(1) عندما نشتكي من الفساد في بلادنا، تأتي حجتهم بان الفساد موجود في كل مكان في الدنيا! ونتفق معهم ونقر بهذا-والسبب في وجود الفساد في كل مكان هوان مصدر الفساد أساسا الانسان الفرد الذي طغت عنده الانانية وحب الشهوات على الايثار وحب الخير للآخر. وابسط تعاريف الفساد السياسي يقول انه سوء استخدام السلطة والمركز من اجل المنفعة الشخصية. وفي البلدان التي تعمل فيها السلطات الرقابية والعدلية بكفاءة لا يفلت مثل هذا الفرد من العقاب بل والتشهير. لكن للفساد السياسي صور مختلفة: 1-الفساد المحدود اوالثانوي (Petty Corruption) والذي يحدث عند تنفيذ الخدمات العامة اوإدارة شؤون الناس. 2-الفساد الكبير (Grand Corruption) وهو ذاك النوع من الفساد الذي يتم على مستوي السلطات الحكومية العليا، والذي يتطلب تخريبا جسيما للنظم السياسية والقانونية والاقتصادية. 3-الفساد الشامل الوبائي (Systemic Corruption) وهو الفساد الناتج عن ضعف المنظمات الحكومية وضعف القوانين المنظمة لأنشطتها او غيابها. وفي هذه الحالة يكون الفساد شاملا حتى يكون من الصعب محاسبة المفسدين او مطالبة المسؤولين بالشفافية والأمانة. (2) دعونا الآن نتتبع تطور الفساد في بلادنا منذ عام 1956 عام الاستقلال الي يومنا هذا. في خمسينات القرن الماضي كان الفساد في النطاق الضيق الذي يختلس فيه موظف مبلغا من المال او يتفق محاسب وصراف على الاعتداء على المال العام. وكانت الصحف تنشر اخبار وكيل البوسطة الذي وجدت المراجعة عجزا في خزينته، ولم يكن يتجاوز هذا العجز أكثر من الفين او ثلاثة ألف جنيه، او ناظر المدرسة الذي امتدت يده للرسوم الدراسية التي يدفعها الطلاب. ولان السلطات القضائية المستقلة لم يكن يؤثر عليها كائن من كان، كانوا ينالون جزاءهم وفق القانون، وتتبع ذلك الإجراءات الإدارية التي كانت تحرم مثل هذا الفرد التعامل مع المال. ومن الطرائف ان ناظر المدرسة المختلس كان ينقل لرئاسة الوزارة، أي ينقل للخرطوم، امنية كل معلم وكل ناظر! وظل الفساد حصرا على هذا النوع طوال فترة الديمقراطية الاولي. وجاءت الشمولية الاولي ولم يتغير الحال الا ما كان يسمعه الناس عن غني أعضاء مجلس الثورة. وفي الديمقراطية الثانية ظلت الخدمة المدنية محتفظة بنظمها وقوانينها وسمعتها، والقضاء مستقل يطبق القانون بعدالة. الا ان الأحزاب السياسية بدأت في مكافأةجماهيرها "بالواسطة".
(3) وعندما أتت الشمولية الثانية، مدعية فساد النظام الديمقراطي، ارادت اثبات ذلك بتقديم بعض رموز النظام الديمقراطي للمحاكمة بالفساد. فقدمت للمحاكمة الدكتور احمد السيد حمد، والسيد حسن عوض الله، والسيد يحي الفضلي. وليتهم لم يفعلوا فقد حاكم الدكتور احمد السيد حمد الشهود والنظام الجديد! والمدهش ان التهمة كانت منح تصاريح تجارية لأعضاء الحزب الاتحادي. والرخصة التجارية موضوع القضية كانت رخصة لاستيراد "شباشب سفنجة"!! وحتى ذلك الحين والفساد فساد محدود (Petty Corruption)، ولكن ظهر الفساد "علي اصوله" عندما رحلت حكومة النميري يهود الفلاشا، و عندما اصبح عدنان خاشوجقي مستشارا للرئيس وزميلا للدكتور بهاء الدين ادريس فسمعنا بعمولات القروض بملايين الدولارات، لخاشوقجي و للنميري و لبهاء الدين. وسرت العدوي لمديري المشاريع، نذكر علي سبيل المثال لا الحصر مشروع تسمين الماشية و كانت عقوبة هذا المدير "البونية و الشلوت" و كانت تلك بداية حكم الفرد الذي يعطل القوانين و يقزم مؤسسات الدولة، و هكذا ظهر النوع الثاني من الفساد، أي الفساد الكبير (Grand Corruption). (4) ثم جاءت الشمولية الثالثة، والتي بشرتنا بدولة الفاروق عمر بن الخطاب، وخلال فترة وجيزة أصبح الفساد مقبولا ومجازا لأعضاء الحزب الحاكم، وتوسع ليشمل المؤلفة قلوبهم وتمدد بصورة وبائية حتى أصبح فسادا شاملا، حيث تعجز السلطات القضائية على ممارسة واجباتها العدلية. وفي هذا المناخ سمعنا بالكثير المدهش من قصص الفساد، ولم يعد مدهشا ان يقال ان شخص او شخصين استولوا على مليار دولار!! لكن المدهش المحزن "البجنن" ما سمعناه ان ولاة امورنا في المجلس التشريعي والمناط به رقابة السلطة التنفيذية ناقشوا امر فئة ريعها من مال الشعب يوميا عدد من "شوالات" القروش – لغاية هنا والحكاية مبلوعة – لكن رئيس السلطة التشريعية علق قائلا ان هذه الفئة لها صفة حميدة! (على وزن ورم حميد)، وذلك انها تسرق وتعطي الحكومة نسبة مما تسرق!! ويخشى رئيس السلطة التشريعية ان تتظاهر هذه الفئة محتجة ان البرلمان لم يأخذ في الحسبان "الورم الحميد" من فسادهم!! لله الامر من قبل ومن بعد، رب لا نسألك رد القضاء ولكنا نسألك اللطف فيه. يا ربي يا حنان يا منان، يا كاشف الكروب ومجيب دعوة المضطرين، برحمتك نستغيث. لا اله الا انت سبحانك انا نحن الشعب السوداني كنا من الظالمين فأخرجنا من بطن هذا الحوت، انك علي كل شيء قدير. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين