وردةٌ للوعي .. وردةٌ للارتباكْ
رئيس التحرير: طارق الجزولي
31 October, 2022
31 October, 2022
مدخل :-
تأسست القصة في شكلها العام على ذات موضوع قصة "الهمس الصّدّاح"، التي نشرها القاص عيسى الحلو في الأيّام/ملحق الآداب والفنون/ 8/11/ 1982، وهو العلاقة العاطفية بين فتاة وشابيّن فنانين. ولكن ذلك الموضوع قُدِّمَ في القصة الأولى كتجربة عاطفية غنية ولكن ليست ممتلئةً بالرُّؤى الفكريّة العميقة، أي اهتمّت بتكثيفِ البعد العاطفي المشبوب لتلكَ العلاقة وليس "البعد التّأمّلي الهادئ" كما فعلت هذه القصة "وردةٌ للوعي.. وردةٌ للارتباك".
تداعيات عن حالتي الوعي والارتباك:-
أحبُّ أن يكون عنوان أيّ قصة دلالة مكثّفة وغنيّة تُضئُ مناخها الشعوري والفكري المتسيّد فيها وقد تحقّق في قصتنا موضوع المقال ذلكَ الأمر فالقصةُ حقّاً تتأرجح بين (الوعي) و(الارتباك) في مستوياتهما المختلفة.
والوعي في القصة يُقابِلُ في ذاكرتي الفردية الضّوء– وقد يكون هذا موقفاً ذاتياً-إنسانياً عامّاً– وهو هنا إشارة للهدوء والاطمئنان والاتّزان، فالحالة هنا حالة اتزان شعوري أقرب للبرودة تُسمّى "النضج العاطفي"، حالة لا عذبة ولا "ليست عذبة"، بالجملة حالة لا شرخَ فيها.
أمّا الارتباك فهو معادل الضّياع التّهويمي، الضّياع الذي قال عنه أدونيس أنّه (ألقٌ وسواهُ
القناع). **
ومن البدء تطرح علينا القصة هذين البعدين فهي تُقَدّم لنا أوّلاً مقدمة عن حالة مريم، ثمّ ثانياً محاولة تكثيف الحالة الداخلية بتفاصيل خارجية صغيرة– ووصف مريم هنا يُبديها وهماً وحقيقةً، عالماً واقعيّاً وعالمَ فنٍّ:- (شعرها طويلٌ يتدفّق، ثوبها خفيفٌ كالهواء والدّخان، ويهبُّ الهواء دفقات فيُهفهف الشعر الطويل والثوب الشفيف، فيرتحلُ الوهمُ الجّميل بشتّى الصُّور).
وفي تقابل البيت والنهر في وصف حادث فتح مريم للنافذة البسيط والواقعي تنويعٌ على حالتي الوعي والارتباك فحالة الألفة اليومية المتزنة "الوعي" يمثلها البيت بينما يُوازي النهر قلقَ الخروج عليها والتّوَهان في آفاقٍ أخرى (الارتباك).
ووصفُ البيت نفسه تنويعٌ على ذاتِ الحالتين، فالبيتُ هنا شيءٌ واقعيٌّ وليس واقعيّاً، أو فلنقُلْ
(ضبابي) .. هنا حالةُ شكٍّ وارتياب (فالبيتُ ينهضُ وسط الضّوء السّرابي متراقصاً ببريقٍ مترجرج متكسّر فيلوح قريباً جداً ويبعد فيختفي في جوفِ الأُفق .. ويندسُّ كالأفكار الغامضة والظِّنون).
وتُعمَّقُ حالةُ الارتباك بالحديث عن الرنين المرتبك لبوابات هذا البيت العصري البرجوازي الغريب الأطوار.
وفي الطابق العلوي للبيت يحيا مريم ويوسف وسعيد الذين يمثِّلون الحياة بعمقها الفوضويِّ المنطلق، حياة الفنّانين في معادلٍ سلوكيٍّ واقعيٍّ ومدهشٍ. تلكَ واقعيّة– قد تكون لشدّة حقيقيّتها بالذّات!– تُبدي لكَ ذلكَ المعادل االسّلوكي كحلمٍ والحُلُم يُبديهِ كواقع:-
(وفي الصباح ملأت الشمس السّماءَ بالإشراق فركبوا سيارتهم المكشوفة السقف ثلاثتهم وانطلقوا في رحلتهم الريفية يؤلِّفهم الانطلاق والنزق ويملأهم فتوّةً وجمالاً، وكانوا قد ملأوا السلّة بلحمٍ وخبزٍ وهلبٍ من عصير البرتقال وسنّارات لصيد السّمك، وسكين كبيرة على مقبضها رسومات بديعة النّقش. وكانوا ينطلقون في سرعةٍ كبيرةٍ تفرُّ أمامها وتتقافز دجاجات الضاحية مذعورةً في طيرانها النصفيِّ فأخذوا يضحكون ويغنون غناءاً غوغائياً مرتجلاً. ويتوقّفُ الغناء ..).
وفي مُقابِلِ ذلكَ يحيا في الطّابق الأسفل عجوزان في انتظارِ زائرٍ مجهول (الموت أو الأبديّة).
وفي البعد الأوّل تُمثّل صورة الحياتين تقابُلات الشّروق والغروب، أي الغزارة "الحيوية والفوران والجّيَشَان" والانهزام "الشيخوخة والمرض والهذيان وتوهّم مجيء شخصٍ طال غيابه".
أما في البعد الأبعد (الثاني) تُعمّق الحالة "حالة الوعي والارتباك" بإظهارِ الشروقِ والغروبِ بأنّهما تراوُحٌ بين حالتين للوعي***:- حالة صفائه وتجاوزه لمبتذلات العالم إلى نيرفانا هدوئية وحالة اصطدامه بمعوقات انطلاقه الحر الرومانسي حيثُ تتولّد المأساة الفاجعة– والهادئة الصّامتة مع ذلكَ!!– ويتولّد الارتباك (الضياع والتيه) في الذات. هنا تجاذب شمس الصفاء وقناع الضياع:- (يجيءُ الشروقُ وردةً للوعي .. ويجيءُ الغروب وردةً للارتباك ويتبدّل البيت الزجاجي الصغير، يُثرثر ويرتبك).
ويتبدّى في القصة التّعارض بين الفن والواقع ففيها تنويع على حالتين للوعي بالعالم وهما وعي الفنان بالفن كمقابل للحياة، فمريم نفسها تُقَدّم لكَ في القصة في مستويين فهي تبدو وهماً أو واقعاً فنّيّاً، تبدو شيئاً، بدقّةٍ أكثر، روحيّاً ما وراء الواقع ويمثّل حقيقته في نفس الوقت كمثال إفلاطون تماماً.
وتارّةً تبدو واقعاً حيّاً وجيّاشاً وحسيّاً دنيوياً كتماثيل الإغريق الحسيّة العارية المنتمية لحضارة ما قبل عقلانية سقراط وإفلاطون وأرسطو****:-
(فوق رأسيهما كانت تحوم مريم و في وسط المسافة بينهما كانت تلك الوردة الحمراء الوسيمة .. كان الوجود تحتَ أصابع الأيدي يتبدّل فكانت مريم فيهما كليهما تموت وتحيا، تجيء تذهب، تنهدم تنمو، فهي تموت بانتهاء القصيدة عند اكتمال البناء جرساً ولفظاً وبانتهاء اللوحة ...) ... إلى (وبالحبِّ كلّه).
ويرد في القصة تساؤلاً عن الهويّة:- "بالله من نحنُ أعني أنا وأنت!!" وتكون الإجابة "إيّاكَ والخلط بين الأشياء، لا تخلطَ بينَ مادة الفن وبين الفن، لا تخلط بين الحياة واللوحة، فالوهم هنا– وأشارَ يوسف لدفتر أشعاره ولِلّوحة– أما الحياة، فهي أنا وأنت وكلّ هذه الأشياء التي بنا تحيط، قال سعيد:- ومريم والعجوزان. صمت سعيد .. قطّب الجبين، وأضاف سعيد:- و وأنت!!"
هنا استفادةٌ من التقسيم الأرسطي القديم بين المادة والصورة***** ليس متعلّقاً بالعالم الخارجي، كما هو عند أرسطو، بل الحياةُ هنا وبكلِّ حيويّتها وتناقضاتها، هي مادة الفن والقصيدة (أو المُبدَعَات الفنيّة) هي صورته. هنا يبدو الفنُّ هلوسةً ووهماً لذا يكونُ خلقاً أما الواقع الصّلب الحديدي المتفق مع العقل فهو موجود سلفاً.
ولكن التّساؤل هنا:- كيف يتم تحويل الواقع الصّلب ( العفن الجّاري )****** إلى فنٍّ، إلى "مناراتٍ قمم "؟******* تلكَ هي (اللحظة القدسية) وذلكَ سرُّ ذات الفنان وتميُّزها.
وما موقع المرأة (مريم) في داخل كيان العلاقة بين الفن والحياة؟
(يتقابلان وجهاً لوجه في المسافة الفاصلة بينهما كوبٌ به ماءٌ ترقصُ فوقه حتى الحواف وردةٌ حمراء كبيرة. ينهمكان في العمل في حماسٍ فيخفق قلباهما خفقاً شديداً .. يدنوان في المسافة الأُفقيّة– رأساً ملتصقاً برأس، أمّا أقدامهما العارية الحفاء أسفل المائدة فهي تتجاور وتتلاصق بنوعٍ من العواطفِ مشبوبٍ غريب .. دافئ .. بارد حار مخيف .. يشتعلان في بطء ويتوهّجان وتتحوّل الوردة جداً .. مادّة من اللحم والعظم ثمّ تتبدّل مادّةً من الرؤيا .. خيالٌ ووهمٌ من الصلصالِ لطيف .. شبقٌ ولونٌ وبراعة. رفع يوسف رأسه وقال يُحدِّث سعيدا: هي عندي وردةٌ للفن. قال سعيد .. هي عندي (الحياةُ فينا تنبعث) ...).
هنا امتزاجُ المرأة بالفن والحياة فهي مخلوق فنّي (إلهي، لا واقعي) وهي حياةٌ جائشةٌ أحياناً عند الفنان وهي تغيب بعد اكتمال اللوحة أو القصيدة ولكنها تحضر بعد ذلكَ بداخلها.
وتثير القصة علاقة الفنان بالمرأة وعنصر القسوة الروحيّة الخالقة فيها********:-
(يشتبكان يدوران في الإغماءة دائخين .. فيصبحان وعياً واحداً .. مثل عين كبيرة تتوسط الرّأس، يتلاقى الوعيان وبقوة خداعهما المشترك يعتصران الوردة .. حتى يسيل الرّحيق .. وتفنى الوردة .. وتذوب في هذا التّلاشي المزدوج!! تطلع مع القصيدة .. وتسطع جلالاً مهيباً في عمق اللوحة).
لا بدّ أن تفنى ذاتُ مريم، بكلِّ رحيقها، فيهما (فهما يعتصرانها بهذا المعنى) حتى يطلع الخلق الفني للوجود. فهما لكي يحققا ذاتهما الفنية (العنصر الإلهي فيهما) يريدان من مريم أن تذوب وأن تفنى حقيقتها الواقعية الصلبة فتصبح ما يهواه فيها الفنانان:- روحاً وناراً خالقة بداخلهما.. هما يُصارعان، حين الوعي بذاتيهما كفنّانين، في مريم واقعيتها وعاديتها ويريدانها أن تخضع لنزوات الفن اللاّ مفهومة المعارضة والمفارقة لاشتهاءات ومشاغل الأنثى الواقعية (الدنيوية) فيها (القميص والقرط والوسادة ومشدّات الصدر ومشابك الشعر وطلاء الأظافر وانتمائها الطّبقي).
مَخرج:-
ومخرجنا من الدراسة اخترنا أن يكون إشارة موجزة للغة القصة، فشكل القصة الأساسيُّ فيه التجربة الباطنية وليس ترابط الحوادث الخارجية أو حتّى– على مستوىً أبعد قليلاً– دلالة هذه الحوادث الاجتماعية لذا اعتمدت القصة في شكلها على أسلوب (اللّوحات) الصغيرة المتقطِّعة التي قُصِدَ منها تكثيف وتنويع وإغناء تجربة القصة الروحية "تجربة الوعي والارتباك" وليس على الأحداث والشخصيّات بالمعنى الذي نراه في القصة التقليدية.
كما تخلّلت القصة لغةٌ سميناها "لغةَ توهيج الحوادث العادية" التي تحاول أن تحيل ما هو "نثريّاً يوميّاً" إلى المستوى الشعري الغائم والحالم ومثالٌ لذلكَ حادث فتح مريم للنافذة البسيط والواقعي الذي أحيلَ في القصة إلى فعلٍ شعريٍّ متألّق ولا عادي:- (كانت نافذة الطابق الأعلى تُفتَحُ فجأةً وبشكلٍ عاصفٍ ويطلُّ منها رأسُ مريم فهي تنظر ساهمةً في زرقةِ ماءِ النهرِ المنساب .. حيثُ البيت ذي الطابقين يطل– فيطنُّ رأسُ مريم بالدّوار والارتباك من على هذا البعد .. من المسافة القصيرة ما بين البيت الصّغير ذي الطّابقين وبين النهر الأزرق كانت مريم تتراءى خيالاً كالطّيوفِ في مجالِ الأحلام).
إبراهيم جعفر
مارس، 1983م.
حاشية:-
* وردةٌ للوعي .. وردةٌ للارتباك:- قصة قصيرة، عيسى الحلو/ نُشِرَتْ في الأيّام/ ملحق الآداب والفنون، 1983.
** من شعر علي أحمد سعيد (أدونيس) في (أغاني مهيار الدّمشقِي).
*** ملحوظة:- مصطلح "الوعي" هنا يُستخدمُ كمرادفٍ للتجربة الشعوريّة الباطنيّة عند الإنسان وليسَ "الاستدلال العقلي".
**** أنظر كتاب فلسفة نيتشة، أويغن فنك، ترجمة الياس بديوي، تجد حديثاً رائعاً عن تمجيد نيتشة لهذه الحضارة الحسّيّة– الكتاب من منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي/ دمشق 1974.
***** تجد هذه التفرقة في أيِّ كتاب فلسفي عن أرسطو.
****** و ******* من شعر الشاعر السوداني النور عثمان أبّكر في "صحو الكلمات المنسيّة".
******** أشار كولن ويلسون لهذا الشكل من العلاقة بين الفنان والمرأة:- يمكنك الرجوع إلى كتابه رحلة نحو البداية:- ترجمة ذاتية ذهنية– ص. 389- 393 – منشورات دار الآداب– بيروت– ترجمة:- سامي خشبة.
هامش:-
من مقالات كتابي المسمّى "استبصارات (مجموعة رؤى وتأملات نقديّة)..."...
khalifa618@yahoo.co.uk
تأسست القصة في شكلها العام على ذات موضوع قصة "الهمس الصّدّاح"، التي نشرها القاص عيسى الحلو في الأيّام/ملحق الآداب والفنون/ 8/11/ 1982، وهو العلاقة العاطفية بين فتاة وشابيّن فنانين. ولكن ذلك الموضوع قُدِّمَ في القصة الأولى كتجربة عاطفية غنية ولكن ليست ممتلئةً بالرُّؤى الفكريّة العميقة، أي اهتمّت بتكثيفِ البعد العاطفي المشبوب لتلكَ العلاقة وليس "البعد التّأمّلي الهادئ" كما فعلت هذه القصة "وردةٌ للوعي.. وردةٌ للارتباك".
تداعيات عن حالتي الوعي والارتباك:-
أحبُّ أن يكون عنوان أيّ قصة دلالة مكثّفة وغنيّة تُضئُ مناخها الشعوري والفكري المتسيّد فيها وقد تحقّق في قصتنا موضوع المقال ذلكَ الأمر فالقصةُ حقّاً تتأرجح بين (الوعي) و(الارتباك) في مستوياتهما المختلفة.
والوعي في القصة يُقابِلُ في ذاكرتي الفردية الضّوء– وقد يكون هذا موقفاً ذاتياً-إنسانياً عامّاً– وهو هنا إشارة للهدوء والاطمئنان والاتّزان، فالحالة هنا حالة اتزان شعوري أقرب للبرودة تُسمّى "النضج العاطفي"، حالة لا عذبة ولا "ليست عذبة"، بالجملة حالة لا شرخَ فيها.
أمّا الارتباك فهو معادل الضّياع التّهويمي، الضّياع الذي قال عنه أدونيس أنّه (ألقٌ وسواهُ
القناع). **
ومن البدء تطرح علينا القصة هذين البعدين فهي تُقَدّم لنا أوّلاً مقدمة عن حالة مريم، ثمّ ثانياً محاولة تكثيف الحالة الداخلية بتفاصيل خارجية صغيرة– ووصف مريم هنا يُبديها وهماً وحقيقةً، عالماً واقعيّاً وعالمَ فنٍّ:- (شعرها طويلٌ يتدفّق، ثوبها خفيفٌ كالهواء والدّخان، ويهبُّ الهواء دفقات فيُهفهف الشعر الطويل والثوب الشفيف، فيرتحلُ الوهمُ الجّميل بشتّى الصُّور).
وفي تقابل البيت والنهر في وصف حادث فتح مريم للنافذة البسيط والواقعي تنويعٌ على حالتي الوعي والارتباك فحالة الألفة اليومية المتزنة "الوعي" يمثلها البيت بينما يُوازي النهر قلقَ الخروج عليها والتّوَهان في آفاقٍ أخرى (الارتباك).
ووصفُ البيت نفسه تنويعٌ على ذاتِ الحالتين، فالبيتُ هنا شيءٌ واقعيٌّ وليس واقعيّاً، أو فلنقُلْ
(ضبابي) .. هنا حالةُ شكٍّ وارتياب (فالبيتُ ينهضُ وسط الضّوء السّرابي متراقصاً ببريقٍ مترجرج متكسّر فيلوح قريباً جداً ويبعد فيختفي في جوفِ الأُفق .. ويندسُّ كالأفكار الغامضة والظِّنون).
وتُعمَّقُ حالةُ الارتباك بالحديث عن الرنين المرتبك لبوابات هذا البيت العصري البرجوازي الغريب الأطوار.
وفي الطابق العلوي للبيت يحيا مريم ويوسف وسعيد الذين يمثِّلون الحياة بعمقها الفوضويِّ المنطلق، حياة الفنّانين في معادلٍ سلوكيٍّ واقعيٍّ ومدهشٍ. تلكَ واقعيّة– قد تكون لشدّة حقيقيّتها بالذّات!– تُبدي لكَ ذلكَ المعادل االسّلوكي كحلمٍ والحُلُم يُبديهِ كواقع:-
(وفي الصباح ملأت الشمس السّماءَ بالإشراق فركبوا سيارتهم المكشوفة السقف ثلاثتهم وانطلقوا في رحلتهم الريفية يؤلِّفهم الانطلاق والنزق ويملأهم فتوّةً وجمالاً، وكانوا قد ملأوا السلّة بلحمٍ وخبزٍ وهلبٍ من عصير البرتقال وسنّارات لصيد السّمك، وسكين كبيرة على مقبضها رسومات بديعة النّقش. وكانوا ينطلقون في سرعةٍ كبيرةٍ تفرُّ أمامها وتتقافز دجاجات الضاحية مذعورةً في طيرانها النصفيِّ فأخذوا يضحكون ويغنون غناءاً غوغائياً مرتجلاً. ويتوقّفُ الغناء ..).
وفي مُقابِلِ ذلكَ يحيا في الطّابق الأسفل عجوزان في انتظارِ زائرٍ مجهول (الموت أو الأبديّة).
وفي البعد الأوّل تُمثّل صورة الحياتين تقابُلات الشّروق والغروب، أي الغزارة "الحيوية والفوران والجّيَشَان" والانهزام "الشيخوخة والمرض والهذيان وتوهّم مجيء شخصٍ طال غيابه".
أما في البعد الأبعد (الثاني) تُعمّق الحالة "حالة الوعي والارتباك" بإظهارِ الشروقِ والغروبِ بأنّهما تراوُحٌ بين حالتين للوعي***:- حالة صفائه وتجاوزه لمبتذلات العالم إلى نيرفانا هدوئية وحالة اصطدامه بمعوقات انطلاقه الحر الرومانسي حيثُ تتولّد المأساة الفاجعة– والهادئة الصّامتة مع ذلكَ!!– ويتولّد الارتباك (الضياع والتيه) في الذات. هنا تجاذب شمس الصفاء وقناع الضياع:- (يجيءُ الشروقُ وردةً للوعي .. ويجيءُ الغروب وردةً للارتباك ويتبدّل البيت الزجاجي الصغير، يُثرثر ويرتبك).
ويتبدّى في القصة التّعارض بين الفن والواقع ففيها تنويع على حالتين للوعي بالعالم وهما وعي الفنان بالفن كمقابل للحياة، فمريم نفسها تُقَدّم لكَ في القصة في مستويين فهي تبدو وهماً أو واقعاً فنّيّاً، تبدو شيئاً، بدقّةٍ أكثر، روحيّاً ما وراء الواقع ويمثّل حقيقته في نفس الوقت كمثال إفلاطون تماماً.
وتارّةً تبدو واقعاً حيّاً وجيّاشاً وحسيّاً دنيوياً كتماثيل الإغريق الحسيّة العارية المنتمية لحضارة ما قبل عقلانية سقراط وإفلاطون وأرسطو****:-
(فوق رأسيهما كانت تحوم مريم و في وسط المسافة بينهما كانت تلك الوردة الحمراء الوسيمة .. كان الوجود تحتَ أصابع الأيدي يتبدّل فكانت مريم فيهما كليهما تموت وتحيا، تجيء تذهب، تنهدم تنمو، فهي تموت بانتهاء القصيدة عند اكتمال البناء جرساً ولفظاً وبانتهاء اللوحة ...) ... إلى (وبالحبِّ كلّه).
ويرد في القصة تساؤلاً عن الهويّة:- "بالله من نحنُ أعني أنا وأنت!!" وتكون الإجابة "إيّاكَ والخلط بين الأشياء، لا تخلطَ بينَ مادة الفن وبين الفن، لا تخلط بين الحياة واللوحة، فالوهم هنا– وأشارَ يوسف لدفتر أشعاره ولِلّوحة– أما الحياة، فهي أنا وأنت وكلّ هذه الأشياء التي بنا تحيط، قال سعيد:- ومريم والعجوزان. صمت سعيد .. قطّب الجبين، وأضاف سعيد:- و وأنت!!"
هنا استفادةٌ من التقسيم الأرسطي القديم بين المادة والصورة***** ليس متعلّقاً بالعالم الخارجي، كما هو عند أرسطو، بل الحياةُ هنا وبكلِّ حيويّتها وتناقضاتها، هي مادة الفن والقصيدة (أو المُبدَعَات الفنيّة) هي صورته. هنا يبدو الفنُّ هلوسةً ووهماً لذا يكونُ خلقاً أما الواقع الصّلب الحديدي المتفق مع العقل فهو موجود سلفاً.
ولكن التّساؤل هنا:- كيف يتم تحويل الواقع الصّلب ( العفن الجّاري )****** إلى فنٍّ، إلى "مناراتٍ قمم "؟******* تلكَ هي (اللحظة القدسية) وذلكَ سرُّ ذات الفنان وتميُّزها.
وما موقع المرأة (مريم) في داخل كيان العلاقة بين الفن والحياة؟
(يتقابلان وجهاً لوجه في المسافة الفاصلة بينهما كوبٌ به ماءٌ ترقصُ فوقه حتى الحواف وردةٌ حمراء كبيرة. ينهمكان في العمل في حماسٍ فيخفق قلباهما خفقاً شديداً .. يدنوان في المسافة الأُفقيّة– رأساً ملتصقاً برأس، أمّا أقدامهما العارية الحفاء أسفل المائدة فهي تتجاور وتتلاصق بنوعٍ من العواطفِ مشبوبٍ غريب .. دافئ .. بارد حار مخيف .. يشتعلان في بطء ويتوهّجان وتتحوّل الوردة جداً .. مادّة من اللحم والعظم ثمّ تتبدّل مادّةً من الرؤيا .. خيالٌ ووهمٌ من الصلصالِ لطيف .. شبقٌ ولونٌ وبراعة. رفع يوسف رأسه وقال يُحدِّث سعيدا: هي عندي وردةٌ للفن. قال سعيد .. هي عندي (الحياةُ فينا تنبعث) ...).
هنا امتزاجُ المرأة بالفن والحياة فهي مخلوق فنّي (إلهي، لا واقعي) وهي حياةٌ جائشةٌ أحياناً عند الفنان وهي تغيب بعد اكتمال اللوحة أو القصيدة ولكنها تحضر بعد ذلكَ بداخلها.
وتثير القصة علاقة الفنان بالمرأة وعنصر القسوة الروحيّة الخالقة فيها********:-
(يشتبكان يدوران في الإغماءة دائخين .. فيصبحان وعياً واحداً .. مثل عين كبيرة تتوسط الرّأس، يتلاقى الوعيان وبقوة خداعهما المشترك يعتصران الوردة .. حتى يسيل الرّحيق .. وتفنى الوردة .. وتذوب في هذا التّلاشي المزدوج!! تطلع مع القصيدة .. وتسطع جلالاً مهيباً في عمق اللوحة).
لا بدّ أن تفنى ذاتُ مريم، بكلِّ رحيقها، فيهما (فهما يعتصرانها بهذا المعنى) حتى يطلع الخلق الفني للوجود. فهما لكي يحققا ذاتهما الفنية (العنصر الإلهي فيهما) يريدان من مريم أن تذوب وأن تفنى حقيقتها الواقعية الصلبة فتصبح ما يهواه فيها الفنانان:- روحاً وناراً خالقة بداخلهما.. هما يُصارعان، حين الوعي بذاتيهما كفنّانين، في مريم واقعيتها وعاديتها ويريدانها أن تخضع لنزوات الفن اللاّ مفهومة المعارضة والمفارقة لاشتهاءات ومشاغل الأنثى الواقعية (الدنيوية) فيها (القميص والقرط والوسادة ومشدّات الصدر ومشابك الشعر وطلاء الأظافر وانتمائها الطّبقي).
مَخرج:-
ومخرجنا من الدراسة اخترنا أن يكون إشارة موجزة للغة القصة، فشكل القصة الأساسيُّ فيه التجربة الباطنية وليس ترابط الحوادث الخارجية أو حتّى– على مستوىً أبعد قليلاً– دلالة هذه الحوادث الاجتماعية لذا اعتمدت القصة في شكلها على أسلوب (اللّوحات) الصغيرة المتقطِّعة التي قُصِدَ منها تكثيف وتنويع وإغناء تجربة القصة الروحية "تجربة الوعي والارتباك" وليس على الأحداث والشخصيّات بالمعنى الذي نراه في القصة التقليدية.
كما تخلّلت القصة لغةٌ سميناها "لغةَ توهيج الحوادث العادية" التي تحاول أن تحيل ما هو "نثريّاً يوميّاً" إلى المستوى الشعري الغائم والحالم ومثالٌ لذلكَ حادث فتح مريم للنافذة البسيط والواقعي الذي أحيلَ في القصة إلى فعلٍ شعريٍّ متألّق ولا عادي:- (كانت نافذة الطابق الأعلى تُفتَحُ فجأةً وبشكلٍ عاصفٍ ويطلُّ منها رأسُ مريم فهي تنظر ساهمةً في زرقةِ ماءِ النهرِ المنساب .. حيثُ البيت ذي الطابقين يطل– فيطنُّ رأسُ مريم بالدّوار والارتباك من على هذا البعد .. من المسافة القصيرة ما بين البيت الصّغير ذي الطّابقين وبين النهر الأزرق كانت مريم تتراءى خيالاً كالطّيوفِ في مجالِ الأحلام).
إبراهيم جعفر
مارس، 1983م.
حاشية:-
* وردةٌ للوعي .. وردةٌ للارتباك:- قصة قصيرة، عيسى الحلو/ نُشِرَتْ في الأيّام/ ملحق الآداب والفنون، 1983.
** من شعر علي أحمد سعيد (أدونيس) في (أغاني مهيار الدّمشقِي).
*** ملحوظة:- مصطلح "الوعي" هنا يُستخدمُ كمرادفٍ للتجربة الشعوريّة الباطنيّة عند الإنسان وليسَ "الاستدلال العقلي".
**** أنظر كتاب فلسفة نيتشة، أويغن فنك، ترجمة الياس بديوي، تجد حديثاً رائعاً عن تمجيد نيتشة لهذه الحضارة الحسّيّة– الكتاب من منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي/ دمشق 1974.
***** تجد هذه التفرقة في أيِّ كتاب فلسفي عن أرسطو.
****** و ******* من شعر الشاعر السوداني النور عثمان أبّكر في "صحو الكلمات المنسيّة".
******** أشار كولن ويلسون لهذا الشكل من العلاقة بين الفنان والمرأة:- يمكنك الرجوع إلى كتابه رحلة نحو البداية:- ترجمة ذاتية ذهنية– ص. 389- 393 – منشورات دار الآداب– بيروت– ترجمة:- سامي خشبة.
هامش:-
من مقالات كتابي المسمّى "استبصارات (مجموعة رؤى وتأملات نقديّة)..."...
khalifa618@yahoo.co.uk