قاضي دارفور "
وأربعة من زعماء القبائل هم:
علي التوم " ناظر الكبابيش " وغبراهيم موسى" ناظر الهدندوة " وعوض الكريم أبو سن " نائب ناظر الشكرية " وإبراهيم محمد فرح" ناظر الجعليين ".
وفيما عدا السيد عبد الرحمن المهدي، كان أعضاء الوفد هم الموقعين على كتاب الولاء " سفر الولاء " وزعماء القبائل الأربعة من القبائل المعارضة للمهدية
و قد عنونت الصحافة البريطانية بعناوين مثيرة بعد وصول الوفد إلي لندن حيث عنونت صحيفة التايمز ( وصول نجل قاتل غردون إلي لندن)
=
*المصدر
تاريخ الحركة الوطنية في السودان
♦️حفظت الحاجة محاسن من والدها الشيخ بدوي ناصر الكثير من قصص السيرة النبوية فأعادت إخراجها مستعينة ببعض من خيال الصبية التي ولدت في العام 1933 وتزوجت في غضون 1946 وبدأت رحلة الانجاب فولدت سبعة اطفال في 14 عاما ، فتوقفت عن الانجاب لسنوات ثم عادت فولدت خاتمة العنقود وهي في الثلاثين من عمرها ، شقيقنا الاصغر المرحوم محمد في 1963 !
شكلت محطات هذه الرحلة المعقدة للطفلة محاسن منعطفات تركت بصماتها الغائرة في نفسها .
وبالرغم من ان والدها ، الشيخ بدوي ناصر ذو اللحية البيضاء الكاملة الاستدارة كان منفتح العقل ، بيد ان حرمانها من التعليم وإجبارها علي ترك الدراسة للاقتران بوالدي شق علي نفسها وزرع فيها اول بذور التمرد علي ذلك الواقع الاجتماعي الضاغط . فكثر تحريضها لاخواتي ، ولي ، علي ضرورة
التعلم والاجتهاد والمضي في عتبات ذلك السلم ما وسعنا الجهد .
رغم ماتوفرت عليه من ملكات ابداعية فذة ، بيد أنها لم تكن قانعة بما إكتسبت . لذا فانها كانت تحرص علي جعل نفسها نموذجاً لما يمكن ان يصيب المرء من " محدودية" اذا أهمل التعليم والاكتساب المعرفي الممنهج .
كانت تتحدث بفخر ، وكثير من الحرقة الذاتية ، عندما تعدد انجازات بنات جيلها - جيل الثلاثينيات !
♦️جمعت الحاجة محاسن في جوفها ما يشبه التضاد ، او قل التوازي السكك حديدي !
فقلبها المتعلق بأستار الكعبة وقباب مدينة المصطفي ، عليه افضل الصلوات والسلام ، جعلها " مدمنة حج" كما وصفت نفسها ذات مرة . وقد أجزل لها خالقها العطاء علي هذه المحبة المتجذرة فجعلها تضرب ارقاماً قياسية في عدد المرات التي حجت فيها الي بيته الحرام حتي اكملت ثلاثين ( 30) حجة !
وتشاء الاقدار ان تصعد روحها الي بارئها يوم الخميس الموافق 6 يونيو متزامنة مع الاعلان الرسمي بثبوت رؤية هلال شهر ذي الحجة، وان وقفة عرفات التي فعلتها 30 مرة ستكون يوم السبت 15 يونيو وسينحر المسلمون ذبائحهم تأسياً بأبيهم سيدنا ابراهيم يوم الأحد 16 يونيو.
لقد اختارها الله لجواره في ذات الايام التي كانت تنتظرها كل عام. كانت ان حل موسم الحج إمتلأ بدنها بالطاقة واللياقة فتنشط مع صديقتها " الموسمية " الحاجة فايزة في الطواف علي دور الدولة ذات الصلة بالحج يستخرجون الاوراق ومستلزمات السفر بهمة لا تفتر .
عرفتها اجيال من موظفي بعثة الحج السودانية فاستفادوا من علمها في تعريف افواج من الحاجات الجدد كيفية آداء المناسك علي الوجه الصحيح . زرتها ذات مرة في مقرها بعمارة الحجيج فوجدتها تتوسط ما يقارب 70 سيدة ، من كل الاعمار تشرح وتجيب علي أسئلتهم بذات الطريقة السردية المشوقة التي كانت تحكي لنا بها قصة
" فاطمة السمحة والغول" وبطولات علي ابن ابي طالب ، بل وحتي قصة تاجوج وعشيقها ود المحلق !
♦️أحبت فريق الهلال فحفظت مبارياته وتابعت آداؤه في كل البطولات ، فنافحت عنه بتعصب صبي مراهق . كانت تحرص يومياً علي قراءة 3 صحف : الازرق ، الدار وحكايا . سألتها ذات مرة لماذا تداوم علي انفاق فلوسها علي صحف صفراء . قالت لي ، دون ان تنزل الصحيفة المشدودة بين يديها في الهواء ( نحن عايشين ياولدي مع الحرامية عشان كده لازم نعرف جرايمهم ! ) …
كانت غرفتها في دارنا مجلس أنس لا ينفض ومنتدي يزوره الاهل والاصدقاء والجيران من كل فج عميق . هذه الدار في حي الهاشماب ، غرفتين وبرندة ، بناها جدي الامين ابوالقاسم هاشم في عام 1918 متبعاً التطبيق الهندسي المألوف الذي جعل من كل السودانيين مهندسين معماريين، واهداها لابنه البكر ، عمر .
♦️في هذه الدار العتيقة المبنية من طين أم در الاحمر والمشدودة بزبالة بهائم غرب امدرمان ، انجبت الوالدة محاسن كل ذريتها ، ففاضت الدار بالمحبة والاضافات كل عامين .
اصبحت غرفتها ذات السقف الخشبي الاسود منتدي رياضي واجتماعي زاره بشكل راتب الكثير من نجوم الرياضة والصحفيين المتخصصين ، وعلي رأسهم صديقها المُفضل عمر التوم كابتن الفريق القومي السوداني السابق رفقة ابنها الاصغر، الموردابي المتعصب ، المرحوم محمد عمر الامين وعموده " تكية شاطئية " . في "كواريك الكورة " ومغالطاتها كان معها علي الهاتف أو الغرفة رهط من الاعداء والاصدقاء : ابنها وصديقها الهلالابي محمد الطيب البلولة وجارها عطر السيرة القطب المريخابي العم طه صالح شريف والزميل الرياضي الاستاذ شجرابي.
كانت محاسن سيدة وطنية وسياسية ومثقفة من طراز فريد . تابعت مايجري حول العالم منذ صباحها الباكر عبر الترانزستور الذي ان تأملته لإعتقدت انه خارج لتوه من حراسات امن الدولة من فرط ما تعصب والتف حوله من شرايط لاصقة لاخفاء شقوقه وشد كسوره . كان ينام الي جوارها علي حافة السرير وقد خبر السقوط المتكرر علي السراميك كأي كائن شقي !
لازمها هذا الترانزستور منذ فجرها الباكر وحتي أمسياتها الطاعنة فإهتمت به وأطعمته بطاريات " ايفر ريدي" كلما إشتكي ضعفا ! احضرت لها مرة راديو يُشحن بالطاقة الشمسية . استخدمته ليوم ونصف فقط وقالت لي بما يشبه الاعتذار لجبر خاطر من رُدت هديته ( راديوك ده عاوز وقت يتشحن بره في الحوش وانا ما بقدر استغني عن الراديو) . نعم ،
كلمة وغطاها !
🟦 تحدي الموت والتمسك بامدرمان وبيت الجالوص :
في هذه الحرب ، رفضت بما يشبه القرار النهائي الخروج من مدينة امدرمان ، مدفن صُرّتها ونبض شريانها . أتتها شقيقتي عنايات وألحت لاصطحابها معها الي القاهرة خوفا من انهيار خدمات الغسيل الكلوي بعد ان اخبرتها نيتها مرافقة زوجها مريض الكلي (المرحوم محمد حنفي الذي انتقل في القاهرة بعد 4 أشهر من وصوله ) . رفضت الوالدة محاسن العرض وقالت انها باقية في بيتها . زارتها بنتها الكبري عزيزة بعد اسابيع بعرض مماثل عند اشتداد اوار الحرب وانتشار آثارها - رفضت وتمنت لها ولأسرتها رحلة سعيدة . جاءت بنتها عطيات وأسرتها وشرعوا في ذات التحانيس بعرض مختلف : هجرة داخلية الي عطيرة ، رفضت ! اما بنتها الصغري ، عايدة ، فلم يصب عرض دنقلا نجاحاً وكان حظه الرفض .
جاء الدور عليّ !
بعد الحاح لحوح ، ومحادثة عاطفية طويلة طرزها الدمع والنحيب - غادرت الحاجة الصامدة واختي البارة بها ، نفيسة ، دارنا بأمدرمان . غادرا حي الهاشماب ، الذي اصبح هدفاً عسكرياً لقربه من مباني الاذاعة والتلفزيون ، الي حي الثورة للإقامة مع عمتي الوحيدة ، السيدة فاطمة الامين ابوالقاسم وزوجها العم السنوسي عبدالهادي وابن عمتي الاستاذ معاوية وشقيقته مسرة وابنها وزوجها . هذه الجيرة الجديدة هي ، في حد ذاتها ، رواية مفصلة لما صنعته حرب الجنرالين بالسودان! فهذا الجوار الجديد أساسه تلاصق دارنا بدار عمتي فاطمة لكن البحث عن الامان هو الذي قذف بأسرتها الي مدينة الثورة فلحقت أمي ببنت خالتها وشقيقة زوجها وصديقة عمرها ، فاطمة الامين ابوالقاسم . ثم وفي رحلة نزوح جديدة توجهت الوالدة واختي الي عطبرة للحاق بعطيات وأسرتها . وصلوا عطبرة يوم 18 أغسطس وكاتت اول زيارة لطبية لفحص اورام انتفاخية سببتها مياه النيل غير المعالجة . كان محادثتي الطويلة معها ذلك اليوم مباراة سجالية إصطدم فيها المنطق بالايمان ، والتعنت بالرجاءات والتمنيات ….وكثير من التحنيس !
ذكرتني ، بتكرار ، بأقدار الله النافذة التي لا عاصم لها ، وان الموت الذي نفر منه ، لابد ، وأن يوقع بنا حتي ولو تسوّرنا البروج المشيدة . رددت مُؤمِّناً علي صحة قناعاتها الايمانية الصلبة ، موضحاً انني لا أخشي عليها من أقدار الله ، فهي حق نافذ ، وانما من " كآبة المنظر وسوء المنقلب " وانعدام من يستر عورة جثة او يضمد جُرح مصاب وبخاصة انها وعمتي المريضة اصبحا ضمن حفنة فقط من المنازل المأهولة في شارع حيّنا .
بحمد الله وفضله ، كانت مكانتي عندها عظيمة وكثيراً ما كنت عنواناً لاحاديثها ورضاها .
كان بيننا شئ من التوافق غير المكتوب ، فتركت لها أمر القرارات الكبري مالم تتوفر لدي مرئيات متعارضة ذات اسقاطات سالبة او خسائر فادحة . كانت تثمِّن رأيي كثيراً دون إنتقاصها من الإعتداد برأيها لذلك كنت حريصاً علي لباقة اعتراضها بما يستلزمه الامر من مرونة ودبلوماسية . فهي سيدة تعتمد علي مخزون وافر من التجارب الحياتية وانا إبنها الغارق في التنظير المُكتسب ! .
علمت منذ صغري انني اتعامل مع شخصية قيادية فولاذية تخطط وتنفذ في آن . وبالتالي ، فإن التنازع معها علي أي شبر من أرجاء مملكة نفوذها سيكون له تأثيراته التي لا قِبل لي بها . إخترت الطاعة علي المماحكة والانصياع علي المواجهة فكسبت رضاها ، وعلي ذلك أنا من الشاكرين .
🟦 محاسن : المرأة الفولاذية ..
♦️كان يوما دافئاً وممطراً من ايام سبتمبر 1984 . حان اليوم مغادرة والدي وأمي لواشنطن راجعين للخرطوم بعد أربعة أشهر من أجمل أيام حياتي .
منذ هجرتي لامريكا ودخولي في مواجهات مفتوحة مع نظام جعفر النميري ، تفاقمت ضرائب تلك المعارضة العلنية عليّ كصحفي . فألغي نظام النميري ، عبر سفارة واشنطن ، جواز سفري قبل حصولي علي الجنسية الامريكبة.
كان طبيعياً ان تترصدني سفارة النظام ، وكان طبيعباً ان اكون الشغل الشاغل للسفير عمر صالح عيسي ، رحمه الله ولقنصل الامن الجديد المقدم صفوت حسن صديق الذي تم استقدامه كأول عين للتحسس والتجسس يزرعها جهاز الامن السوداني في مجتمع واشنطن .
كتت مديراً لمكتب صحيفة السياسة الكويتية في العاصمة الامريكية . كانت تلك الجريدة الكويتية واحة خبرية لكل السودانيبن في الخليج واوروبا بل وحتي داخل السودان . فقرأها الناس بشغف وتابعوا بمثابرة ما نشرناه من تقارير جريئة عن فساد نظام نميري . من هناك كانت بداياتي في التقاربر التوثيقية عن الفساد المالي والاداري . تميزت تغطياتنا الاخبارية عن نظام ومفاسد نظام نميري بالشمول الذي تخصص فيه معي زميلي الشجاع ، صاحب القلم الرشيق ، المرحوم بابكر حسن مكي . توفرت جريدة السياسة علي ثلة من كبار الصحفيين منهم بطل الكتابة الساخرة الراحل محمود السعدني ،وتحليلات مسؤول التحرير الاول الرمز الاعلامي الاردني الاستاذ مصطفي ابولبدة بينما تسيدت ريشة المغدور ناجي العلي " ابوخالد " صفحة السياسة الاخيرة فكان رسوماته اليومية ورمزه الطفل
" علقمة " مقالات صامتة تجزئ عن كتب ومؤلفات بحالها .
بعد 6 سنوات من الابتعاد عن السودان دعوت الوالد والوالدة وشقيقتي عنايات لزيارتي ، فحضروا ورحب بهم مجتمع السودانيين الصغير آنذاك أيما ترحيب.
إنقضت أشهر الصيف سريعا فاستبقيت شقيقتي عنايات معي لعام تالٍ لكن بعد صعوبة وشد وجذب مع الوالدة . يوم الوداع ( تجسده صورة الوالدة في المطار وهي مستغرقة في التفكير ) .
رحلتنا ذلك اليوم من البيت للمطار كانت شبيهة بسيرة العرس ، فقد تقاسم الاصدقاء كل شئ : بعضهم حمل بعض الشنط وهرع لإنتظارنا بمطار دالاس ، وتنازعت في باب بيتنا د. نضال ابوالمعالي عبدالرحمن( رفيقة صديق العمر المرحوم بروف طيفور سيداحمد البيلي ) مع مدام صليحة حاكم ( زوجة صديقي الراحل السفير احمد عبدالوهاب ) علي ركوب عنايات معهم !
عندما اتي متحمسون لاقتسام الوالد والوالدة في سياراتهم طلبت منهم امي ، برفق ، ان يتركونا معا علي ان نلتق بهم في المطار .
فرحت اذ ظننت ، مخطئاً ، انها آمنت ببعض مما كانت ترفضه بشدة كلما أخطأت وذكرت كلمة " خصوصية " - ياالهي لكم كانت تكره تلك الكلمة !
" ياولدي ، والله امريكا دي ح تعقدكم وتلخبط حياتكم ساكت - خصوصية شنو ؟ "
الرحلة بالسيارة من منزلي في ضاحية فيينا بولاية فيرجينيا كانت تستغرق حوالي نصف الساعة .
كان الحديث كله وصايا معلومة علي ضرورة الانتباه لنفسي ، وعلي اختي . ومداخلة مني عن ضرورة تذكير اخي محمد ( رحمه الله واحسن اليه ) بضرورة استكمال بيانات تأشيرة القبول I-20
بالجامعة التي استخرجتها وأبعثها له معهما . طلبت حثه علي بذل المزيد من الجهد وتهيئة نفسه للتأقلم مع جدية الحياة بأمريكا ان أراد النجاح …
وفجأة ومع ان لاحت مباني مطار دالاس -واشنطن وتبقت فقط دقائق ، فجرت امي قنبلة داوية ( اسمع ياولدي ، الليلة الصباح انا وأبوك اتكلمنا عنك وعن أسباب إبتعادك عن البلد وهو نفس السبب اللي جابنا لي بلدك البعيدة دي عشان نشوفك . الحمد لله لقيناك طيب وشفتنا وشفناك وعرفنا كثير عن شغلك وافكارك . انحنا ما عايزين نتدخل في خبارك لكن خايفين عليك . عشان كده احسن حاجة نعملها ليك إننا نسهل عليك وما نعرضك لأي خطر . دحين ياولدي ، الاعمار بيد الله وانحنا عاطفيين منك ما تجي السودان لو حصل لي انا او لابوك مكروه او لو اخذ الخالق وديعته - ياعبدالرحمن ، لا تخاطر ابدا أفرش علينا في مكانك وادعو لينا بالرحمة والقبول )!
صعقت !
وللحظة ، تداخلت أمام ناظري خطوط المسارات البيضاء في أسفلت الطريق السريع ….
فقد ضربني شئ شبيه بحمولة محول كهربائي ، إنفجرت مولداته وتناثر تياره الصاقع في كل اتجاه .
- فجأة ! جابن سيحضر سيارة من العربات المنشورة المدينة الصغيرة أكبر صداع إعلامي عاني منه نظام النميري منذ منتصف السبعينات والي سقوطه في ابريل 1985.
🟦الدعاء لأمي ياأحبتي - تقبله الله مني ومنكم وثقّل به ميزان حسناتها . رحم الله والدينا ، وتقبل موتانا وخصكم بالنصيب الاوفر من الجزاء اً
اللهم اغفر لأمي ، خالتكم وحبوبتكم، الحاجة محاسن بدوي ناصر عثمان وارحمها ، وعافها واعف عنها، وأكرم نزلها، ووسع مدخلها، واغسلها بالماء والثلج والبرد.
اللهم نقها من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدلها دارا خيرا من دارها، وأهلا خيرا من أهلها، واجعل الجنة مثواها ، وأعذها من عذاب القبر، ومن عذاب النار .
اللهم إن محاسن بت ام سلمة في ذمتك، وحبل جوارك، فقها فتنة القبر وعذاب القبر ياأهل الوفاء والحق.
اللهم اغفر لها وارحمها ، وارفع درجتها، وعظم أجرها ، وأتمم نورها، وأفسح لها في قبرها ، وألحقها بنبيها وشفيعنا يوم الموقف العظيم .
” اللهم أنت ربنا وربها، خلقتها ورزقتها، أحييتها وأمتها، فاغفر لنا ولها، ولا تحرمنا أجرها ولا تضلنا بعدها.
اللهم لقد كان يوم الجمعة الموافق 7 يونيو 2024 ، الاول من ذي الحجة لعام 1444 بعد الهجرة هو أول يوم لأمي في قبرها بأرض مصر التي هربت اليها طالبة الامن والطمأنينة من حريق مدمر وحرب عبوس لا طائل منها ولا منتصر فيها ولا كاسب منها سوي اعداء السودان. اللهم وقد اكرمت والدتنا بالقبض علي روحها في هذه الايام المباركات ، نسألك بان تضاعف لها أجر ثلاثين حجة الي بيتك الحرام ، وان تجزها عن كل طواف وكل سعي وكل مشقة ما تجود به عليها . ا إلاهنا : اليوم ، أطل هذا الصباح ، وهو الاول، علي والدتنا في مرقدها بالبرزخ بعد ان غادرت الدنيا وتركتها لأهلها، فانقطع عملها وتوقف كسبها الا من رحمة ومغفرة تخصها بها ، اللهم ترفق بها ولا تقطع عنها رحمتك حتي تلقاك .
اللهم ، نشهد لها انها كانت موّحدة لك ، مؤمنة بك تعطر لسانها بذكرك دوماً وشهادة أن لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك، اللهم فاغفر لها وتجاوز عنها .
اللهم ياخالق أمتك محاسن بدوي ناصر عثمان ، ويابارئ روحها ، إن شئت عقابها فبذنبها ، وإن تغفر لها وترحمها فإنك أنت الغفور الرحيم اللهم إن كانت محسنة فزدها إحساناً ، وإن كانت مسيئة فتجاوز عن سيئاتها، أنر قبرها بالقرآن ، وأفسح لها بأعمالها الخيّرة .
اللهم أني أشهدك ، وأشهد حملة عرشك أن أمتك والدتي ، محاسن بنت ام سلمة الطيب احمد هاشم ماتركت من مكارم خلقا إلا وحضتنا عليه ، ولا صفة لتربية قويمة إلا وبذلتها لنا ، ولا من سلوك رفيع إلا وحرصت علي نحته في وجداننا ، اللهم إن تضاءل حصادنا عن وفرة زرعها ، فهذا بسبب تقصيرنا وعجزنا بلوغ عُلاها السامق . اللهم ضاعف لها وزدها فوق احسانها من احسانك ، وخذ نبلها وسماحة خلقها واغدق عليها مما عندك . اللهم أعطها ولا تحرمها ، جود عليها من كرمك ولا تقيدها بعطاء مجذوذ مكياله قسطاط ذو قدر معلوم . اللهم أعطها من غير حساب ، ولا تحرمها وضاعف لها ولا تنقصها ويسر أمرنا في التأسي بخلقها
اللهم أعف عنها وأرحمها بأضعاف ماأعطتنا مما إستخلفتها فيه من مال ومكارم خلق ، ونسألك ألا تترك لها ذنبا إلا وغفرته ولا أجرا تربويا إلا وإحتسبته وثقلّت به موازين حسناتها . إلاهنا وخالقنا ، وانت القائل أدعوني أستجب لكم ، نسألك بأن تنزل أمها الحاجة محاسن الدرجات العُلا من الجنة وتدثرها برحمتك ياأرحم الراحمين
اللهم إن فقيدتنا في ذمتك وحبل
جوارك، فأرفع درجتها ، وعظِّم أجرها ، وأفسح لها في قبرها وأنره بالضياء والقبول وأتمم نورك عليها بأن تجعل قبرها من حفر الذكر والسرور والهناءوليس من حفر النار والدود والشقاء
اللهم إنك أهل الوفاء فأغفر لها وارحمها ، إنك أنت الغفور الرحيم وأحشرها معية نبينا الكريم ، صلواتك عليه وسلامك
اللهم أنت ربنا وربها، خلقتها ورزقتها، أحييته وكفيتها وقبضت علي روحها في أجلك الموعود ، إلاهنا نسألك بأن تغفر لنا ولها ، ولا تحرمنا أجرها ولا تضلنا بعدها .
اللهم ان أمتك محاسن بدوي ناصر عثمان تقضي هذا المساء في جوارك وحرزك تفتقر الي رحمتك فأرحمها ولا تحرمها عفوك .
نسألك اللهم بأسمائك الحسني وصفاتك العُلا ، أن تبدد وحشة قبرها وتهدئ روعها وتجعل مرقدها روضة فسيحة من رياض الجنة .
اللهم انك تعلم بأنها كانت فينا مرجوة، أحببناها وتحلّقنا حولها حتي فاضت بنا عناقريب غرفتها الثلاثة . قصدناها لأمور شتي : للنصح في شأن خيري ، أو سماع دردشة " طاعمة" عن تأريخ أمدرمان ، أو دعوتها لغسيل جثمان ، أو لتولي مراسيم تراثية كجرتق عروسة في الحي - أو تقصّد شباب الحي من المريخاب زيارتها "لمكاواتها" و"مشاغلتها " عند هزيمة الهلال !
اللهم ان أمي وقد فارقت بأمرك النافذ بيتها وذريتها واحفادها وعشيرتها ، نسألك بان تكون لها العضد البديل والسند الذي لا يخيب وخفف عليها فقد كانت تشهد أن لا إله إلا أنت ، وأن محمدا عبدك ورسولك. اللهم ارحمها رحمة شاملة لا تترك لها ذنبا في صحائفها .
خالقنا وملاذنا : ان أمتك محاسن في رحابك ، وأنت خالقها ، فإن شئت حسابها فهي عبدتك، وإن شئت إكرامها فالكرم من اسمائك والعفو من صفاتك المقدسة . اللهم ان كانت محسنة فزد في إحسانها وضاعف أجرها ، وان كانت مقصرة فتجاوز عن صغائرها وهناتها واغفر لها وارحمها ، فأنت ، وليس من سواك ، من يغفر الذنوب ويمحو النواقص ويضاعف الثواب .
اللهم اغفر لأحيائنا، وأمواتنا، وذكراننا، وإناثنا، وصغيرنا، وكبيرنا، ومن أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم
اللهم صلي علي محمد وآل محمد كما صليت علي ابراهيم وعلي آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد ، اللهم بارك علي محمد وآل محمد كما باركت علي ابراهيم وعلي آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد
🤲الشكر والعرفان لكم ، أحبتي ، علي حروفكم المبذولة ، وعلي محاولات اتصالاتكم الهاتفية التي لم تنقطع وعلي رسائلكم وتعازيكم التي بلغتني رغما عن صعوبات النت حيثما اتواجد مؤقتاً ….
غفر الله لموتانا اجمعين وادام المعروف بيننا .
الدوام لله وحده لاشريك له
🔴كتلة المحاسن والفضائل : ثلاثون حجة ، حب أمدرمان ، حقيبة الفن وتشجيع الهلال !
⚫️عبدالرحمن الامين
aamin@journalist.com
أنشد ابوالعلاء المعري في أشباه امي فقال :
يقولون في البستان للعين لذة
وفي الراح والماء الذي غير آسن
إذا شئت أن تلقى “المحاسن”كلها
ففي وجه من تهوى جميع “المحاسن”
⭐️ ⭐️ ⭐️
كتبت عن أناس كثيرين ، فأصبت وأخطأت ….حال كل الوّراقين .
لكني في هذا الصباح الكئيب أحتشد للكتابة عن سيدة صنعتني ، فيالها من مهمة!
ولدتني، وأرضعتني وربتني….
علمتني من معاني الحياة ما ظل زاداً في جرابي .
كانت "كل شئ " عندي ، إستعمرت وجداني وسكنت في نخاعي الشوكي وذاكرتي .
رغم انني فارقت العيش معها بعد المرحلة الثانوية مباشرة لكن عبقريتها الفذة جعلتها تلتصق بكل خطاي ! إستلبت عقلي وهيمنت علي ماكينة نظامي القيمي فغدوت حالة من الاستشعار عن بُعد !!
كيف فعلت ذلك ؟
إنها حالة ، أو قل ما يفعله إعجاز التواصل المستمر الذي يتسامي حتي يبلغ برمجة العقل عن بعد !
حتي الكلام العادي اذا انبجس من لسان أمي الذرب ، تناثرت منه القناعات كقطع مضيئة من المأثورات والحِكم - لالئ ودرر :
أخاف من شنو ؟ العايز يمسك مني هواء الله ده خلي يمسكه!
الزول كان خلق روحه ، كان قلنا هو مخير فيها لكن مادام هو مخلوق فما عنده غير طاعة خالقه .
سيدة عصامية بشخصية نابليونية . توهجت بذكاء فطري محير يفرق بين الاكمة والشجيرات بنظرة يتيمة ، يعقبها تحليل متماسك النسق - وهو ما سيحدث في النهاية !
حضورها الأنيق في جلسات الانس يقفز بها اتوماتيكياً لتتسيد المشهد بدعابة وظرف يغرقك في متع الضحك بلا حابس . كانت ذات أقدام راسخة في واقعها ، لا تتعاطي مع سراب الاحلام .
كانت الراحلة أمة من الحكمة ذات شجاعة بائنة لا تخطئها العيون .
فالايمان المبرم بربها وتصاريف أقداره هو أول ما يخلص له جليسها ولو قضي معها ثانيتين ! تحرص ان تكون عبارات التوحيد بخالقها هي ادوات التنوين التي تزين حديثها . فتري الشولة مكان الصلاة علي نبينا الأمي سيد الخلق ، صلي الله عليه وسلم تسليماً كثيرا . أما إيمانها بربها وخضوعها لأقداره ومشيئته فهو النقطة والضمة - رضا واستسلام راكز البنّاء و مكتمل الاركان .
خنوع تام لمشيئة الخالق-ولا بِغِمْ…..
هيا تعرفوا علي أمي ، سيدتي وتاج عمري :
محاسن بدوي ناصر عثمان ، سيدة من نساء امدرمان القديمة .
ترخصت أمي في استخدامنا لإسمها حافياً، ولا أدري لماذا ! هل لأننا وجدنا شقيقتي الكبري ، عزيزة ، تناديها محاسن فسرنا خلفها أم أنها لم تعرف مدلولات ألقاب الأمومة لصغر سنها عندما انجبت بكرها ؟ الثابت لدينا انها لم تبدِ مانعاً اذا ناديناها “محاسن" بدون لقب او كنية معتادة مثل " أمي" أو غيرها . كان البيت كله ، ومنذ صباحه الباكر يتصايح
" محاسن ، محاسن محاسن " طلباً لمشورة أو لإذن أو عوناً في طارئ . كانت الدينمو الذي حرّك كل جزئيات الماكينة المنزلية علي كبرها وإختلاف احتياجاتها . أما هي فظلت المايسترو وسط هذه الاوكسترا ، توزع المهام وتخلط الاوزان وتصدر التوجيهات ! ربما كان صغر سنها حافزاً نفسياً لنا ان نعتبرها بعض منا !
ساقتني شقاوة الطفولة لاكتشاف اقصر الطرق الي قلبها عندما أروم عطية ، أو أنتوي شحدة مصروف اضافي أو آمن عقوبة أعرف انها مستحقة .
كنت عندما أريد الظفر بشئ أعلم إحتياجه لدفرة أو جرعة اضافية من التحنيس ، أجد ضالتي في اغاني الحقيبة التي تشير لاسمها ، وما أكثرها . فتراني أحوم حولها وأدندن مستعيناً بتقنيات "الاستهبال الاصطناعي "من تطريب مُنفّر بصوت عالٍ واعادة للمقطع حتي تحفظه أواني المطبخ ! :
"من محاسن حسنه المحاسن ، في جبينه النور والجمال "…
واذا طمعت في ريال فضي اسمعتها
"وان عشقنا بنعشق محاسن ، وفي المحاسن قضي يومنا راح "
أو
"قضينا ليلة ساهرة تضمنت محاسن من كل روضة عينة ومن كل عينة زهرة"
هناك أغنية " الشلن "
للشاعر إبراهيم العبادي وعنوانها ( شوف محاسن حسن الطبيعة تلقي هيبة و روعة و جلال )
ورغم انها تعج بصور جميلة عن الطبيعة لكن ما ان تصل الي " شوف نواحي الوادي الخديره
و الحمايم يشجيك هديره "حتي يرتفع صوت الشحّاد الاشتر مردداً بتكرار لا يفتر
" دي المحاسن و أنا قلبي ديره
شاهد إيد الصانع القديره
تملأ بهجة و عظمة و جلال "
كانت أغنية ( من محاسن حسنه المحاسن وفى جبينه النور والجمال) للشاعر عبيد عبدالرحمن هي " الطرّادة المضمونة "
. وكانت صنوها في الفعالية والتأثير قصيدة عبدالرحمن الريح التي يقول فيها
" يازهرة روض المحاسن
في الأخلاق ماليك نظيره
ادبك فطري عليك ظاهر وروحك سامي عزيز وباهر
وحسنك مغري شبابو زاهر
ولونك مفرح كالأزاهر
كلك تلمعي كلجواهر وتشبهي نور شمس الظهيرة"
أما أغنية الطلب المستجاب ، والتي كانت تغازل مزاج الراحلة فتعبث به بلا رادع ، وتجعلها تنافس حاتم الطائي في كرمه فقد كانت قصيدة " اقيس محاسنك بمن
ياالدرة الماليك تمن
والله نور عيني نور الزمن" للشاعر سيد عبدالعزيز .
ولأنني عرفت انها إحدي تفضيلاتها الغنائية فقد قمت بتخصيص هذه الاغنية بالذات عندما يستدعي الامر إسرافاً في الشحدة خارج المألوف ، قل شحدة خارج الصندوق التقليدي ! .
فكلمات الاغنية كافية لاختراق كل دفاعات الراحلة وبخاصة عندما يبلغ الحلقوم الاشتر سقفه الاعلي :
( الانوار يتزاحمن
في خدودك اخدن امن
ومن فاهك يتقسمن
بروق في بروق يتقسمن)
وأخيرا يصدر الامر الملكي ( هاك الخمسين دي لكين لو ما رجعت خمسة وعشرين ما بريّحك) !
كانت لا تستسيغ كلمة طرّادة، فلم تتعاطاها رغم علمها بقيمتها الحسابية . لا يهم ، فالمهم هو انني ضمنت " حق " السينما وعشاء بازار الاحفاد العجيب !
المهم ، كان إسمها مُحفزاً ومكتنزاً بجمال ظل ملهماً لي كل عمري
رغم انني ظللت ابنها الوحيد لسنوات طويلة إلا أن الدلع لم يعرف طريقه لعلاقتي معها . كانت الاكثر حزماً معي ، والصوت الاعلي توبيخاً ونقداً لي دون سائر الناس . رغم تفوقي الدراسي بيد أنها صامت عن الاشادة بما حققت طالبة مني المزيد فجعلتني دوماً في حالة عدم رضا عن المُحقق منصرفاً للمزيد من التجويد .إذًا أحست إفراطاً في فرحة بسبب تفوق أو انجاز أطلقت مضاداتها المألوفة ( حواء والدة) فتعيدني بسرعة الي فضيلة التواضع
♦️حفظت أغاني الحقيبة وحذقت رواية قصصها . فكانت اول مخرجة سينمائية تعرفت عليها وانا في حضنها الرؤوم أسبح بخيالي بعيداً في مرافئ رواياتها السردية . قابلت شخوصاً عبر حكاويها فأحببت كثيرا منهم ونفرت من أشرارهم وبالذات ذلك البعاتي اللعين ! مزجت لي الاحاجي بكثير من مشاهدات امدرمان الاربعينات والخمسينات …فكانت أمسياتي بقربها تعج بتحفة من افلام أوسكار التراث : تاجوج ، فاطمة السمحة، بنت السلطان ، أبوزيد الهلالي وغيرها كثير .
النشأة الفقهية للحاجة محاسن أوقدت جذوة رغبتها في التعلم والبقاء بين رصيفاتها رغم قرار جدتها قطع تعليمها الابتدائي وتزويجها ! كانت غاضبة وثائرة وناقمة علي ذلك القرار فقررت الاستزادة ذاتياً من المعرفة المبذولة مجاناً .
وجدت ضالتها في راديو الترانزستور الذي يظل يلعلع صباح مساء الي جوارها .
تعلمت أصابعها التفريق بين الموجات القصيرة والمنوسطة والطويلة دونما حاجة للنظر للجهاز . فتراها تسوط وتقلب الموجات منذ الصباح الباكر تسندها ذاكرة برامجية لا تخيب في حفظ اوقات البث : ماجد سرحان وحصاد اليوم الاخباري في BBC، المبارك ابراهيم وحقيبة الفن ، ركن الرياضة وعبدالله الطيب في حلقات تفسير القرآن ! اما نشرات الاخبار فهي الثابت الدائم !
🟦محاسن: الصراع بين الأمية والتطور وسيرة لنساء من الألماس !
كانت محاسن تنظر لبنات جيلها بفخر واعزاز فقد كن رائدات التغيير المجتمعي الذي هبت نسائمه في الثلاثينات واشتدت عواصفه في الاربعينات . كانت صديقتها اسماء احمد البشير الطيب هاشم الاقرب الي قلبها ومزاجها المعرفي . فالمرحومة أسماء ، الي جانب الوشيجة الجيلية ، هي بنت عمتهاالشول ناصر عثمان ، وبنت خالها الاستاذ احمد البشير الطيب هاشم - التربوي المرموق . كانت صديقتها أسماء ، أول هاشمابية تتخرج في الخمسينات من كلية الاداب بجامعة الخرطوم وقد سبقتها في عام 1952 كل من الدكتورات ، الامدرمانية ، خالدة زاهر سرور الساداتي والارمنية السودانية زروي سركيسيان بنت الخرطوم بحري المولودة في عام ١٩٢٩.
ترجمت الوالدة ثورتها علي موروثات التقاليد البالية بالعمل علناً وسراً علي جبهتين : منع أمواس التفصيد البربرية من الوصول لتشويه وجوه شقيقاتها عائشة ، علوية وفاطمة ، من جهة ، فضلاً عن الضغط باتجاه اقناع والدها السماح لاخواتها بمواصلة تعليمهن وعدم قطع مشوارهن المعرفي فكان لها ما أرادت . . كانت النتيجة باهرة اذ اكملت الخالة علوية امدرمان الثانوية قبل ان تتزوج اما عائشة فأكملت المعهد الفني ( جامعة السودان حالياً ) وانخرطت كمعلمة بالمدارس الثانوية داخل السودان وكمنتدبة خارج السودان . وتفوقت استاذة الرياضيات والعلوم فاطمة بدوي ناصر علي قريناتها وتدرجت حتي بلغت منصب المديرة !
تابعت محاسن انجازات بنات جيلها السالف والكوكبة الخالفة بشغف فضمنت قصص كفاحهن في حكاويها اليومية .
تحدثت بفخر عن إحسان محمد فخري- المولودة في 1936 والتي تأهلت حتي اصبحت أول قاضية محكمة عليا في السودان وفي افريقيا قاطبة !
حدثتنا عن رائدة الغناء الحديث الاستاذة عائشة الفلاتية، أول مغنية سودانية تصاحبها فرقة خاصة وصاحبة أول أسطوانات مسجلة في عام 1942. ولم تنس ان تحكي عن حواء جاه الرسول “حواء الطقطاقة”المولودة في عام 1926 ، الصوت المزماري الذي زاوج بين الغناء العاطفي واغاني الحماسة وحب الوطن .
كانت معجبة بالراحلة عفاف صفوت:
اشهر الاعلاميات السودانيات و أول مذيعه سودانية تقرأ نشرة الاخبار الرئيسية في التلفزيون.
حكت عن بنت امدرمان الرياضية ، منيرة رمضان ابكر محمد:، أول سودانية تعمل حكماً في الدرجة الاولي تمارس تحكيم كرة القدم لجمهور كثيراً ما ترك أمر فريقه وانهال بالسباب والشتم علي الحكم ! لكن منيرة الرمز تمكنت من اثبات جديتها ووجودها فإحترمها الناس ولزموا حدود الادب .
كانت الراحلة كشكولاً جامعاً لانجازات المرأة السودانية ، فلم تضن في التعريف او التذكير بكثير من الرائدات . ورد في احاديثها اسم بتول محمد عيسى ناظرة مدرسة القابلات (الدايات) المواجهة لحي الهاشماب من الشرق والتي ارتقت لتلك الوظيفة في العام 1946. وتحدثت عن بنت بحري ، السيدة حواء على البصير أول عميدة سودانية لكلية التمريض والتي تخرجت من دايات امدرمان عام 1941.
وتوالي جيل المبدعات في كل التخصصات . فكانت المصورة السينمائية الاستاذة وصال موسى اول مصورة سودانية في وحدة أفلام السودان( في السودان كل الشرق الأوسط.) . وفي الاخراج التلفزيوني كانت المخرجة صفية الأمين في العام 1964 اي مع بدايات دخول التلفزيون لمعظم الدول العربية.
تقول الحاجة محاسن ان المطربة السودانية أم الحسن الشايقية هي اول من قام بتسجيل أسطوانة في العام 1927- أي قبل 15 عاما من تسجيل الفلاتية لاسطوانتها !
وتضيف ان اول عازفة عود سودانية هي جداوية موسى، شقيقة الفنانة عائشة الفلاتية.
أما اول سيدة تتقلد رتبة ضابط شرطة فهي جنابو أميرة ديمتري ومعها فاطمة ابوبكر.
🟦حجاوي ….
كانت الوالدة تردد ضاحكة انها
" فارسة عبادية "عندما تود ان تميز نفسها وتمارس جاهلية الافتخار او عندما يأتي الحديث علي ذكر النضال . لم تعرف تعصباً قبليًا وكانت مثل كل اهل أمدرمان القديمة تزدري التعصب الجهوي وتستفزها دعاوي الطُهر العرقي .
أثرت خيالي وأخواتي بروايات متكررة عن الشاعرة والمناضلة مهبرة بت عبود ، بنت زعيم قبيلة الشايقية . كانت مهيرة مُحفزة الرجال لقتال اسماعيل باشا وجيشه التركي الغازي في معركة (كورتي) 4 نوفمبر 1820، وكانت تركب على هودجها وهي تقرأ الأشعار الحماسية. حفظنا من أمي الاسم الذي تكرر علي لسانها كرمز للبطولة وتضحية المرأة السودانية الجسورة في سوح النضال . فحفظنا في سن مبكرة مقاطع طويلة من "يا الباش (الباشا) الغشيم قول لـ جدادك كر".
أيضاً ، كانت الاستاذة ملكة الدار عبدالله احدي بطلات حكاوي أمي . فهذه السيدة كانت أول روائية سودانية، إذ ألفت رواية( الفراغ العريض) التي تناولت قضايا المرأة وهمومها في عام 1948 وعمرها 26 عاما" مولودة في 1922" لكنها لم تنشر روايتها الا في عام 1970. بدأت دراستها في خلوة الشيخ إسماعيل الولي بالأبيض وكانت تحفظ القرآن وتجيد ترتيله وهي صغيرة، كما تلقت تعليمها الأولي بمدرسة القبة بمدينة الأبيض وهي أول مدرسة للبنات في غرب السودان، وتخرجت في كلية تدريب المعلمات بأم درمان عام 1934.
🟦محطات في حياة والدتي
جد الحاجة محاسن ، جهة أمها ، هو الشيخ الطيب احمد هاشم ، اول من تقلد وظيفة " مفتي الديار السودانية" ومارسها لما يقارب ربع قرن من الزمان ( 1900-1924) .
أورد البروفيسور محمد عمر بشير في كتابه الموسوم " تاريخ الحركة الوطنية في السودان (1900 -1969 )" المترجم عن الإنجليزية الكثير من الخبايا التاريخية . ففي صفحة 90 ، مثلا، تحدث عن وفد السودان الذي سافر إلي لندن عام 1919 لتهنئة ملك بريطانيا بإنتصاراته في الحرب العظمي و تقديم الولاء و الطاعة لبريطانيا. قال نصا مايلي :
(وفي يوليو 1919 أرسل وفد سوداني لبريطانيا بهدف تهنئة مليكها على الانتصار في الحرب وتكون من ثلاثة رؤساء الطوائف هم :السيد علي الميرغني والشريف يوسف الهندي والسيد عبد الرحمن المهدي .
ومن ثلاثة علماء هم :
الشيخ الطيب أحمد هاشم " المفتي " والشيخ أبو القاسم أحمد هاشم " رئيس لجنة العلماء " والشيخ إسماعيل الأزهري " قاضي دارفور "
وأربعة من زعماء القبائل هم:
علي التوم " ناظر الكبابيش " وغبراهيم موسى" ناظر الهدندوة " وعوض الكريم أبو سن " نائب ناظر الشكرية " وإبراهيم محمد فرح" ناظر الجعليين ".
وفيما عدا السيد عبد الرحمن المهدي، كان أعضاء الوفد هم الموقعين على كتاب الولاء " سفر الولاء " وزعماء القبائل الأربعة من القبائل المعارضة للمهدية
و قد عنونت الصحافة البريطانية بعناوين مثيرة بعد وصول الوفد إلي لندن حيث عنونت صحيفة التايمز ( وصول نجل قاتل غردون إلي لندن)
=
*المصدر
تاريخ الحركة الوطنية في السودان
♦️حفظت الحاجة محاسن من والدها الشيخ بدوي ناصر الكثير من قصص السيرة النبوية فأعادت إخراجها مستعينة ببعض من خيال الصبية التي ولدت في العام 1933 وتزوجت في غضون 1946 وبدأت رحلة الانجاب فولدت سبعة اطفال في 14 عاما ، فتوقفت عن الانجاب لسنوات ثم عادت فولدت خاتمة العنقود وهي في الثلاثين من عمرها ، شقيقنا الاصغر المرحوم محمد في 1963 !
شكلت محطات هذه الرحلة المعقدة للطفلة محاسن منعطفات تركت بصماتها الغائرة في نفسها .
وبالرغم من ان والدها ، الشيخ بدوي ناصر ذو اللحية البيضاء الكاملة الاستدارة كان منفتح العقل ، بيد ان حرمانها من التعليم وإجبارها علي ترك الدراسة للاقتران بوالدي شق علي نفسها وزرع فيها اول بذور التمرد علي ذلك الواقع الاجتماعي الضاغط . فكثر تحريضها لاخواتي ، ولي ، علي ضرورة
التعلم والاجتهاد والمضي في عتبات ذلك السلم ما وسعنا الجهد .
رغم ماتوفرت عليه من ملكات ابداعية فذة ، بيد أنها لم تكن قانعة بما إكتسبت . لذا فانها كانت تحرص علي جعل نفسها نموذجاً لما يمكن ان يصيب المرء من " محدودية" اذا أهمل التعليم والاكتساب المعرفي الممنهج .
كانت تتحدث بفخر ، وكثير من الحرقة الذاتية ، عندما تعدد انجازات بنات جيلها - جيل الثلاثينيات !
♦️جمعت الحاجة محاسن في جوفها ما يشبه التضاد ، او قل التوازي السكك حديدي !
فقلبها المتعلق بأستار الكعبة وقباب مدينة المصطفي ، عليه افضل الصلوات والسلام ، جعلها " مدمنة حج" كما وصفت نفسها ذات مرة . وقد أجزل لها خالقها العطاء علي هذه المحبة المتجذرة فجعلها تضرب ارقاماً قياسية في عدد المرات التي حجت فيها الي بيته الحرام حتي اكملت ثلاثين ( 30) حجة !
وتشاء الاقدار ان تصعد روحها الي بارئها يوم الخميس الموافق 6 يونيو متزامنة مع الاعلان الرسمي بثبوت رؤية هلال شهر ذي الحجة، وان وقفة عرفات التي فعلتها 30 مرة ستكون يوم السبت 15 يونيو وسينحر المسلمون ذبائحهم تأسياً بأبيهم سيدنا ابراهيم يوم الأحد 16 يونيو.
لقد اختارها الله لجواره في ذات الايام التي كانت تنتظرها كل عام. كانت ان حل موسم الحج إمتلأ بدنها بالطاقة واللياقة فتنشط مع صديقتها " الموسمية " الحاجة فايزة في الطواف علي دور الدولة ذات الصلة بالحج يستخرجون الاوراق ومستلزمات السفر بهمة لا تفتر .
عرفتها اجيال من موظفي بعثة الحج السودانية فاستفادوا من علمها في تعريف افواج من الحاجات الجدد كيفية آداء المناسك علي الوجه الصحيح . زرتها ذات مرة في مقرها بعمارة الحجيج فوجدتها تتوسط ما يقارب 70 سيدة ، من كل الاعمار تشرح وتجيب علي أسئلتهم بذات الطريقة السردية المشوقة التي كانت تحكي لنا بها قصة
" فاطمة السمحة والغول" وبطولات علي ابن ابي طالب ، بل وحتي قصة تاجوج وعشيقها ود المحلق !
♦️أحبت فريق الهلال فحفظت مبارياته وتابعت آداؤه في كل البطولات ، فنافحت عنه بتعصب صبي مراهق . كانت تحرص يومياً علي قراءة 3 صحف : الازرق ، الدار وحكايا . سألتها ذات مرة لماذا تداوم علي انفاق فلوسها علي صحف صفراء . قالت لي ، دون ان تنزل الصحيفة المشدودة بين يديها في الهواء ( نحن عايشين ياولدي مع الحرامية عشان كده لازم نعرف جرايمهم ! ) …
كانت غرفتها في دارنا مجلس أنس لا ينفض ومنتدي يزوره الاهل والاصدقاء والجيران من كل فج عميق . هذه الدار في حي الهاشماب ، غرفتين وبرندة ، بناها جدي الامين ابوالقاسم هاشم في عام 1918 متبعاً التطبيق الهندسي المألوف الذي جعل من كل السودانيين مهندسين معماريين، واهداها لابنه البكر ، عمر .
♦️في هذه الدار العتيقة المبنية من طين أم در الاحمر والمشدودة بزبالة بهائم غرب امدرمان ، انجبت الوالدة محاسن كل ذريتها ، ففاضت الدار بالمحبة والاضافات كل عامين .
اصبحت غرفتها ذات السقف الخشبي الاسود منتدي رياضي واجتماعي زاره بشكل راتب الكثير من نجوم الرياضة والصحفيين المتخصصين ، وعلي رأسهم صديقها المُفضل عمر التوم كابتن الفريق القومي السوداني السابق رفقة ابنها الاصغر، الموردابي المتعصب ، المرحوم محمد عمر الامين وعموده " تكية شاطئية " . في "كواريك الكورة " ومغالطاتها كان معها علي الهاتف أو الغرفة رهط من الاعداء والاصدقاء : ابنها وصديقها الهلالابي محمد الطيب البلولة وجارها عطر السيرة القطب المريخابي العم طه صالح شريف والزميل الرياضي الاستاذ شجرابي.
كانت محاسن سيدة وطنية وسياسية ومثقفة من طراز فريد . تابعت مايجري حول العالم منذ صباحها الباكر عبر الترانزستور الذي ان تأملته لإعتقدت انه خارج لتوه من حراسات امن الدولة من فرط ما تعصب والتف حوله من شرايط لاصقة لاخفاء شقوقه وشد كسوره . كان ينام الي جوارها علي حافة السرير وقد خبر السقوط المتكرر علي السراميك كأي كائن شقي !
لازمها هذا الترانزستور منذ فجرها الباكر وحتي أمسياتها الطاعنة فإهتمت به وأطعمته بطاريات " ايفر ريدي" كلما إشتكي ضعفا ! احضرت لها مرة راديو يُشحن بالطاقة الشمسية . استخدمته ليوم ونصف فقط وقالت لي بما يشبه الاعتذار لجبر خاطر من رُدت هديته ( راديوك ده عاوز وقت يتشحن بره في الحوش وانا ما بقدر استغني عن الراديو) . نعم ،
كلمة وغطاها !
🟦 تحدي الموت والتمسك بامدرمان وبيت الجالوص :
في هذه الحرب ، رفضت بما يشبه القرار النهائي الخروج من مدينة امدرمان ، مدفن صُرّتها ونبض شريانها . أتتها شقيقتي عنايات وألحت لاصطحابها معها الي القاهرة خوفا من انهيار خدمات الغسيل الكلوي بعد ان اخبرتها نيتها مرافقة زوجها مريض الكلي (المرحوم محمد حنفي الذي انتقل في القاهرة بعد 4 أشهر من وصوله ) . رفضت الوالدة محاسن العرض وقالت انها باقية في بيتها . زارتها بنتها الكبري عزيزة بعد اسابيع بعرض مماثل عند اشتداد اوار الحرب وانتشار آثارها - رفضت وتمنت لها ولأسرتها رحلة سعيدة . جاءت بنتها عطيات وأسرتها وشرعوا في ذات التحانيس بعرض مختلف : هجرة داخلية الي عطيرة ، رفضت ! اما بنتها الصغري ، عايدة ، فلم يصب عرض دنقلا نجاحاً وكان حظه الرفض .
جاء الدور عليّ !
بعد الحاح لحوح ، ومحادثة عاطفية طويلة طرزها الدمع والنحيب - غادرت الحاجة الصامدة واختي البارة بها ، نفيسة ، دارنا بأمدرمان . غادرا حي الهاشماب ، الذي اصبح هدفاً عسكرياً لقربه من مباني الاذاعة والتلفزيون ، الي حي الثورة للإقامة مع عمتي الوحيدة ، السيدة فاطمة الامين ابوالقاسم وزوجها العم السنوسي عبدالهادي وابن عمتي الاستاذ معاوية وشقيقته مسرة وابنها وزوجها . هذه الجيرة الجديدة هي ، في حد ذاتها ، رواية مفصلة لما صنعته حرب الجنرالين بالسودان! فهذا الجوار الجديد أساسه تلاصق دارنا بدار عمتي فاطمة لكن البحث عن الامان هو الذي قذف بأسرتها الي مدينة الثورة فلحقت أمي ببنت خالتها وشقيقة زوجها وصديقة عمرها ، فاطمة الامين ابوالقاسم . ثم وفي رحلة نزوح جديدة توجهت الوالدة واختي الي عطبرة للحاق بعطيات وأسرتها . وصلوا عطبرة يوم 18 أغسطس وكاتت اول زيارة لطبية لفحص اورام انتفاخية سببتها مياه النيل غير المعالجة . كان محادثتي الطويلة معها ذلك اليوم مباراة سجالية إصطدم فيها المنطق بالايمان ، والتعنت بالرجاءات والتمنيات ….وكثير من التحنيس !
ذكرتني ، بتكرار ، بأقدار الله النافذة التي لا عاصم لها ، وان الموت الذي نفر منه ، لابد ، وأن يوقع بنا حتي ولو تسوّرنا البروج المشيدة . رددت مُؤمِّناً علي صحة قناعاتها الايمانية الصلبة ، موضحاً انني لا أخشي عليها من أقدار الله ، فهي حق نافذ ، وانما من " كآبة المنظر وسوء المنقلب " وانعدام من يستر عورة جثة او يضمد جُرح مصاب وبخاصة انها وعمتي المريضة اصبحا ضمن حفنة فقط من المنازل المأهولة في شارع حيّنا .
بحمد الله وفضله ، كانت مكانتي عندها عظيمة وكثيراً ما كنت عنواناً لاحاديثها ورضاها .
كان بيننا شئ من التوافق غير المكتوب ، فتركت لها أمر القرارات الكبري مالم تتوفر لدي مرئيات متعارضة ذات اسقاطات سالبة او خسائر فادحة . كانت تثمِّن رأيي كثيراً دون إنتقاصها من الإعتداد برأيها لذلك كنت حريصاً علي لباقة اعتراضها بما يستلزمه الامر من مرونة ودبلوماسية . فهي سيدة تعتمد علي مخزون وافر من التجارب الحياتية وانا إبنها الغارق في التنظير المُكتسب ! .
علمت منذ صغري انني اتعامل مع شخصية قيادية فولاذية تخطط وتنفذ في آن . وبالتالي ، فإن التنازع معها علي أي شبر من أرجاء مملكة نفوذها سيكون له تأثيراته التي لا قِبل لي بها . إخترت الطاعة علي المماحكة والانصياع علي المواجهة فكسبت رضاها ، وعلي ذلك أنا من الشاكرين .
🟦 محاسن : المرأة الفولاذية ..
♦️كان يوما دافئاً وممطراً من ايام سبتمبر 1984 . حان اليوم مغادرة والدي وأمي لواشنطن راجعين للخرطوم بعد أربعة أشهر من أجمل أيام حياتي .
منذ هجرتي لامريكا ودخولي في مواجهات مفتوحة مع نظام جعفر النميري ، تفاقمت ضرائب تلك المعارضة العلنية عليّ كصحفي . فألغي نظام النميري ، عبر سفارة واشنطن ، جواز سفري قبل حصولي علي الجنسية الامريكبة.
كان طبيعياً ان تترصدني سفارة النظام ، وكان طبيعباً ان اكون الشغل الشاغل للسفير عمر صالح عيسي ، رحمه الله ولقنصل الامن الجديد المقدم صفوت حسن صديق الذي تم استقدامه كأول عين للتحسس والتجسس يزرعها جهاز الامن السوداني في مجتمع واشنطن .
كتت مديراً لمكتب صحيفة السياسة الكويتية في العاصمة الامريكية . كانت تلك الجريدة الكويتية واحة خبرية لكل السودانيبن في الخليج واوروبا بل وحتي داخل السودان . فقرأها الناس بشغف وتابعوا بمثابرة ما نشرناه من تقارير جريئة عن فساد نظام نميري . من هناك كانت بداياتي في التقاربر التوثيقية عن الفساد المالي والاداري . تميزت تغطياتنا الاخبارية عن نظام ومفاسد نظام نميري بالشمول الذي تخصص فيه معي زميلي الشجاع ، صاحب القلم الرشيق ، المرحوم بابكر حسن مكي . توفرت جريدة السياسة علي ثلة من كبار الصحفيين منهم بطل الكتابة الساخرة الراحل محمود السعدني ،وتحليلات مسؤول التحرير الاول الرمز الاعلامي الاردني الاستاذ مصطفي ابولبدة بينما تسيدت ريشة المغدور ناجي العلي " ابوخالد " صفحة السياسة الاخيرة فكان رسوماته اليومية ورمزه الطفل
" علقمة " مقالات صامتة تجزئ عن كتب ومؤلفات بحالها .
بعد 6 سنوات من الابتعاد عن السودان دعوت الوالد والوالدة وشقيقتي عنايات لزيارتي ، فحضروا ورحب بهم مجتمع السودانيين الصغير آنذاك أيما ترحيب.
إنقضت أشهر الصيف سريعا فاستبقيت شقيقتي عنايات معي لعام تالٍ لكن بعد صعوبة وشد وجذب مع الوالدة . يوم الوداع ( تجسده صورة الوالدة في المطار وهي مستغرقة في التفكير ) .
رحلتنا ذلك اليوم من البيت للمطار كانت شبيهة بسيرة العرس ، فقد تقاسم الاصدقاء كل شئ : بعضهم حمل بعض الشنط وهرع لإنتظارنا بمطار دالاس ، وتنازعت في باب بيتنا د. نضال ابوالمعالي عبدالرحمن( رفيقة صديق العمر المرحوم بروف طيفور سيداحمد البيلي ) مع مدام صليحة حاكم ( زوجة صديقي الراحل السفير احمد عبدالوهاب ) علي ركوب عنايات معهم !
عندما اتي متحمسون لاقتسام الوالد والوالدة في سياراتهم طلبت منهم امي ، برفق ، ان يتركونا معا علي ان نلتق بهم في المطار .
فرحت اذ ظننت ، مخطئاً ، انها آمنت ببعض مما كانت ترفضه بشدة كلما أخطأت وذكرت كلمة " خصوصية " - ياالهي لكم كانت تكره تلك الكلمة !
" ياولدي ، والله امريكا دي ح تعقدكم وتلخبط حياتكم ساكت - خصوصية شنو ؟ "
الرحلة بالسيارة من منزلي في ضاحية فيينا بولاية فيرجينيا كانت تستغرق حوالي نصف الساعة .
كان الحديث كله وصايا معلومة علي ضرورة الانتباه لنفسي ، وعلي اختي . ومداخلة مني عن ضرورة تذكير اخي محمد ( رحمه الله واحسن اليه ) بضرورة استكمال بيانات تأشيرة القبول I-20
بالجامعة التي استخرجتها وأبعثها له معهما . طلبت حثه علي بذل المزيد من الجهد وتهيئة نفسه للتأقلم مع جدية الحياة بأمريكا ان أراد النجاح …
وفجأة ومع ان لاحت مباني مطار دالاس -واشنطن وتبقت فقط دقائق ، فجرت امي قنبلة داوية ( اسمع ياولدي ، الليلة الصباح انا وأبوك اتكلمنا عنك وعن أسباب إبتعادك عن البلد وهو نفس السبب اللي جابنا لي بلدك البعيدة دي عشان نشوفك . الحمد لله لقيناك طيب وشفتنا وشفناك وعرفنا كثير عن شغلك وافكارك . انحنا ما عايزين نتدخل في خبارك لكن خايفين عليك . عشان كده احسن حاجة نعملها ليك إننا نسهل عليك وما نعرضك لأي خطر . دحين ياولدي ، الاعمار بيد الله وانحنا عاطفيين منك ما تجي السودان لو حصل لي انا او لابوك مكروه او لو اخذ الخالق وديعته - ياعبدالرحمن ، لا تخاطر ابدا أفرش علينا في مكانك وادعو لينا بالرحمة والقبول )!
صعقت !
وللحظة ، تداخلت أمام ناظري خطوط المسارات البيضاء في أسفلت الطريق السريع ….
فقد ضربني شئ شبيه بحمولة محول كهربائي ، إنفجرت مولداته وتناثر تياره الصاقع في كل اتجاه .
- فجأة ! جابن سيحضر سيارة من العربات المنشورة المدينة الصغيرة أكبر صداع إعلامي عاني منه نظام النميري منذ منتصف السبعينات والي سقوطه في ابريل 1985.
🟦الدعاء لأمي ياأحبتي - تقبله الله مني ومنكم وثقّل به ميزان حسناتها . رحم الله والدينا ، وتقبل موتانا وخصكم بالنصيب الاوفر من الجزاء اً
اللهم اغفر لأمي ، خالتكم وحبوبتكم، الحاجة محاسن بدوي ناصر عثمان وارحمها ، وعافها واعف عنها، وأكرم نزلها، ووسع مدخلها، واغسلها بالماء والثلج والبرد.
اللهم نقها من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدلها دارا خيرا من دارها، وأهلا خيرا من أهلها، واجعل الجنة مثواها ، وأعذها من عذاب القبر، ومن عذاب النار .
اللهم إن محاسن بت ام سلمة في ذمتك، وحبل جوارك، فقها فتنة القبر وعذاب القبر ياأهل الوفاء والحق.
اللهم اغفر لها وارحمها ، وارفع درجتها، وعظم أجرها ، وأتمم نورها، وأفسح لها في قبرها ، وألحقها بنبيها وشفيعنا يوم الموقف العظيم .
” اللهم أنت ربنا وربها، خلقتها ورزقتها، أحييتها وأمتها، فاغفر لنا ولها، ولا تحرمنا أجرها ولا تضلنا بعدها.
اللهم لقد كان يوم الجمعة الموافق 7 يونيو 2024 ، الاول من ذي الحجة لعام 1444 بعد الهجرة هو أول يوم لأمي في قبرها بأرض مصر التي هربت اليها طالبة الامن والطمأنينة من حريق مدمر وحرب عبوس لا طائل منها ولا منتصر فيها ولا كاسب منها سوي اعداء السودان. اللهم وقد اكرمت والدتنا بالقبض علي روحها في هذه الايام المباركات ، نسألك بان تضاعف لها أجر ثلاثين حجة الي بيتك الحرام ، وان تجزها عن كل طواف وكل سعي وكل مشقة ما تجود به عليها . ا إلاهنا : اليوم ، أطل هذا الصباح ، وهو الاول، علي والدتنا في مرقدها بالبرزخ بعد ان غادرت الدنيا وتركتها لأهلها، فانقطع عملها وتوقف كسبها الا من رحمة ومغفرة تخصها بها ، اللهم ترفق بها ولا تقطع عنها رحمتك حتي تلقاك .
اللهم ، نشهد لها انها كانت موّحدة لك ، مؤمنة بك تعطر لسانها بذكرك دوماً وشهادة أن لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك، اللهم فاغفر لها وتجاوز عنها .
اللهم ياخالق أمتك محاسن بدوي ناصر عثمان ، ويابارئ روحها ، إن شئت عقابها فبذنبها ، وإن تغفر لها وترحمها فإنك أنت الغفور الرحيم اللهم إن كانت محسنة فزدها إحساناً ، وإن كانت مسيئة فتجاوز عن سيئاتها، أنر قبرها بالقرآن ، وأفسح لها بأعمالها الخيّرة .
اللهم أني أشهدك ، وأشهد حملة عرشك أن أمتك والدتي ، محاسن بنت ام سلمة الطيب احمد هاشم ماتركت من مكارم خلقا إلا وحضتنا عليه ، ولا صفة لتربية قويمة إلا وبذلتها لنا ، ولا من سلوك رفيع إلا وحرصت علي نحته في وجداننا ، اللهم إن تضاءل حصادنا عن وفرة زرعها ، فهذا بسبب تقصيرنا وعجزنا بلوغ عُلاها السامق . اللهم ضاعف لها وزدها فوق احسانها من احسانك ، وخذ نبلها وسماحة خلقها واغدق عليها مما عندك . اللهم أعطها ولا تحرمها ، جود عليها من كرمك ولا تقيدها بعطاء مجذوذ مكياله قسطاط ذو قدر معلوم . اللهم أعطها من غير حساب ، ولا تحرمها وضاعف لها ولا تنقصها ويسر أمرنا في التأسي بخلقها
اللهم أعف عنها وأرحمها بأضعاف ماأعطتنا مما إستخلفتها فيه من مال ومكارم خلق ، ونسألك ألا تترك لها ذنبا إلا وغفرته ولا أجرا تربويا إلا وإحتسبته وثقلّت به موازين حسناتها . إلاهنا وخالقنا ، وانت القائل أدعوني أستجب لكم ، نسألك بأن تنزل أمها الحاجة محاسن الدرجات العُلا من الجنة وتدثرها برحمتك ياأرحم الراحمين
اللهم إن فقيدتنا في ذمتك وحبل
جوارك، فأرفع درجتها ، وعظِّم أجرها ، وأفسح لها في قبرها وأنره بالضياء والقبول وأتمم نورك عليها بأن تجعل قبرها من حفر الذكر والسرور والهناءوليس من حفر النار والدود والشقاء
اللهم إنك أهل الوفاء فأغفر لها وارحمها ، إنك أنت الغفور الرحيم وأحشرها معية نبينا الكريم ، صلواتك عليه وسلامك
اللهم أنت ربنا وربها، خلقتها ورزقتها، أحييته وكفيتها وقبضت علي روحها في أجلك الموعود ، إلاهنا نسألك بأن تغفر لنا ولها ، ولا تحرمنا أجرها ولا تضلنا بعدها .
اللهم ان أمتك محاسن بدوي ناصر عثمان تقضي هذا المساء في جوارك وحرزك تفتقر الي رحمتك فأرحمها ولا تحرمها عفوك .
نسألك اللهم بأسمائك الحسني وصفاتك العُلا ، أن تبدد وحشة قبرها وتهدئ روعها وتجعل مرقدها روضة فسيحة من رياض الجنة .
اللهم انك تعلم بأنها كانت فينا مرجوة، أحببناها وتحلّقنا حولها حتي فاضت بنا عناقريب غرفتها الثلاثة . قصدناها لأمور شتي : للنصح في شأن خيري ، أو سماع دردشة " طاعمة" عن تأريخ أمدرمان ، أو دعوتها لغسيل جثمان ، أو لتولي مراسيم تراثية كجرتق عروسة في الحي - أو تقصّد شباب الحي من المريخاب زيارتها "لمكاواتها" و"مشاغلتها " عند هزيمة الهلال !
اللهم ان أمي وقد فارقت بأمرك النافذ بيتها وذريتها واحفادها وعشيرتها ، نسألك بان تكون لها العضد البديل والسند الذي لا يخيب وخفف عليها فقد كانت تشهد أن لا إله إلا أنت ، وأن محمدا عبدك ورسولك. اللهم ارحمها رحمة شاملة لا تترك لها ذنبا في صحائفها .
خالقنا وملاذنا : ان أمتك محاسن في رحابك ، وأنت خالقها ، فإن شئت حسابها فهي عبدتك، وإن شئت إكرامها فالكرم من اسمائك والعفو من صفاتك المقدسة . اللهم ان كانت محسنة فزد في إحسانها وضاعف أجرها ، وان كانت مقصرة فتجاوز عن صغائرها وهناتها واغفر لها وارحمها ، فأنت ، وليس من سواك ، من يغفر الذنوب ويمحو النواقص ويضاعف الثواب .
اللهم اغفر لأحيائنا، وأمواتنا، وذكراننا، وإناثنا، وصغيرنا، وكبيرنا، ومن أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم
اللهم صلي علي محمد وآل محمد كما صليت علي ابراهيم وعلي آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد ، اللهم بارك علي محمد وآل محمد كما باركت علي ابراهيم وعلي آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد
🤲الشكر والعرفان لكم ، أحبتي ، علي حروفكم المبذولة ، وعلي محاولات اتصالاتكم الهاتفية التي لم تنقطع وعلي رسائلكم وتعازيكم التي بلغتني رغما عن صعوبات النت حيثما اتواجد مؤقتاً ….
غفر الله لموتانا اجمعين وادام المعروف بيننا .
الدوام لله وحده لاشريك له