يسعد مساؤك يا غابو

 


 

 

خارج الدوام

www.dabaiwa.com

ولد الطفل في منزل كان يعيش فيه عدد كبير من الأحياء وثلاثة من الموتى، ينامون بالنهار في غرفهم، ثم يبدأون التجول وتدبير معيشتهم عند حلول الظلام. كان هناك من الموتى الخالة بيترا، والخال لاسارو، والخالة مارغريتا الجميلة. لضبط حركة الطفل في البيت الكبير، كانت الجدة تهددهبأولئك الأهل من سكان الظلام! بعد نصف قرن، كان الرجل يستيقظ ليلاً في أي مكان وهو يشعر بذات الخوف الطفولي من أقارب موتى في ظلام غرفته.  ذات مرة رأى الطفل خالته تحيك كفناً وهي في أتم صحة فسالها عن السبب، لتبلغه بأنها ستموت عما قريب، وحين أكملت فرانسيسكا عملها اضطجعت وماتت! كان الطفل أول من علم مع جده العقيد ماركيز بنبأ وفاة صديق الجد جيريميا دو سانت آمور منتحراً باستنشاق غاز السيانيد، وعندما عاد للمنزل أعلن النبأ على طريقته الخاصة “ لن يلعب جيريميا الشطرنج بعد الآن”!  كاد غابرييل غارثيا ماركيز أن يفقد فرصته في الترشح لجائزة نوبل إذ دعاه صديقه دكتاتور بنما الراحل عمر توريخوس لمرافقته في رحلة بالطائرة اعتذر عنها لتضيع الطائرة في السماء، حتى تم العثور على حطامها وجثمان ركابها بعد أيام. غاب غابو عن مراسم التشييع والدفن وحين سئل عن ذلك أجاب ببراعة وصدق “ أنا لا أدفن اصدقائي”. في العام التالي، حقق غابو انجازه العظيم بالفوز بجائزة نوبل في الأدب.

في السادس من مارس  الماضي،رأيت صديقنا غابو  يرتدي بدلة  أنيقة، وقد اختار له مساعدوه أن يحمل باقة زهور يغلب عليها اللون الأصفر من باقات ورد كانت السيارات تنقلها دون ملل الى داخل المنزل الفاخر رقم ١٤٤ شارع فيوخو (أي النار بالإسبانية) بضاحية بيديرغال دي سان انخيل، جنوبي مدينة مكسيكو سيتي.

في ذكرى ميلاده الأخيرة، قلت له:

الآن، يا غابو العظيم، صار كل شيء مرتب تماماً في حياتك الهانئة، وقد أبلغنا بيلينو أبييوـ ميندوزا، صديقك الأثير، إنك تسافر دون حقائب وإن منازلك المنتشرة في مناطق عدة تحتوي على أجود أنواع الأنبذة مبردة بالدرجات المطلوبة. الأحمر معتدل الحرارة كما ينبغي والأبيض بارداً كما قد تشتهيه. لقد نجحت كثيراً منذ اليوم الذي حرصت فيه على أن تأتي للمقهى مبكراً لمقابلة رئيس تحرير الإسبكتادور وتغادر بعده حتى لا يرى أنك كنت تلبس حذاء مثقوباً دون جوارب. بعدها اضطررت لبيع الزجاجات الفارغة في باريس حتى تضمن عيشك بعد أن أغلقت الإسبكتادور. قبل ذلك، كنت تقتسم مع بعض بائعات اللذة طعامهن البسيط، وضحاتهن المرحة، إذ لم يكن بقية الساكنين في الفندق يرحبون بحضورك الهاديء، وحقيبتك الثقيلة التي كنت تحملها دائماً كشيء عزيز جداً. كانوا يتأففون منك اذ تضايقهم في الشراب والدخان وكنت تسمعهم يقولون ساخرين " ها قد جاء الولد المثقف!". الآن جميعهم يسعون اليك وقد تلى عليك الرئيس بيل كلنتون مرة مقاطع مطولة من رواياتك حين دعاك للعشاء معه. رؤساء العالم المنتخبون رأساً برأس مع نظرائهم الإنقلابيين يسعون اليك وتبقى أنت المهيب الوحيد في مجالسهم. من كانوا يعبرون عن ضيقهم بك لم يكونوا على علم بأن حقيبتك الثقيلة كانت تضم مخطوطة (مائة عام من العزلة)! لا أتذكر المرة الأولى التي تعرفت عليك فيها لكن ربما من خلال كتاب للدكتور تاج السر الحسن. على الفور صرت صديقك وقرأت أعمالك الروائية، والقصصية كلها، وأتذكر اسماء أغلب شخصياتها بأسمائهم الثلاثية الصعبة. بسببك حاولت دراسة الإسبانية على يد الآنسة دعاء في القاهرة، وعلى يد السيدة الرقيقة اليثابيث في سيدني. كانت اليثابيث معجبة بطريقة نطقي للكلمات وفي كل مرة تسالني عن سبب شغفي بتلك اللغة فأعيد عليها الحكاية. ذات مرة اعترفت لي بأنها تحبك وأنها اسمت ابنها البكر غابرييل على اسمك، فيما أسمت الثاني سالبادر على سلفادور دالي. باتريشيا أيضاً كانت تحتفظ بكتبك في طاولة مكتبها  بقرب طلاء الشفاه الأحمر القاني الذي كانت تفضله دائماً. ام باتريشيا كانت تحبك لكنها لم تعد تطيق حكاياتك الدائرية فصارت تلوذ بصديقتنا الأخرى ايزابيل الليندي وكانت تبكي كلما أتمت فصلاً من (باولا). أليس الجميلة كانت تغادر مكان عملنا بملابس رياضة الدراجات الهوائية كل جمعة وهي تلوح بمرح  (آستا لا بروكسيما سيمانا) وكان حلق  بريندان في المكتب المجاور يجف بسبب الإنفعال وفجيعة أنه لن يراها الا الأسبوع المقبل.حين يتأكد من انها غادرت المبنى كله، كان يكور قبضتيه ويصرخ بمفردته الأثيرة (إنكريديبُل). أين هؤلاء جميعاً الآن؟ لست أدري لكني على يقين بأنهم يعيشون سعداء في أمكنة ما لأنهم سعدوا بتأملاتك يا غابو. شغلني هذا العالم  فلم أنجح في قراءتك بلغتك الأولى، لكني اسعد الآن حين يتبادل صغاري بعض المفردات بتلك اللغة الجميلة وحين يتبادلون التحايا ب(أوولا).

لأجلك سأقنع خديجة مرة بقضاء اجازة جميلة في كولمبياحيث سنزور أراكاتاكا بالتأكيد.

في شيخوختك الهانئة، صرت تلبس الحلل الكاملة وكنت لا تحبها أبداً، ولم تعد تذكر  أنك فزت بنوبل وإن العالم كله كان ينتظر الجزء الثاني من (فيفير بارلا كونتارلا) حتى داهمتك الشيخوخة. حكايات كثيرة لم يعد ممكناً الآن أن تقصها علينا، لكن لا عليك فقد اسعدتنا كثيراً واضأت حياتنا بما قصصته علينا بالفعل. سلام.

***

الآن سنعلن النبأ للعالم على طريقتك "لن يكتب ماركيز الجزء الثاني من (عشت لأروي)" لكن صديقك ميندوزا حي وكل اصدقائك الذين احترموا صداقتك سيبلغوننا الآن في كتب ستطبع عاجلاً عن غرامياتك وصداقاتك وحكاياتك وكم مرة التقيت صوفيا لورين، وهل كان ماريو بارغاس يوسا محقاً حين اتهمك بخيانته وسدد لك لكمة في عينك في احتفال كبير وبهيج أمام مشهد من الناس؟

كتبك تحتل المركز رقم اثنين من حيث الإنتشار في العالم الناطق بالإسبانية بعد الإنجيل المقدس وهذه قمة المجد.

الآن ذهبت لكنك تركت لمرسيدس ورودريغو وغونثالو المجد والشهرة والمال لكنك لم تترك العالم يتيماً بعد أن منحته كل هذه السعادة.


//////////

 

آراء