فَيَا بَرْقُ لَيْسَ الكَرْخُ دَارِي وإِنَّما رَمَانِي إِلَيهِ الدَّهْرُ مُنْذُ لَيَالِ فَهَلْ فِيْكَ مِنْ مَاءِ المَعَرَّةِ قَطْرَةٌ تَغِيْثُ بِهَا ظَمْآنَ لَيْسَ بِسَالِ الشَّاعر أبو العلاء الـمَعَرِّي والبلدة الحبيبة تزدهي منتشيةً بأهلها، وجغرافيتها، وتاريخها الزمني والاجتماعي والثقافي، والبُرُوقُ التي كانت لامعةً تتلألأُ في سماواتها فرحةً بِإيماضها، والرُّعُودُ التي مازالت هادرةً تُصوِّت على مسامع القرية بِهزيمها. عندها تتناسل الحكايات المفعمات بما تمَّ ويتمُّ وسيتمُّ من منجزاتٍ ماديَّة كان أهمها تشيد فصول المدرسة الابتدائية أواخر ستينات الألفية الفائتة، بجهد شعبي تكافلي أصيل، حيث شارك كل من له القدرة والاستطاعة المادية في هذا المشروع الحيوي المهم،وكان لأبي آسيا (المندوب) القدح المُعلَّى في الاسهام بالفكر أولاً فالتَّنسيق، ثم التَّنفيذ، وقد تبرَّع بكامل مواد البناء من طُوبٍ أحمر لبناء الفصول والمكاتب واستراحة (ميز) المعلمين وبيت النَّاظر، وذلك من إنتاج كمينته الواقعة على شاطئ النيل الغربي بين محطة المعدية (البنطون) ومرسى البواخر النيلية. ومن لم تسعفه يدُه من أهل البلدة الحبيبة، أسعفته فكرته فأهداها لتكون واحدة من دعائم قيام المدرسة وتشيدها.فاكتملت الفصول، وما تأخرت وزارة التعليم في إرسال طاقم وهيئة التربية والتعليم في المدرسة، بداية بأول ناظر للمدرسة الأستاذ سِرِّي من أهالي حلفا القديمة، ونتذكره دائماً بطوله الفارع وعربيته (اللهجة) العامية ذات المنحي النوبي الـمُحبَّب، وهيبته، ومقامه كأول ناظر للمدرسة، وقد كان أبناؤه في أعمارنا فحفظنا عنهم نشيداً أو أغنيةً نوبيَّة شعبيةً تقول : " إكَّاجِلِّي كَمشْكا...". في تلكم الأزمانِ التي صارت الآنَ بعيدةً بعيدة، كنا قد لاحظنا أن أولاد النَّاظر وهم يلعبون معنا ألعاب الأطفال خارج البيوت والحيشان، كانت تُخيفهم البُروقُ والرُعود، وبصورة أكثر الأمطار الغزيرة، حيث يرتعبون رعباً حقيقياً، وكان كل ما برق البرق، تجدهم تعلو أصواتهم باللغة النوبية، أنْ هيا اسرعوا إلى البيت. فكنا نتعجب لذلك، لأن الأمطار بتساقط حبيبات مائها السَّماوي علينا، تُحيلنا "مباشرةً" وتدخلنا عوالمَ اُخرى من الأحلام تدفعنا نحو رحيلٍ طويلٍ، عميقٍ، في دروب الحلم وما تُخبِّؤُه الأيامُ واللَّيالي. وعلى ذكر البروق والرعود والمطر، ففي السودان يقال للبرق الذي يَشْلَعُ (يُبْرِقُ) ناحية الشمال الشَّرقي الجُغرافي، العَبَّادِي، والبَّرق القِبْلِي نظراً لصدوره من جهة القِبلة، وبَرْق الجَدِي، نظراً لوقوعه في برج الجدي. وهذا البرق متعدد الأسماء، أحداي الجهة عُرف في الاجتماع الزُّولي ببرق المطر، فأمطاره التي تحركها الرياح الشَّرقية العليا في فصل الصَّيف، تُسيِّرُ السُّحب الرَّعديَّة من جهة الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي. ومن ملامح هذا البرق (العبادي القِبْلِي الجَدِي)، والتي يتابعها باهتمام كبير المزارعون، وخاصةً مزارعي المشاريع المطرية الآلية "بعد منتصف السبعينات" في منطقة الطَّيارة غرب قريتنا الحبيبة بثلاث ساعاتٍ بسرعة تصل مائةً وعشرين ميلاً في الساعة، أي ما يعادل ثلاثمائة وخمسين ميلاً من شواطي بحر أبيض،"مُغَرِّبِيْنَ" حتى جبال النوبة الشَّرقية نواحي التَّرتر، وأم بيُّوض، والعبَّاسية تقلي، ورشاد، والمقينص. إضافة إلى أصحاب الحيازات الزراعية التقليدية باذري الذرة والسمسم والدخن وعيش الريف والعنكوليب، ومن ملامحه أنَّ ضوءه يكون خافتاً تحت سحابٍ عمودي يُطلقون عليه " مَرْبَط العِجِيل"، ويا لمهابة الاسم، ووقعه المفرح على أصحاب الزرع والضَّرع، المحتفين بالمطر، والخضرة، والإنسان "السَّمْحِ" في أبهي تجلِّياته وصوره التي لا تمَّحي، أو ينزوي فيه ذاك المعني الصُّراح، والشّاعر المُغّنِّي الصدَّاح، عاشق الخريف ودلالاته وما يضم محتقباً، مؤتزراً حافلاً بالحَيَواتِ ذوات البروق والرعود والأنسام وهي تأتيك بالنبل والصدق البَراح: " الشَّمْ خَوَّخت، بَردَن لَيالي الحَرَّه، والبَرَّاق، بَرَق ، مِن مِنَّه جَاب القِرَّه، شُوف عينِي الصِّقير، بِجناحُو كَفَت الفِرَّه، تلقاها ام خُدُود اللَّيله، مَرقتْ بَرَّه، تَعْرِف لي مَشاهِيْد الرُّقاد والفَرَّه، فوق حَيَا، فُوق مَحَل، مِن الصَّعِيْد مِنْجَرَّه ...". هذا هو الشاعر السودانوي كَبير الوَصَّافِين، عُشَّاق البروق، والرعود، والطيور، والغزلان، والفضاءات الخَرِيفيَّة المطريَّة نواحي البُطانة وما جاورها وحاذاها شرقاً وغرباً، أو صّعَّدَ وتجنْوَب، إنَّه الحَاردَلُّو. ونواصل