مراجعات في المشهد العام (3+5)

 


 

 

 

 

منازلة الانقاذ أنتخابيا

في أواخر الشهر الماضي عقدت قوى المعارضة مؤتمرا صحافيا أكدت فيه على توحدها وانها سوف تستمر في أتباع الوسائل السلمية المناوئة من المظاهرات الى الاضراب الى العصيان المدني وصولا الى اسقاط النظام.

هذا حق مشروع للمعارضين، لكن أرجو أن تضع المعارضة في حساباتها وبرامجها العمل على اسقاط النظام من خلال صندوق الانتخابات. فالذي يرى ان لديه القدرة على حشد الجماهير في أعمال مناوئة تستصحب قدرا يقل أو يكثر من المخاطر والعنف من التعرض للغاز المسيل للدموع الى الضرب بالهروات الى الاعتقال وربما التعرض الى اطلاق الرصاص والفوز في النهاية يفترض أن تكون لديه ثقة أكبر في قدراته وفي الناس الذين يتوجه اليهم للقيام بعمل سلمي وأقل خطورة يتمثل في العمل الدؤوب وسط الناخبين وتسجيلهم والتأكد من ادلاءهم بأصواتهم مهما سعى النظام للحفاظ على الاوضاع الحالية من خلال تزوير الانتخابات أو التضييق على المرشحين والسيطرة على الاعلام.

أحد مجالات مثل هذا التحرك الذي يمكن أن يقفل ثغرة كبيرة في مجال التزوير العمل على تفعيل بعض القواعد الاجرائية الخاصة بالانتخابات التي تسمح لكل مرشح أو ممثله أن يكون حاضرا منذ لحظة بدء التصويت حتى نهايته والتأكد من سير العملية الانتخابية وعد الاصوات بعد قفل الصندوق واعتماد النتيجة من قبل كل المرشحين أو مندوبيهم.

لكن يبدو ان هناك عدة اعترضات على مثل هذا التوجه من بينها ان الوضع وصل الى درجة من التدهور الاقتصادي والسياسي حتى انه لا يحتمل الانتظار لمدة عامين وهو الموعد المقرر للانتخابات. واذا تركنا جانبا الطرفة التي قيلت في بدايات عهد الانقاذ ان النظام الجديد مثل لوح الثلج الذي سيذوب وحده، ومرور 29 عاما ولوح الثلج لا يزال في مكانه. وبغض النظر عن هذا النقطة، فان للأمر جانبا أخر يتعلق بالنظرة الى العملية الديمقراطية نفسها التي تتطلب المثابرة والصبر عليها والبناء طوبة طوبة حتى يستوي بنيانها عبر التجارب والانتصارات والنكسات في مختلف المجالات الدستورية والسياسية، وهو ما لم توله الحركة السياسية الاعتبار الكافي رغم شكاويها المستمرة ان الديمقراطية لم تعط فرصة للتطوير الذاتي، لكن السجل الذي أمامنا يوضح انه حتى عندما أتيحت الفرصة لم يغتنمها أحد.

فأنتخابات 2010 تمت مقاطعتها في أخر لحظة بدعوى التزوير رغم انه كان من الافضل المشاركة لاثبات ذلك التزوير من واقع الممارسة الفعلية وأهم من ذلك وضع لبنة في عمليات التواصل مع القواعد وطرح البرامج وأختبار البدائل والمرشحين حتى يمكن تحقيق الفوز.

وتمثل حالة الرئيس السنغالي الاسبق عبدالله واد نموذج على حالة الاصرار هذه اذ قرر منذ العام 1978 تحدي الحزب الاشتراكي الحاكم بقيادة ليولولد سنغور وأسس حزبا مناوئا خاض به الانتخابات الرئاسية التي خسرها، وكرر التجربة في أعوام 83 و 88 و 93 وفي الدورة الاولى في انتخابات 1999 ليفوز في الدورة الثانية ويصبح أول رئيس للسنغال من خارج منظومة الحزب الاشتراكي.

وبسبب مقاطعة المعارضة لأنتخابات 2010 تم أهدار فرصة وضع طوبة في البناء الديمقراطي. ففي تلك الانتخابات فاز مالك عقار مرشح الحركة الشعبية بولاية النيل الازرق. وقبيل انتخابات جنوب كردفان التي كانت مؤجلة اجتمع كل من والي الولاية وقتها أحمد هارون ونائبه عبد العزيز الحلو في بورتسودان حيث عرض هارون على الحلو فكرة استمرار تجربة الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وقتها في الولاية، وهي أنجح تجربة شراكة بين الطرفين. ولتحقيق ذلك اقترح هارون أما ان يخوض الجانبان الانتخابات بقائمة موحدة ويتقاسمان تشكيل الحكومة، أو يخوضاها بقائمتين مختلفتين والذي يحقق أعلى الاصوات يتولى منصب الوالي والثاني نائبه وأن تتوزع المقاعد الوزارية وفق الثقل الانتخابي، أو أن يخوضا الانتخابات بقائمتين منفصلتين والذي يأتي في المقدمة يشكل الحكومة والثاني يشكل معارضة برلمانية. الحلو لم يقبل أي من الخيارات وجرت الانتخابات وانتهت الى ما انتهت اليه من تجديد للحرب رغم نصيحة برنستون ليمان المبعوث الامريكي وقتها للحركة بعدم اللجوء الى السلاح والاستعاضة عنه بالقنوات السياسية والقانونية. التعامل الايجابي مع ذلك الوضع كان يمكن أن يؤسس لولايتين يمكن لقوى المعارضة أن تبدأ رحلة البناء وتشكيل البديل للمؤتمر الوطني.

أهم من ذلك ان دعاة الانتفاضة ومواجهة النظام في الشارع يتحدثون دائما عن امكانية تراكم المحاولات الثورية حتى يمكن الاطاحة بالنظام في نهاية الامر. والسؤال لماذا لا يتم الاتفاق على تكرار المحاولات عبر صندوق الانتخابات وذلك تعزيزا للخيار الديمقراطي عبر مراكمة التجارب.

أحد الاعتراضات على الخيار الانتخابي انه يمكن وان يعطي النظام شرعية، وهو أعتراض لا يستحق النقاش الجدي وضعا في الاعتبار شرعية الامر الواقع التي قاربت ثلاثة عقود من عمر النظام ودفعت الجميع اقليميا ودوليا الى الاعتراف به والتعامل معه، بل وحتى داخل البلاد من مختلف القوى السياسية المعارضة وبصور مختلفة من خلال العديد من الاتفاقيات التي وقعتها وتشتكي من تملص المؤتمرالوطني منها أكثر من اثارة الاسئلة عن شرعية النظام.

للسودان تاريخ قديم مع الانتخابات التعددية منها وأنتخابات الحزب الواحد أو الاستفتاءات. فالسجل المتاح يوضح ان البلاد شهدت خمسة أنتخابات تعددية أبتداءا بالاولى التي جرت في العام 1953 ووضعت الاساس لآستقلال السودان عبر البرلمان، وكذلك في العام 1958، ثم شهدت فترة ما بعد أنتفاضة أكتوبر عمليتين أنتخابيتين في 1965 و 1968 ثم الاخيرة عقب سقوط النميري في العام 1986 ثم عقب أتفاقية السلام حيث جرت انتخابات العام 2010 التي قاطعتها قوى المعارضة.

وفي الرصد الذي أعده جستن ويليس وعطا البطحاني وبيتر وودوارد عن الانتخابات في السودان اشارات الى انه حتى الانتخابات التعددية عانت من نقاط ضعف تتمثل في ضيق الوقت وقلة الموارد بل ومن الانقسام والتنازع بين أعضاء لجنة الانتخابات مثلما حدث في اللجنة التي ترأسها الهندي سوكومارسن الى جانب ممثلين لدولتي الحكم الثنائي وأمتداداته في القوى السياسية السودانية بين تياري الوحدة مع مصر والاستقلال، ناهيك مما برز بعد ذلك من عمليات شراء للاصوات وتعديل في الدوائر الى غير ذلك من الاساليب الفاسدة.

ان الانتخابات في حد ذاتها ليست ضمانة للأستقرار والتطور، واللامبالاة التي واجه بها السودانيون الانقضاض على التجارب البرلمانية رغم المواثيق القاضية بالتصدي للأنقلابات توضح ذلك. وبنفس القدر فان نصوص القوانين ووجود المؤسسات الدستورية ليست هي الحضن النهائي وبوليصة التأمين المنشودة. وفي تجربة كينيا القريبة ما يؤكد على هذا اذ حكم القضاء المستقل بضرورة اعادة انتخابات رئاسة الجمهورية التي فاز فيها كينياتا على أودينجا، لكن اعادة الانتخابات لم تضمن لآودينجا تسلم الرئاسة التي فاز بها كينياتا، مما يؤكد على ان العمل وسط الناس هو السبيل الوحيد لتحقيق الفوز.

ورغم الحديث المتكاثر عن عدم ملائمة البيئة الحالية لآنتخابات تعددية حقيقية مثل القوانين المقيدة للحريات وسيطرة المؤتمر الوطني على مفاصل الدولة الى غير ذلك من شكاوى ونقد صادق، الا ان عمليات التحول الى برلمانية تعددية حقيقية من خلال الانتخابات واقع أثبته ما حدث من تجارب في كينيا وغانا وقامبيا والسنغال والفلبين وغيرها من دول كانت ترزح تحت نظام الحزب الواحد أو نظام عسكري تطاول به العهد، وهو ما لم يتم تجريبه في السودان الى الان. لكن النجاح في التجربة يتطلب ثلاثة أشياء لا تزال غائبة في المشهد السوداني: الاتفاق على برنامج للمعارضين يتجاوز خانة العداء للنظام فقط والتفصيل في البدائل، وأهم من ذلك الاتفاق على مرشح واحد تلتف حوله قوى المعارضة في مواجهة مرشح المؤتمر الوطني والاستعداد لتكرار التجربة مرة أثر أخرى وأعتماد القنوات القانونية للأعتراض والاحتجاج والاستعداد لجولة أو جولات أخرى مثلما حدث في البلدان التي تمكنت من أنجاز التحول.

العملية قطعا لن تطون سهلة وربما زادت صعوبة أثر التحولات في الاتجاه المعاكس للتطور الديمقراطي كما يلاحظ في تعديل الدستور في يوغندا ورواندا القريبتين للسماح لكل من يوري موسيفيني وبول كاقامي الترشيح للرئاسة مجددا رغم استنفاذهما حقهما الدستوري وفي الصين البعيدة التي تعيد فتح باب الرئاسة مدى الحياة لزعيمها شي جين بين. على ان تاريخ البناء الديمقراطي انه يقوم على هذه المدافعة. فعندما دخل أوباما البيت الابيض كأول رئيس أمريكي من أصول أفريقية كان وراءه تاريخ طويل من هذه المدافعة في مختلف المجالات وعبر السنين الطوال ومن هذه ما وثقه فيلم (شخصيات مخفية) عن ثلاث سيدات من أصول أفريقية عانين من الممارسة اليومية للفصل العنصري رغم انهن كن يعملن في برنامج ناسا للفضاء ولعبن دورا أساسيا في أنجاحه.

(يتبع)

asidahmed@hotmail.com

 

آراء