“ود اللمين ياخ” في زالنجي! (في مسرحة الشعر لحناً و غناءاً/أداءاً)

 


 

 

لا ندري على وجه الدقة كيف أو متى بدأ شغفُنا المهموم و اهتمامُنا الشديد بأغاني الفنان محمد الامين الذي تسلل إلى وجداننا بملحماته الموسيقية المُقعّدة و صوته "الجهوري" المتميّز الذي تمكّن من خلالهما تحويل الكلمات و الصور الشعرية غير المألوفة و شديدة الكثافة إلى موجودات "حيّة" كنا نشاهدها عياناً بياناً و نتلقفُها عبر المذياع أوعبر جهاز التسجيل (المسجل) بنهم و تشوّق. ففي زالنجي، تلك المدينة النائية جُغرافياً عن مركز القوة في "دار سبا"، كان المذياع_ إذاعة امدرمان على وجه الخصوص_ هو الوسيلة الوحيدة التي كانت تربُطنا بمُجريات الاحداث في عاصمة البلاد سياسية، فنية، أو رياضية، الخ. و لكن للاسف و لاسباب لا زلنا نجهل معظمها، كان إرسال إذاعة امدرمان لا يصلنا إلا مساءا، و لذا كنا نستعيض عنه بالتوجه نحو إذاعة تشاد التى ما كانت تمل أو تكل من بث "الاغنية السودانية" بخاصة للفنانين من أمثال محمد وردي و موسى أبا و آخرين وآخريات في العديد من البرامج، و خاصة برنامج ما يطلبه المستمعون حيث يأتيك صوت مقدم البرنامج: "و يطلب "محمد آدم" أغنية الفنان السوداني الكبير محمد وردي "القمر بوبا" ليفرّح أخوه القاعد هسة في نيجيريا" ، إلخ. حدثان اساسيان، بعد الاخبار، كانا يجذُبان الناس للالتفاف حول المذياع و هما الاغنية و مباراة كورة القدم العاصمية، بخاصة عندما تكون بين فريقي الهلال و المريخ.
وفي تلك الاصقاء النائية عن مركزها المُهيمن، كانت الاغنية تصل إلى الناس عبر وسائل ووسائط محدودة و محدّدة تتمثّل في الراديو، أو عبر المطربيين المحليين الذين غالبا ما يتبارون بالكشف عن آخر ما وصلتهم من الاغنيات العاصمية، أو عن طريق جهاز "المسجل" لمن يستطيع إليه سبيلا، وآخير عن طريق ما تعارف الناس عليه تبخيسا بـ"أغاني البنات". و في كل هذه الحالات تنتقل الاغنيةُ عبر هذه الوسائط شفاهة.
لكن وصول اغنيات الاستاذ محمد الامين بتميزها اللحني و الصوتي عمل على نقل علاقتنا بالطقس الغنائي إلى مستوى آخر، تعرفنا من خلاله إلى الاغنية ليست فقط كبنية شفاهية، ولكن أيضاً كنص كتابي و ذلك عندما بدأ البعضُ منا بنسخ كلمات الاغاني في دفاتر شخصية و من ثم تأملها عن كثب وبل حتى التباهي بها.و في سبيل الوصول إلى آخر كلمات الاغنيات كنا نتبادل آخر اشعار أغاني ود اللمين أو تلك التي نكتشف وجودها لأوّل مرة مع الاصدقاء المنتشرين في الاحياء المختلفة للمدينة. والجدير بالذكر هنا، هو أن عملية نسخ كلمات الاغاني و حفظها لم تساعد فقط في تكثيف علاقتنا بالاغنية و تقريب الصورة الشعرية بالنسبة لنا و حسب، و لكنها ايضا عرفتنا بباقة من شعراء الاغنية من القامات الذين ما كنا قبلها نحفلُ لوجودهم أو الاهتمام بالتعرّف عليهم كفضل الله محمد و هاشم صديق و الحلنقي و تاج السر، و آخرين كُثرُ.
إذن، ما الذي دفعنا إلى ذلك الإهتمام المُتحمّس بالظاهرة الفنية المتفردة، الفنان محمد الأمين، في تلك الاقصاء النائية في ذاك الوقت الكثيف؟
من الصعوبة بمكان إدراك كل الاسباب التي تدفع ببعض الناس للاستماع و الاستمتاع بشراهة لهذا الفنان/ة أو المُغني/ة أو ذلك/تلك. ولذا ما أخُطّه أنا هنا لا يعدو ان يكون تأويلاً ذاتيّا خاصاً في المقام الأوّل و الأخير. و أيضاً لأني لست ناقداً فنيّاً أو موسيقيّاً، فساُنطلق في تأويلي للمشروع الغنائي/الفني للفنان ود اللمين من موقعي البسيط كمستمع ومن مُحبي و مُعجبي مشروعه الفني و الادائي المُتميّز!
تميّزت أغاني ود اللمين، أو هكذا نرى، تميّزت بذلك الإرتباط السحري/الوظيفي ما بين اللحن الكثيف و المُعقد/المركّب و الصوت الجهورالواثق، هذا الارتباط الذي يكاد أن يُخلق من "كوبليهات" الاغنية المحددة لقطة/لحظة مسرحية/سينمائية عالية الجودة تُمكُن كل من يستمع إليها كنص لحني، أن يشاهدها مُفعمة بالحياة و الحركة في ذات الوقت. و بلا شك، فإن إختيار ود اللمين لنمط الاشعار التي يتغنى بها قد ساهم مساهمة جبارة في قدرته على السمو بالإغنية عبر اللحن والأداء إلى مطاف الصورة المسرحية أو السينمائية المتحركة التي تأخد بالالباب. و قد تحقق ذاك الارتباط السحري في جميع اغنياته، على سبيل المثال و ليس الحصر، في الجريدة، حروف أسمك، ذاد الشجون، زروق الالحان،مسيحية، سوف يأتي، اسمر، أربعة سنين، وحياة إبتسامتك، الحب و الظروف، عويناتك، و غيرها من الكثير و المثير.
و على ما اذكر أو اتذكر، فلعل بداية ولوجُنا إلى عوالم ود اللمين الفنية و دخوله هو إلى ارواحنا بتلك الأدائية المتميزة، كانت عبر "الجريدة" التي لفضل الله محمد. و لكن و نسبة لأن الكمات وحدها لا تُفصح أو تقول قولاً، أي قول، فإنها دوماً بحاجة إلى من يُحيها من برودة موتها (ومن ثم موت مؤلفها/قارئها الأوّل) و ينفخ فيها من روحه (أي إعادة كتابتها سواءا كان ذلك عبر القراء النقدية أو التأويل أو التلحين أو التصوير، إلخ). و هذا الإحياء الابداعي/الخلقي هو هو الذي إستطاعت اللحظة التطربية لود اللمين، التي ما فتأت تنهض على العلاقة التكاملية/التحاورية بين الصوت/الأداء واللحن، استطاعت القيام به على أكمل وجه. ففي جريدة فضل الله محمد، على سبيل المثال، يتدفق الاداء المتميز بتلك العلاقة التكاملية لرسم لحظة مسرحية (أو كادر سينمائي) في غاية التوتر محفوفة بالتشوق و الترقب و الإنتظار. أبطال هذه الحظة الدرامية ليسوا سوى تلك "الحبيبة" التى تتظاهر بتصفح الجريدة و المُحب الولهان الذي كان يتردد كثيراً عن الافصاح عن مشاعره حيال تلك المحبوبة المترقبة. وتكاد أن تسمع وترى تلك اللحظات بوضوح في إنسياب تلك الكلمات التي تخرج مجسدة عبر صوت الفنان محمد الامين (الراوي) و ذلك، على سبيل المثال، في تكرار "عايز أوقول لك... عايز أقول.." وتتدفق بين كل لحظة بوح و أُخرى، تتدفق وصلات موسيقىة قصيرة الأنفاس و متوتّرة تُفصل بينها اشبه بالموسيقى التصويرية أو قل هي هي. و من بعد ذلك تتلاشى تلك الموسيقى رويدا رويدا لترسم صورة سينمائية للحظة فشل المحب المكرور و تردده في التصريح بحبه لقارئة الجريدة، ونشاهد كل ذلك سماعيّاً في "واللا سييييبك اقري احسن في الجريدة...). و تتكرر هذه اللحظة السينمائية عدة مرات بذات السمو الموسيقي و قوة الأداء. و ليس بوسع من يستمع إلى اداء هذه الاغنية إلا الإنتماء إليها و التماهي مع أبطالها في تلك اللحظة الدرامية و هم يُعايشون لحظات التشوق و الترقب و التردد التي لا تكاد تنتهي إلا بعد أن يتمكن المحب في نهاية المُطاف، بعد عدة محاولات فاشلة، من التصريح بمشاعره لقارئة الجريدة، ولا تخفى علينا في هذه الاثناء حركة النهج الموسيقي المُصاحب من حيث العلو و الانخفاض و هي تتبع الصوت الجهور الذي ينخرط بدوره في محاولة مُستمية لتصوير تلك اللحظات المثيرة بصورة جبارة. و مع تلاشي التوتر الذي كان يصاحب تردد المحب و عدم قدرته على الإفصاح عن مشاعره المُلتهبة في تلك اللحظة المرتجاة والمؤجلة، يختفي كذلك التوتر النغمي و يتوقف التدفق الموسيقي فجأة للحظة إيذاناً بولوج و تصاعد "قافلة نغمية" جديدة فرائحية الهوى و الهوية مُنسابة و هي تُسير في خط مُنتظم و بلا توتر ملحوظ و كأنها تريد بذلك أن تُبشّر بتلك النهاية السعيدة للعلاقة المرتبكة بين المحبين. و بالطبع لا نشك أبدا في العبقرية الشاعرية/الشعرية ل فضل الله محمد تلك التي حاولت إنتاج تلك الصور البلاغية عبر الدالات اللغوية، لكن الفضل الكبيرللإغنية، كبنية لحنية/أداتية، إنما يعود إلى عبقرية التأليف الفني/اللحني لمبدئنا العظيم الاستاذ ود اللمين الذي إستطاع بتلك العبقرية ان ينفخ في تلك الدوال الميّتة من روحه المبدعة و الخلاقة حتى يُحولها إلى حالة/حالات وجودية يُمكن مشاهدتها و ملامستها و هي تتدفق قوية على شاشات أرواحنا. نقول، في تلك اللحظات التكوينية الاولى، كانت للكل منا فتاة (أو فتى) تتخفى بدعوى قراءة جريدة ما أو تصنع نشاط كاذب (false activity) تحاول أن تخفي به توترها و ترقبها، و لربما كانت هذه هي وشيجة الارتباط مع هذه المشاهد الموسيقية الجبارة. فكلنا ذاك المحب و كلنا تلك الفتاة! نقول، هذه القدرة العظيمة على مسرحة دوال "الشعر الغنائي" لحناً و أداءاً لربما هي التي إستطاعت أن تُقربنا من ود اللمين و كذلك تُقرب إليه الكثير من المستمعين/المشاهدين و المعجبين.
و بالتأكيد لم تتجلى قدرة ود اللمين اللحنية الفريدة في تحويل النص اللغوي الشعري إلى صورة مسرحية/سينمائية بالجريدة و لم تنتهي بها كذلك، حيث نجدها تتكرر بصورة منهجية في كل الاغنيات التي يتغنى هو بها. ففي "بتتعلم من الأيام"، على سبيل المثال، نلاحظ هذا التوتر و الذي يأخذ منحا أقرب إلى فلسفة الوجود أو التصوف، حين يرتبط التعلُّم من/في الحياة بالالم و ذلك على منوال قول الشاعر الانجليزي (...) "لا شيئ يجعلنا كباراً كالألم". نقول، في التوليفة اللحنية لأغنية بتتعلم من الأيام نلاحظ تلك التوترات النغمية و هي تتحرك صعوداً و هبوطاً و تعقيداً، في جميع مراحل هذه الاغنية "الكبيرة" في سعيها المهموم لخلقنة تلك اللحظات الصوفية/الوجودية كحالات مُتعيّنة، خلجة بعد أُخرى. ونلاحظ ذلك بوضوح، على سبيل المثال، في كوبليه "ورا البسمات سكبت دموع بكيت من غير تحس بي"، حيث تفور وتمور الموسيقى و هي تتبع الصوت الجهور المتدفق وجداً و ألماً لماساة الوجود تلك القائمة على الارتباط النهائي بين تعلُّم حيل الحياة والألم، أو قل هوهو، كشرط مؤسس وضروري و لا يمكن الفكاك عنه/منه باي صورة محتملة. تتكرر قدرة ود الامين في المسرحة اللحنية والأداتية للاغنية و بصورة ملحمية في "ذاد الشجون"، حيث تبدأ الاغنية بمقدمة لحنية ضافية هي بمثابة إعلان لبدء تحشيد عناصر المسرحية/السينمائية اللحنية القادمة. "ما هو باين...باين...باين في العيون" يتبع ذلك هبوط مسترسل للموسيقي لكنه سرعان ما يعاود الصعود حتى يتساوى "زمنيّا" مع موقع "الكوبليه اللحني" السابق ومن ثم ليرسم صورة لإستحالة الهروب و التهرب مما قد بان و إنتهى: "وين هتهرب منو وين..وين...." و في هذه الاثناء نستشعر تلك اللحظة المصيرية و بل نراها كصور حيّة تتدفق عبر الصوت الجهور و اللهاث اللحني المرافق والمراقب.
و حاول المشروع الموسيقى/اللحني لود اللمين المغامرة في تدشين نمط لحني سردي يتبع النص القصصي ويُمثله، و لعله قد وجد ضالته في "مسيحية"، والتي للاسف توقف الاستاذ عن التغني بها لاسباب لا نعلمها، حيث تحُول الاختلافات الدينية دون إستمرارية العلاقة العاطفية. و بمجرد الإستماع إلى هذه الأغنية، يكاد المستمع أن يرى المحبين حيارى و هم يعايشون تلك المأساة العدمية و العبثية التي تُحتم إبتعادهم عن بعضهم البعض بسبب الإختلاف الدينى حيث يُختتم النص الشعري بـ: "إمشي يا إختاه حثيثة ادخلى تلك الكنيسة و صلي...." و من ثم ترتفع اصوات اجراس الكنيسة موسيقيّا إيذانا بدخول الحبيبة الكنيسة. تأتي هذه الصور إلينا بوشيجة تلك العلاقة التكاملية حينا و التحاورية أحيانا بين اللحن و الاداء الصوتي المتميزللفنان ود اللمين.
هذه نماذج قليلة حاولنا من خلالها كمستمعين تأويل بعض العوامل التي نعتقد بأن لها الدور الرائد و الضروري في خلقنة وتعضيض فرادة المشروع الفني لهذه الفنان العظيم و تأثيره علينا، وكذلك في قدرته على خلق ذائقة فنية و حساسية جديدتين قربتنا أكثر من الاغنية كمشروع إبداعي لحني و أدائي وحياتي متميّز. شكرا ود اللمين!
دريج
هاملتون/ 29/10/2022

zalingy@gmail.com
/////////////////////////

 

آراء