قُتل مواطن وجُرح آخرون، إثر إطلاق النار على أهالي منطقة غنية بالذهب في شمال السودان، اعتصموا أمام مقر الشركة الروسية التي منحتها الحكومة السودانية حق التنقيب على المعدن النفيس في المنطقة، احتجاجا على طردهم من أرضهم، ومطالبين بمنحهم الأولوية في التنقيب، باعتبار أن الأرض مملوكة لقبائلهم وليس للدولة أو لروسيا، وهم يمارسون التعدين الأهلي فيها، وبموافقة الحكومة، منذ عام 1997. البعض يقول أن العاملين الروس هم من أطلق الرصاص على المحتجين العزّل..!، وهذه لعمري كارثة كبرى، لا تحتاج منا إلى تعليق. والمسؤولون السودانيون ينسبون إطلاق الرصاص إلى الشرطة السودانية، وهذه أيضا كارثة كبرى، لصالح اعتقاد القائلين بأن الحكومة «حاميها حراميها»…؟! فتقريبا، كل مناطق الاستثمارات الزراعية والتعدينية في السودان، تشهد نزاعا ًمستمرا بين السكان المحليين والشركات الاستثمارية، بسبب الخلاف حول الأرض الممنوحة للاستثمار، الوطني أو الأجنبي، والتي هي تاريخيا ملك للسكان المحليين، والحكومة دائمة في صف الشركات الاستثمارية، وبقوة الحديد والنار، للأسف.
وإذا كنت من محبي أفلام «الكابويات»، فأغمض عينيك وتأمل نزاعات الأراضي والذهب هذه، لتشاهد نسخة سودانية من أفلام ال «وسترن»، حيث الأرض والذهب كما في تلك الأفلام، والشركات الاستثمارية كما اليانكي والغزاة البيض، بينما الأهالي ملاك الأراضي وكأنهم الهنود الحمر في «الوسترن» السوداني، والفيصل هو العنف وسلاح الحكومة، والأرض مروية بدماء أصحابها، مثلما ارتوت آنذاك.
أما إذا تأملت هذه النزاعات، وأنت من القارئين للاقتصاد السياسي، أو من عشاق «رأس المال» لكارل ماركس، فستتبدى أمامك نسخة سودانية لعملية التراكم البدائي لرأس المال، والتي في الأساس جرت في أوروبا الغربية خلال القرون 16 و17 و18، عبر فصل صغار المنتجين، وخاصة الفلاحين، عن وسائل الإنتاج، وخاصة الأرض، والاستيلاء عليها بالعنف الدموي. وكان أكثر صور تراكم الرأسمال البدائي كلاسيكية في إنكلترا، عندما استولى اللوردات على أراضي الفلاحين، وطردوهم منها، وحوّلت الأراضي المغتصبة إلى مزارع شاسعة، وبدء في ممارسة الإنتاج الزراعي على أساس رأسمالي، وسنّت الدولة ما عرف بالتشريعات الدموية ضد الذين صودرت أراضيهم، فعززّت نظام العمل المأجور عن طريق أبشع صور التعذيب، ودفعت الفقراء إلى العمل عنوة في المؤسسات الرأسمالية، بأجور بسيطة وساعات عمل طويلة. خراب صغار المنتجين وتحولهم إلى عمال أجراء، رافقه تراكم ثروة كبار المالكين، وكانت عملية التراكم البدائي لرأس المال نقطة الانطلاق في نشوء أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وظهور مالكي وسائل الإنتاج، من جهة، والعمال المأجورين البائعين لقوة عملهم، والمحرومين من وسائل الإنتاج والأحرار، حقوقيا، من جهة ثانية. صحيح، التراكم البدائي لرأس المال كان اللبنة الأولى لنشوء الرأسمالية وتطورها الصناعي لاحقا، لكن في النسخة السودانية، لا ترتبط المسألة بأي خطط للتطوير الصناعي محليا، وإنما يتم هدر المواد الخام الناتجة من التنقيب أو الزراعة، ونزيفها إلى خارج البلاد لصالح الاستثمارات الأجنبية. وظل السائد هو الرأسمالية الريعية، حيث الطبقات الطفيلية غير المنتجة، والتي لا يتأتى دخلها من الإنتاج السلعي، بل من امتلاك مصادر الريع، مثل الاراضي والعقارات المؤجرة، والاسهم والسندات، وأنشطة السمسرة والعمولات.
حوالي 50٪ من مساحة السودان يحتضن جوفها النفط والمياه الجوفية والمعادن من ذهب وفضة ونحاس وكروم ومنغنيز وزنك وحديد ورخام…الخ، إضافة إلى اليورانيوم الذي يقدر احتياطيه بحوالي 1.5 مليون طن، حسب إفادات الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية، وإفادات صحافية لوزير الطاقة في عهد النميري د.شريف التهامي. وتنتشر هذه الثروات، بنسب متفاوتة، في كل أنحاء السودان. وصاحب استخراجها واستغلالها، تفاقم النزاعات الدامية، والتي أصلا كانت موجودة، حول ملكية الأراضي موضع التنقيب. وفي ظل غياب التخطيط السليم، وإنحراف بوصلة التنمية عن المصلحة المباشرة للمواطن البسيط، وتفشي الفساد وإنعدام الشفافية، فإن تنقيب الدولة عن ثروات الأرض، عبر شركات حكومية أو شركات خاصة مرخص لها، دائما ما يفضي إلى فقدان العديد من المجموعات السكانية لأراضيهم لصالح شركات التنقيب، الأجنبية غالبا، دون الحصول على التعويض المجزي، إضافة إلى التأثيرات البيئية السالبة من جراء مخلفات التنقيب، مسببة تدهور صالحية أراضي الزراعة والمرعى وتلوث المياه على قلتها. وبسبب تحركات المجموعات السكانية المتأثرة بصناعة التنقيب، بحثا عن ملاذات ومراع جديدة، كثيرا ما تحدث الاحتكاكات القابلة للاشتعال والانفجار إلى نزاعات دامية.
عند قبيلة المسيرية في السودان، توجد شجرة تسمى «شجرة المِرفَعين».
و«المرفعين» هو اسم سوداني للضبع. ويعتقد المسيرية أن المرفعين يستظل بهذه الشجرة عندما تشتد درجة حرارة النهار، على الرغم من أن أيا منهم لم يدع أنه رأى المرفعين تحت تلك الشجرة!! ويُحكى عن زعيم قبيلة المسيرية، الراحل الناظر علي نمر، تشبيهه للبترول المستخرج من أراضي المسيرية بشجرة المِرفَعين، فيقول «البترول المستخرج من أراضي المسيرية ويضخ عبر الأنابيب تحت أقدامنا، لم نره حتى الآن…إنه يشبه شجرة المِرفَعين»، في إشارة إلى عدم استفادة المنطقة من عوائد البترول المستخرج من أراضيها. وعلى ذات النسق، يمثل الذهب شجرة المرفعين بالنسبة لأهلنا في الشرق، مثلما يمثلها الكروم بالنسبة لأهلنا في جنوب النيل الأزرق…الخ. ومع تدفق عائدات التنقيب عن البترول والذهب إلى الحكومة المركزية لتتبدى عمارات شواهق، يستشري في مناطق التنقيب الفقر والعطالة وغياب الخدمات الضرورية لحياة الإنسان ولصون آدميته، ليعشش التوتر العرقي في هذه المناطق، ولتُحرق سماواتها نيران الحرب الأهلية.
أما التعويضات عن المساحات الشاسعة المقتطعة من المزارع والمراعي للتنقيب، فإضافة إلى بؤس مكونها المادي، فإنها تدفع إلى الأفراد الذين يدعون ملكيتهم للأرض، بدلا من تقديمها إلى المجتمعات المحلية في شكل خدمات وتنمية، متسببة بذلك في خلق أجواء التوتر والتنازع حول ملكية الأرض التي كانت، قبل التنقيب، تعتبر ملكية عامة للقبيلة أو المجموعة المحلية. وبسبب هذه النزاعات، ظل السودان يفقد أرواح المئات من الشباب.
٭ نقلا عن القس العربي