ود مدني: ثيرموميتر “الحداثة” في دولة ما بعد الكولونيالية في السودان ؟

 


 

 

(في آنثروبولوجيا حضر ما بعد الكولونيالي)

المدينة الأفريقية، في عموميتها، كما نعرفها اليوم هي إختراع كولونيالي من الدرجة الأولى، و لقد جاء الإختراع بهذه الصورة النمطية حتى يُفي بغرضين أساسيين: أولاً، لتصبح المدينة ألية قادرة على القيام بوظيفة تسهيل حركة البضائع و الخدمات ، و ثانياً، كي تساعد في عملية ضبط و التحكّم في حركة الناس و الخدمات و الإنتاج وكذلك إحتواء أي "شغب" قد يحدث و يُؤدي إلى تعكير صفو "الحياة العامة" و بالتالي تهديد مصالح القوى الحاكمة و المتحكمة. هذه المدينة هى أحد السمات الرئيسية لمشروع الحداثة الكولونيالي في أفريقيا. ولكن لسنا هنا بصدد الدخول في مناقشة "جوهر" هذا الإختراع الكولونيالي من حيث السلبيات أو الإيجابيات، فلا شك في أن مثل هذه المقاربة قد تحتاج إلى أدوات معرفية و معلوماتية أخرى، و لانه كذلك ليس من أهداف هذه الكتابة "الأولية" الخوض في مثل هذا النقاش. و لكننا نحاول هنا تلمُّس تلك اللحظة الفريدة عند "إلتقاء" مؤسسة المدينة الكولونيالية الحديثة تفتُحها (unfolding) بالشكل أو بالاشكال الاجتماعية "المحلية" التى كانت سائدة و مهيمنة. و الجدير بالذكر هو أنه بالضرورة لم يتم تفتُّح المؤسسة الحديثة دفعة واحدة لانها كانت و لا تزال عبارة عن سيرورة جو-تاريخية تحتاج إلى عشرات من السنين حتى تُحقّق بعضا من وجودها و تواجدها كمكان جغرافي متعيّن وتحتاج كذلك إلى المئات من السنين الاخري حتى تتحقق كحالة وعي (فردي أو جماعي)، و لذا لزم التفريق هنا ما بين الحداثة و التحديث وكذلك ما بينهما من رماد مفاهيمي و حياتي/يومي نابض و متدفّق. فالتحديث هو تجويد الوسائل القديمة مع الاحتفاظ بوظائفها القديمة، فعلى سبيل المثال، قد تم تحويل مؤسسة الخلوة إلى مدرسة/كلية مع الاحتفاظ بالوظائف التقليدية من تحفيظ و عقاب وخنوع، إلخ. أما مفهوم الحداثة فيعمل على مستوى الوعي، الفردي و الجماعي، و خلق قطيعة ما مع ما قبلها، كالدفاع عن الحريات العامة والخاصة دفاعاً إلى آخر رمق، و هكذا.
وبعودة إلى موضوع كتابتنا هنا، نقول إحتلت مدينة ود مدني موقعاً متميّزا في مشروع "تدفّق" الحضر الكولونيالي ضمن ارضية المشهد السوداني قلّ أن تجد لها مثيلا في باقي المدن السودانية المختلفة و لربما كان ذلك لسببين: أولا، للقرب المكاني لود مدني من العاصمة الخرطوم، التى حاول "المستعمر" أن يحشر فيها الوعي الحضري حشراً، و ثانياً بسبب تدشين مشروع الجزيرة كأضخم مشروع زراعي ادخلته القوى الكولونيالية في أي مكان في أفريقيا جنوب الصحراء في وقتها و ما تبع ذلك من خلق بركان من الإنفجارات و التحركات الاجتماعية و الثقافية بسبب الحاجة المُلحّة إلى ايادي عاملة ضخمة، من ناحية، و الإزاحة و التشريد الكبيرين للانماط الإنتاجية و وسائل الإنتاج التقليدية الماثلة آنئذن، من الناحية الأخرى. إذن كيف إلتقت و تلاحقت مياه الفضاء الكولونيالي الجديد ب/مع مياه البُنى المجتمعية و الاجتماعية و الاقتصادية "التقليدية" المحلية السائدة في فضاءات ود مدني؟
لقد أُتيحت لي فرصة نادرة لزيارة مدينة ود مدني لأول مرة خلال منتصف ثمانينيات القرن الماضي و ذلك على إثر إغلاق جامعة الخرطوم لأبوابها قسراً و لاجل غير مُسمى، و نسبة للغموض الذي ينجم عن هذا الإغلاق المفاجئ قررتُ، و معي آخرين، عدم تكبّد مشاق السفر إلى دارفور البعيدة و البقاء حيث أنا/نحن (موت موت، غرامة غرامة)، و لكن بدعوة من الاخ و الصديق "أ.ح. إ" الذي طلب مني الذهاب معه الى مدني و البقاء هناك الى أن تنجلي الامور رحبت بالفكرة، و ما هي إلا لحظات قليلة لأجدني لأول مرة في مدني الجمال، و من ثم لتتكرر الزيارات و الصداقات و المحبات، تلك التي لا تزال تحتل مكان المنارات في دهاليز الذاكرة و في القلب!
دفئان لا زلت اشعر بهما كلما لفحتني هذه البلاد بصقيعها (تلك البلاد التي تموت من البرد حيتانها، على قول الطيب صالح)،هما حرارة إستقبال اسرة صديقي و حميمية تلك المدينة التي وجدتها لا تُبالغ في مكياجها الصباحي أو المسائي. كانت ود مدني اشبه ببنت الجيران (The girl next door)، و كانت بشوشة و معطاءة إلى أبعد الحدود، تمكنت و في لمح البصر من تذويب الجليد الخرطومي المخلوط بالجفاء، و إحتكاك "الكتوف" غير المبالية و الشرسة. الناس هنا_في مدني_ يزورون بعضهم البعض مثل ما كنا نفعل في جخانين الريف البعيدة في "جغرافيا الروح و المدى" بدون سابق إنذار و يتشاروكون المأكل و المشرب بيد أنهم قد ادخلوا الطاولة و كرسي البلاسيتك محل البرش والبمبر، و قس على ذلك جوانب الحياة الاخرى! ولكن من أكثر الاشياء التى ادهشتني في وقتها و قد ذكرتُها في مناسبات مختلفة هو أن ركبنا أنا و صديقي حافلة لأول مرة منذ وصولنا من السوق الكبير متوجهين إلى زيارة أحد الاصدقاء يقطن على ناحية أخرى من المدينة، و عندما قام الكمساري بجمع رسوم التذاكر إذ أُفاجأ بأن ثلاثة أشخاص على اكثر تقدير قد قاموا بدفع رسوم جميع ركاب الحافة، و في تلك الأثناء لا تكاد تسمع سوى كلمات الثناء والشكر و إلى هنا ينتهي المشهد، ذلك المشهد الذي تكرر بعد ذلك عشرات بل قل مئات المرات. فالحافلة هي كائن من كائنات مياه الحدث الكولونيالي، بينما كان التكافل و الكرم الفدائي من حُبيبات المياه المحلية!
عادة ما تُهاجر المدن الكبيرة، خاصة تلك التي لما بعد الكولونيالية، تهاجر إلى الناس حتى قبل أن يأتوا إليها عبر سرديات و حكي تحمل الكثير من المحمولات و الانحيازات الآيدولوجية والأخلاقية، إلخ، لترسم بعد ذلك صورة عن هذه المدينة أو تلك تبقى "حيّة" إلى بعض الوقت أو كله! ولم يختلف الوضع بالنسبة لمدينة ود مدني في تجربتي فيها/معها! فبجانب دار صباح، كانت هناك أيضا صورة ود مدني كسردية تحتل حيزا مُعتبرا في غرف الوعي و لعل كان ذلك بسبب رحلات عمال اللقيط (الجنقجورة) الموسميين الذين يتم ترحليهم في لواري كبيرة و ذلك بعد أن يجوب أصحابُها طرقات المدينة و هم ينادون عبر مكبرات الصوت "لقيط ..لقيط". نقول، في نسخة ود مدني كسردية كان هناك ملمح واحد قد احتلّ مكان القلب في الذاكرة، و ذلك الملمح هو أسطورة "تفشّي المثلية" في تلك المدينة، و هي الاسطورة التي كان الناس يتداولونها و كأنها حقيقة كونية يعرفها "الكُل". يقيننا أن هذه الاسطورة هي أحد مُنتجات ذلك اللقاء و التلاقح بين مياه تدفق الحضرية الغازية بتلك التي للبُنى "التقليدية" المُشردة و المُهمشة. نقول، في مثل هذه الوضعية شديدة الحساسية لا تُمثل هذه الاسطورة سوى "سردية دفاعية" (Counter-narrative)، يريد مروجوها، في الأساس، "تشويه"_أو هكذا كانوا يظنون_ صورة هذا الكائن الغازي و الذي يحاول النهوض على أنقاض القيم الاجتماعية و الاقتصادية السائدة، و حيث لم يجد هؤلاء سوى الأفندي و الذي كان و لا يزال هو الممثل الشرعي للامبراطورية ليصبوا عليه جام غضبهم و لعناتهم. نعم، فقد ظهر الافندي الهُمام فجأة وسط المجتمع الزراعي و الرعوي بلباسه الافرنجي المُميّز و بهندامه الانيق و النظيف والذي لا تشوبه شوائب روث "مال" الرعاة أو طين المزارعين، من ناحية، كما أنه لا يملك غيطا و لا يقود أمامه معيزاً، من الناحية الاخري، و لذا لم تجد العقلية المحلية بُدّاً من تصنيفه ب"الشاذ"، تشفّياً و فكاهةً! و لعل الذي حفظني على هذا التأويل هو الرواية التي سردها أحدهم حيث ذكر فيها أن شيخاً هرما كان قد جاء إلى صيوان مُعد لفرح ما، و فور قدومه سارع أحدُ الشباب بتقديم كرسي جلوس له إحتراما و تكريما، ولكن بدلاً أن يأخذ الكرسي و يشكر الشاب، فإذا بالشيخ الهرم يهبُّ في وجه غاضبا مُردّداً: "دايرني اقعد في كرسي! أنت قايلني انا ل..طي!" خلاصة نقول، لعل لقاء و تلاقي المدينة الكولونيالية مع البُنى المحلية أشبه بالزواج القسري و المرتب بواسطة الأقارب، حيث حاولت هذه الكتابة إضاءة شذرة يتيمة من شذور ذاك اللقاء الغشيم!
دريج
هاملتون اكتوبر/ 10/2022

 

zalingy@gmail.com
///////////////////////

 

آراء