في الاسبوع الاول من ديسمبر2011 كنت في زيارة اجتماعية الى بربر. كنا جلوسا في الديوان مع مجموعة من الاهل والجيران الذين قدموا للتحية والترحيب بنا ويمثلون شريحة تقليدية ومعبرة للمجتمع السوداني. ففيهم العامل في مصنع الاسمنت القريب، وفيهم الطالب والتاجر والميكانيكي والمزارع والموظف. كان التلفزيون مفتوحا ودكتور نافع علي نافع مساعد الرئيس وقتها لشؤون الحزب يتلو أسماء أعضاء أول حكومة بعد الانفصال.
لفتت نظري التعليقات السلبية كلما ذكر أسم في قائمة الوزراء الجدد، وهي تعليقات لا تحتلف عما يسمعه المرء عادة في المهاجر مثل واشنطون أو لندن أو الرياض أو تورنتو أو حتى في الخرطوم. تحركت غريزتي الصحافية وطرحت سؤالا على المجتمعين ان كانوا قد شاركوا في انتخابات العام الماضي (2010) أو قاطعوا. فوجئت بالاجابة انهم شاركوا. سألت سؤالا ثانيا ولمن صوتهم؟ جاءتني الاجابة المفاجئة: صوتنا للمؤتمر الوطني. واصلت الاسئلة: لماذا وأنتم لديكم كل هذه الانطباعات السلبية عن الانقاذ؟ جاءت الاجابة: واحد من أهم المرشحين المنافسين ينتمي الى الحزب الاتحادي الديمقراطي الاصل عقد اجتماعا شاركت فيه مجموعة من الحضور في هذا المجلس. في ذلك الاجتماع طفق المرشح يتحدث عن فساد الانقاذ وسياسة التمكين وفلوس البترول التي ضاعت ودولة الجبايات وممارسات جهاز الامن حتى قاطعه بعض المشاركين بالقول انهم يعرفون كل ذلك، لكن يهمهم معرفة ماذا سيفعل اذا انتخبوه. اجابته لم تقنع عددا كبيرا من الحضور الذين قرروا التصويت لمرشح الحزب الوطني الذي فاز.
عادت الى ذاكرتي تلك الحادثة وأنا أطالع واحدا من ثلاثة موجزات عن الوضع في السودان من المؤسسة البحثية مجلس الاطلنطي الامريكي صدرت مطلع هذا الشهر، اذ تحدث عن رد الفعل على الميزانية الجديدة وان بضعة ألاف خرجوا محتجين في مظاهرات تمكنت الحكومة من أحتواءها بسهولة.
رد الفعل الجماهيري الضعيف هذا لا يعني قطعا ان الناس توافق على تلك الاجراءات أو انها مساندة للحكومة، التي اصبحت "لبيسة" بمعنى انها تعاني من مشكلة مصداقية تعبر عنها القابلية المتضخمة لتصديق أي شيء سلبي عن الحكم ورموزه، لكنها تشير الى أمر أعمق وهو فقدان العشم والامل في توفير الحلول من قبل الطبقة السياسية بحكوماتها ومعارضاتها المختلفة، وهي الطبقة التي بلغت ذروة تألقها في أنتفاضة أكتوبر الشعبية في 1964 التي أنهت أول حكم عسكري في البلاد وأبرزت قيادات حزبية وتوجهات فكرية تسيدت المشهد السياسي العام في البلاد لأكثر من نصف قرن من الزمان.
لكنها وبكل المقاييس وصلت الان الى طريق مسدود. فلا أهل الحكم قادرين على السير قدما في مشروعهم أو ما تبقى منه ولا معارضيهم قادرين على تحديهم بما يفرض على السلطة تنازلات تسهم في توسيع قاعدة الحكم وتحقيق قدر من الاستقرار، الامر الذي يهدد البلاد بالتفتت.
حالة عجز هذه الطبقة تبدو شاخصة في كل مكان ومن ملامحها اضمحلال الثنائية التي وسمت مختلف مناحي الحياة بمناكفات عقيمة لخصت اهتمامات هذه الطبقة وقضاياها: الختمية والانصار، الهلال والمريخ، خريجو جامعة الخرطوم والقاهرة الفرع، الاسلاميون والشيوعيون.
ومن ملامحها أيضا حالة وقف اطلاق النار المتطاولة بين الحكومة وحملة السلاح وبدون الدخول في ترتيب رسمي مؤسس لوقف العدائيات وفوق ذلك الفشل في تحويل ذلك الوقف المتبادل من طرف واحد الى عمل سياسي يعالج الاسباب التي أدت امتشاق السلاح واحلال السلام، وهي حالة يمكن وصفها بالارهاق وغياب القدرة والفكرة على التحاور بالافكار والبرامج.
وفي مناخ الانتظار هذا يسعى البعض الى اشعال انتفاضة ثالثة، وهو ما يدفع الى التساؤل عما انجزته كلا من انتفاضتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985. والاجابة واضحة بدليل تكرار حدوث وثبة عسكرية على الحكم بعد كل انتفاضة، وعليه فاستمرار الحديث عن انتفاضة ثالثة دون شغل سياسي وفكري جاد حول لماذا لم تنجح الانتفاضتان السابقتان يعتبر وصفة جاهزة لاعادة الفشل في وضع أسس للدولة السودانية القائمة على توافق وطني.
هذه الطبقة السياسية التي يطلق عليها النخبة أو القوى الحديثة تعود بجذورها الى فترة ونجت باشا التي تقارب العقدين حكم فيهما السودان وبدأ تعليما لتخريج أفندية ليسهموا في ادارة جهاز الدولة وهم الذين ورثوا السلطة الاستعمارية عبر عمليات السودنة مستغلين الشعور الوطني الجارف لتسنم مختلف المواقع. عملية السودنة هذه أفسحت المجال للأجيال التالية من هذه الطبقة عبر طبعتها الجديدة المسماة قسمة السلطة والثروة.
ظلت هذه الطبقة متمحورة حول ذاتها ومشغولة بصراعاتها التي عبرت عن نفسها بأئتلافات ضعيفة في التجارب البرلمانية التي شهدتها البلاد اذ تقوم وتنفض بدون أساس موضوعي وتحركها أفكار وتوجهات لبعض قيادات نخبها في طبعاتها العسكرية وتتراجع عنها وبدون أي نقد لما جرى، الامر الذي جعل من اعادة اختراع العجلة بندا ثابتا وان تعددت الاشكال.
فالمعارضة مثلا بدأت نشاطها ومبكرا بتجربة التجمع الوطني الديمقراطي التي ضمت الحركة الشعبية لأول مرة ممثلة للجنوب مما أعطى أملا ان توحد المعارضة وتبنيها لبدائل يمكن أن تفتح الباب أمام التغيير المنتظر، لكن مرت السنوات وجرت مياه كثيرة تحت كباري الخرطوم خلقت واقعا جديدا طال الحكومة كما طال المعارضة التي أبرزت أشكالا جديدة مثل الاجماع الوطني ونداء الوطن وما بينهما، لكن بدون توضيح أو تقييم للتجارب الماضية في جانبي الحكم والمعارضة ولماذا انتهت الى ما خلصت اليه، ومن ثم فتح صفحة جديدة يمكن دعوة الناس اليها. والمعارضة في هذا تستند الى تقليد عريق لهذه الطبقة منذ أن نكص الازهري عن مشروعه الوحدوي مع مصر الى الترابي الذي طل على المشهد السياسي من نافذة الحرية والانتفاضة ضد العسكر وليهندس فيما بعد لأكبر عملية عسكرة وتغييب للحريات في السودان حتى الآن.
وتمثل حالة الانقاذ سنام فشل هذه الطبقة من واقع أهدارها لآربع فرص رئيسية كان يمكن أن توفر الرافعة التي تضع البلاد على طريق الاستقرار والتنمية السياسية والاجتماعية وتهيئها الى مرحلة الانطلاق Take Off
وتتمثل الفرصة الاولى في ان انقلاب الانقاذ لم يكن انقلابا عاديا تقليديا كأنقلاب عبود ولا نتيجة أئتلاف بين العروبيين واليساريين كما في انقلاب النميري، وانما كان هو انقلابا خالصا لتنظيم واحد هو الجبهة الاسلامية القومية التي حازت على المرتبة الثالثة في انتخابات 1986، مما يؤكد على البعد الشعبي للنظام الجديد المسنود بقوة اعلامية ومالية معتبرة.
أما الفرصة الثانية فتتلخص في الدور الاقليمي المحوري الذي لعبه السودان في احداث التغيير السياسي في كل من أثيوبيا وارتريا، الامر الذي كان يفترض أن يوفر له أستقرارا ودورا أقليميا خاصة والحدود مع أثيوبيا الممتدة لحوالي 700 كليومتر ظلت خميرة عكننة مستمرة لمختلف الانظمة.
وهناك الاختراق الذي أحدثته الانقاذ في ملف البترول ويمثل الفرصة الثالثة المهدرة. فهي التي تمكنت من أستخلاص الامتياز من شيفرون التي تمترست عبر حجة التهديد الامني لعملها منذ أيام النميري ومرورا بسوار الذهب وانتهاء بالصادق المهدي لترفض العودة للعمل مع الاحتفاظ بامتيازها. وذهبت الانقاذ خطوة متقدمة بحسم الجدل حول هل يستغل النفط المستخرج لتلبية الاحتياجات المحلية أو للتصدير. ويحمد لوزير النفط الحالي دكتور عبد الرحمن عثمان ان وضع الاسس للتعامل مع هذه القضية وساعد فيها ان كميات النفط المكتشفة اسهمت في ترجيح الخيار المثالي وهو التصدير الى جانب مقابلة الاستهلاك، ثم القفزة الكبرى بالاتجاه شرقا والاستعانة بالصينيين والماليزيين لمعاونة السودان أن يصبح دولة منتجة ومصدرة بعد استنكاف الشركات الغربية على الدخول في مشروع النفط السوداني.
طفرة النفط التي أستغرقت عقدا من الزمان أدخلت الى البلاد في أفضل التقديرات موارد تتراوح بين 30 مليار الى 35 مليار دولار بما في ذلك نصيب الشركات وبعد حذف نصيب الجنوب، لكن وبغض النظر عن الرقم الفعلي، فانه من المؤكد ان ما دخل خزينة الدولة من العملات الاجنبية يظل الاكبر في تاريخ السودان.
وفوق هذا كله تمتع النظام بفرصة الاستمرار في حكم البلاد لآطول فترة في تاريخ البلاد تقارب نصف عمرها بلدا مستقلا.
ورغم هذه الفرص الاربع فأن النظام لم يتمكن من تحقيق استقرار سياسي واقتصادي بدليل الازمة الخانقة في هذين الجانبين تحديدا وعدم قدرته على اقناع بقية القوى السياسية من خلال ممارساته وصدقيته بالعمل السلمي واعتماد صندوق الانتخابات وسيلة للتغيير. بل ان الفشل وصل الى داخل حوش الحزب الحاكم بتشققاته ومراكز قواه المختلفة حتى يبدو أحيانا وكأنه المعارض الرئيسي للحكومة. ورغم المكوث الطويل في السلطة الا ان الحزب يواجه مشكلة واضحة في توفير الكوادر القيادية بدليل عمليات اعادة التدوير للقيادات في مختلف المواقع والضعف البائن لمجموعات الشباب الاصغر سنا التي كان يفترض أن تنقل الحزب والنظام الى مرحلة أفضل.
اشكالية النظام الرئيسية تلخصها رمزية أسم تنظيمه السياسي السابق: الجبهة الاسلامية القومية. فبينما القومية تشير الى الارضية التي يقف عليها وينطلق منها، الا ان الصفة الاسلامية العالمية كانت هي محور جهده السياسي والفكري وهي التي دفعته حتى الى محاولة جعل السودان "كوبا الاسلامية" كما في تجربة المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي، وأهم من ذلك انها أبعدته عن الجانب التطبيقي لكيفية التعامل مع قضايا السودان ولو من منظور اسلامي. ففي الاعداد للتغيير عمل الانقلابيون على التجريب الحي للسيطرة على وسائل الاتصال بما فيها الاذاعة، لكن لم يهتموا بتوفير حلول لقضايا السودان المتشعبة رغم ارسال حوالي 30 كادرا للدراسة في الولايات المتحدة في عقد الثمانينات. ولهذا ظل ملمح المشهد العام قدرة فائقة للحفاظ على السلطة وعجز بائن في احداث اختراقات وحلحلة مشاكل البلاد المزمنة. هل المخرج في انتفاضة ثالثة بفترة انتقالية؟