رغم ان الشعب السوداني كريم و محسن دائما للفقراء والمساكين، الا ان مسالة العوز والفقر اصبح اكبر من ان تحتويه تمسك الشعب بالقيم السودانية، او ممارسة بعض المسلمين الصادقين للصدقة و اخراج الزكاة. والامر لا يحتاج لتحليل اقتصادي علمي ، فادلة اختلال موازين العدل وعجز فئات كثيرة علي الحصول علي وجبة واحدة في اليوم، معروضة في سوق الله اكبر، حيث تزيد اسعار بعض السلع الاستهلاكية اكثر من مرة في اليوم الواحد. اما سبل كسب العيش ، فهي محجوزة لاهل الولاء. والاغرب من كل هذا ان اعضاء المؤتمر الوطني لا يتفقون معك علي ان بعض الناس ياكلون وجبة واحدة وآخرون يعتمدون علي ما يستخرجونه من براميل القمامة، فيسالونك : شفت بعينك؟!
وهم لا يكذبون في انكارهم للفقر المدقع، لان البيئة التي يعيشون فيها يوحي بان البلاد في رخاء، و هم بعد ذلك عاجزون عن تصور مآلات الفساد لقصور علمي و فقر في القدرة علي التفكير العلمي، واستنتاج اثر التضخم وتدهور الاقتصاد علي ذوي الدخل المحدود او المعدوم. رجل مهني مرموق ومن انجح المهنيين في تخصصه، عندما قلت له: كيف تكون في الخرطوم صالات "الجم" و بعض الناس يعيشون علي وجبة واحدة، قال هذا كذب في عصر الانقاذ لا يوجد ، و لكنها آلة الامبريالية تعادي السودان لتمسكه بشرع الله !!! قال انه ذهب في اجازة لاهله في اقاليم السودان، و طوال اجازته وهم ياكلون ثلاث وجبات مما لذ و طاب. فقلت له انك تتحدث عن اهل المؤتمر الوطني ، لكن في اطراف العاصمة هنالك من ياكلون وجبة واحدة ، و في كثير من الاحيان هذه الوجبة الواحدة من قمامة الاثرياء!! تحدث بحماس مرة اخري مؤكدا ان الفقر كان قبل الانقاذ حينما كان الجوعي يجرون خلف القطار يسالون عن رغيفة!! فقلت له ان الفقر و الجوع اشد مما كان عليه في ذاك الزمان و مثلك لا يراه لانه لايوجد الآن القطار او الرغيف! رب لا نسالك رد القضاء و لكنا نسالك اللطف فيه.
مرتين التقيت بشخصين حيوني بتحية الاسلام وشعرت بانهم يريدون ان يقولوا شيئا و لكنهم مترددون، احدهم راح في حال سبيله، اما الآخر فعاد و قال لي يا اخي اولادي لم ياكلوا منذ يومين، ارجوك ساعدني ، ثم جرت دموعه، فعرفت انه لاول مرة في حياته يطلب المساعدة،ـ ولن تكون المرة الاخيرة. اما الفقراء من اهلنا ، نعرف حالهم عند زيارتنا لهم.
والاخطر من ذلك ان مؤشرات ثورة الجياع بدات تبرز في ممارسات غريبة علي العاصمة. في حوالي الساعة العاشرة صباحا، خرجت اختي من بيتها قاصدة السوبرماركت، و فجاة اقترب متها اثنين علي دراجة بخارية، رموها علي الارض و خطفوا شنطتها. وسيدة تخذر زوجتي من ان تعلق الشنطة علي كتفها، لانه قبل يومين خطفوا شنطتها، وذهبت لمركز الشرطه لتدوين بلاغ، وقال لها الضابط الذي فتح البلاغ: "ناس جعانين حيعملوا ايه عشان يعيشوا، لازم يختفوا ، و المستخبي اخطر من ذلك، نسال الله السلامة."
في غياب خطة واضحة لاسقاط النظام، و البدء في علاج مشكلات البلد المستعصية، من واجب الافراد الصادقين في حبهم للسودان ولشعبه، والصادقين في ايمانهم وتقواهم، ان يبذلوا جهدا جماعيا في البحث عن الفقراء المعدمين ، و تنظيم آلية لتوفير الوجبة الواجدة لهم كحد ادني. يتطلب هذا الامر نشاطا تطوعيا، وفق خطة مدروسة لجمع المال او الغذاء او المواد التي تعين علي تحضير الغذاء، وتحديد الجوعي ومناطقهم، ثم خطة اخري للتوزيع. كثير من المحسنين يقدمون افطار رمضان في خيم تقام في مناطق مختلفة. و انا اعتقد ان هذه الخيم الموسمية مطلوب اليوم علي مدار العام لتقديم وجبة واحدة علي الاقل.
اسال الله العلي القدير ان يعين الشعب السوداني علي الصبروالتكيف مع هذا البلاء ، و نساللك يا اعدل الحاكمين فرجا قريبا باذن الله.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام علي اشرف الخلق و المرسلين.