وداعا السفير احمد التنى

 


 

 

 

قبل يومين من ذهابه الى مشفى البست كير للعلاج من كسر مفاجىء تعرض له ..اتصل بى قائلا بانه قرر الاستقرار (نهائيا ) فى السودان وأضاف بأنه ينوى زيارتى والاسرة برفقة زوجته الزميلة السفيرة فاطمة البيلى ، وابان وجوده على السرير الابيض لم تتح لى الزيارة ، وقد قيل لنا بأنها ايام و سيتمكن من الخروج متعافيا.

خرج ، وعلمت انه اصيب بأزمة قلبية مفاجئة لينقل الى مشفى الفضيل فى قسم العناية المكثفة..و بدأت هواجسى أفكر فيما قاله ..سأتى للاستقرار نهائيا فى السودان ..هل جاء أمر الله عز وجل، وسعيت لابعاد الفكرة من رأسى رغم ان جارى دكتور طيفور البيلى شقيق السفيرة فاطمة حدثنى بحزن عميق ان حالة أحمد حرجة..ليأتينا الخبر المفجع مساء الاثنين 24 ابريل.ليلتحق بشقيقته التى سبقته بأيام و يكون فى معية والده المهندس الشاعر السفير يوسف مصطفى التنى .

كان أحمد من الدبلوماسيين المميزين علما وثقافة ، ولم أكن محظوظا للعمل معه فى اية بعثة من البعثات، ولكن جمعتنا ظروف التحضير لمؤتمر عقد ابان فترة الديمقراطية الثالثة..كان هو الرائد له .اختير للمؤتمر عنوان :- ( دبلوماسية فاعلة لدولة فقيرة )..فهو مع زملاء مهمومين بقضايا الوطن كانت دعوتهم بأن للسودان الحق ان يكون له تمثيل فى معظم بلاد العالم ولكن مع مراعاة تخفيض التكلفة

المالية بالسعى لامتلاك دار البعثة وسكن رئيسها، و لا عجب فأحمد قد رضع من فم والده الشاعر :-

ندنى بالائتلاف امالنا البعيدة

لا نعرف الخلاف فى الجنس والعقيدة

فالدين لله والمجد للوطن

عرف أحمد بعلو مقامه فى العمل الدبلوماسى ، وعلاقاته الاخوية الصادقة مع زملائه ، مع تمتعه بثقافة عالية ، ورؤية قومية لقضايا الوطن اسوة بما قاله والده الراحل فى احدى فرائده :-

وطنى تنازله التحزب والهوى هذا يكيد له وذاك طغى به

وقد يعانى من جفا ابنائه فوق الذى عاناه من اغرابه

بهذه الروح..ذهب سفيرا للسودان فى الدوحة ، هدفه ان يخدم الوطن ، ويجمع شتات ابنائه وبناته ، فالسفارة هى سفارة كل السودانيين.ولكن فى تلك الفترات العصيبة من تاريخ وطننا المكلوم..كانت هناك اجندات من بعض محدودى التفكير، ضيقى الافق..حيث ظنوا ان من ليس مدرجا فى جماعتهم . لا يستحق ان يبقوا فى الخدمة ! .

و امتلآت ساحات البعثات ببعض من الموالين او انتهازيين صنفوا الناس هذا مؤيد وذاك معارض واخر محايد او متردد

!! هذه التصنيفات كانت فضفاضة ، و سبقتها دراسات فطيرة عن العاملين فى المرافق العامة على كافة مستوياتها,,ولكنها أصبحت هى المعيار للاجتثاث!!.

وفى قصة تناولتها الاسافير ذاك الزمان فى الربع الاول من تسعينيات القرن الماضى استدعى السفير احمد الى الرئاسة ثم احيل لما سمى الصالح العام..و كان السبب غريبا مدهشا ..كتب عن خلفياته كاتبنا المبدع الطيب صالح تحت عنوان ( نحو أفق بعيد) فى 21 يونيو 1993 قائلا بأنه ظل متشبثا بجوازه السودانى متسائلا هل الجواز يمثل هذا السودان ( المؤقت ) أم السودان فى صيرورته المتناهية ؟، سودان اصحابنا هؤلاء الذين رفعوا المصاحف الشريفة على اسنة الرماح ، أم سودان الرجال والنساء الذين مشوا على الارض هونا ودافعوا بالتى هى أحسن وربطوا البطون على الطوى، تحسبهم اغنياء من التعفف .. و سرد الكاتب الكبير الحالة قائلا :- لقد كنت فى الدوحة حين انتهى أمد جوازى ، وذهبت الى السفارة وأنا بين الشك واليقين، فقد كنت اعلم ان الجواز لم يعد حقا مشروعا فى هذا العهد ، ولكنه منة يمنحونه ويمنعونه كما يحلو لهم ، وكانت ترد الى السفارة من الخرطوم قوائم باسماء مواطنين حرام عليهم التمتع بالحق الذى فرضته عليهم القوانين والاعراف، و مايدرينى اننى واحد منهم . و استطرد الطيب قائلا :-

ولكننى وجدت سفيرا ( غير هياب ) ولا وجل ( سودانيا كأحسن مايكون السودانى ) ، وكان من القلة التى بقيت من

الدبلوماسيين الاكفاء بعدحملات التطهير والتشريد والاحالة على المعاش ، وكان الناس يعجبون كيف انهم لم ينتبهوا اليه، فظل فى منصبه ، يعامل المواطنين بمختلف انتماءاتهم السياسية دون تفرقة، دائما تجده بينهم فى مسراتهم واحزانهم، لا يبالى ان كان الشخص مرضيا عليه من النظام ام لا، ولم يكن يهاب ان يجدد الجوازات دون ان يطلب الاذن من الخرطوم لانه يعلم انه لو سألهم فسوف يجيبون بلا( من خيار الناس وخيار السفراء )بشهادة اهل البلد التى عمل بها وكل من عرفه او تعامل معه ، اعادوه الى الخرطوم ضربة لازب ولم يلبثوا ان احالوه للمعاش وهو فى عز الشباب وعلو النشاط وقصارى الجهد فى خدمة الوطن ),, هذه شهادة الكاتب العالمى الطيب صالح الذى تساءل ..من اين أتى هؤلاء ؟؟!! كان سؤالا تطرحه الاغلبية فى تلك الايام البائسة .

علاقتى بالراحل احمد امتدت..حيث أتى الى الكويت فى تلك الايام من النصف الثانى من عام 1989 وكنت مستشارا بالبعثة الدبلوماسية بينما كانت زوجته الفاضلة فاطمة البيلى الوزير المفوض.ورغم انه كان يعايش تلك الظروف فى الدوحة نصحنى بأن احتاط كثيرا فى التصرف والحديث لان الاجواء ملغومة ..و بعد مرور ايام قليلة من زيارته صدق حدسه فقد كنت اعمل تحت امرة رئيس بعثه - رحمه الله -. لا يضيره ان يبيعك طالما هذا البيع سيرضى من يريد كسب رضائهم...لتصلنى برقية استدعاء للرئاسة كنت افكر

بعدها ان اغادر الوظيفة العامة .ولكن جاء تطور لم يكن فى الحسبان بغزو عراقى متهور للكويت -لنغادرها( كلنا) مرغومين ..بما فيهم من ظن انه سيكون باقيا !!

و مرة اخرى و بعد وصولى الى السودان ومعايشة تلك الايام المضطربة ، وبعد ان تمكن الراحل أحمد من المكوث فى قطر والعمل مستشارا فى البنك الاهلى ..قابلنى فى احدى ردهات الوزارة لينتحى بى جانبا يسألنى عن ظروفى المالية، وعما اذا كنت امتلك سيارة... بل ويسألتى عن ظروف دراسة اطفالى ..مبديا استعداده للدعم المالى..واكبرت فيه هذه الشهامة ..التى تنم عن انسان اصيل وافدته بأن الانسان اذا سلم امره لله ..فان المصاعب تصغر..

مرت الايام وتفرقت بنا سبل الحياة...ودخل الراحل أحمد فى تجربة زرع كلى .و ظل متنقلا بين الدوحة ودبى والخرطوم ..ليصاب فى كسر بالمخروقة خلال هذا الشهر من ابريل ..ويودع فى البست كير وبعد خروجه من هناك واتصاله الهاتفى الذى قال فيه انه ناوى القدوم نهائيا للسودان ..ارادت مشيئة الله عز وجل ان تكون انفاسه الاخيرة فى الوطن الذى احبه واحبته..و ماكان لنفس ان تموت الا باذن الله كتابا مؤجلا.و بشر الصابرين ..

salahmsai@hotmail.com

 

آراء