بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أرسي الإنجليز دعائم حكم السودان، 1899/1956، ب"اللف والدوران" منذ إعادة غزوه (فتحه) بواسطة بريطانيا ومصر، ورفع العلمين اليونيون جاك والمصري، وإطلاق الإسم المربك (السودان الإنجليزي المصري) على البلاد، وظهورها بهذا المسمى في كافة الخرائط؛ فبدا للسذج من المراقبين كأن السودان أصبح تحت سيطرة شريكين نديدين متكافئين هما الحكومة البريطانية والمصرية. وفي واقع الأمر كان الحكم الحقيقي في يد الإنجليز: الحاكم العام وكل نوابه ومساعديه – السكرتير الإداري والقضائي والمالي، وجميع مديري المديريات (حكام الولايات)، جميعهم بريطانيون، وكذلك مفتشو المراكز ومدير السكة حديد ومصلحة المرطبات ومدير الميناء ومحافظ مشروع الجزيرة عندما تم إنشاؤه عام 1925، ومحافظو الغابات ومفتشو الزراعة؛ وعندما بدأ تأسيس الجيش السوداني ب"قوة دفاع السودان" عام 1925 كان قائدها وضباطها من الإنجليز، وكذلك الكلية الحربية، ولم يكن بهذه المؤسسات مصري واحد حتى استقلال البلاد في 1956. وعلى كل حال، كان هناك كتيبة مصرية محدودة ومحاصرة ومراقبة، وتم طردها على إثر حوادث 1924، ثم سمحوا لها بالعودة بعد اتفاقية 1936، غير أنها أضحت أكثر محدودية ومحاصرة.
أما فيما يختص بالشريك المصري، فهو الذى يتحمل الميزانية السنوية لنفقات الحكومة ورواتبها، بالإضافة لتكلفة البنية التحتية (أي ميزانية التنمية)، إذ قامت الحكومة المصرية بتشييد كل المنازل والمكاتب الحكومية والمدارس والمستشفيات والسجون والإستراحات؛ بينما لم تتعد مشاركتهم في إتخاذ القرار حدود الوظيفة الوحيدة في السلم الإداري – مامور مركز - التي جاد لهم بها القنصل البريطاني العام الحاكم الفعلي لمصر مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين المعروف بإسم اللورد كرومر مهندس اتفاقية 1899، وكانت تلك الإتفاقية هي الدستور الذى حكم السودان حتى حلت محلها اتفاقية تقرير المصير في فبراير 1953. وكان المامور مجرداً من أي سلطات قضائية أو سياسية، وتنحصر مهامه في جمع الضرائب والعشور والمكوس مما أدخل الموامير المصريين في مواجهة مأزومة مستدامة مع التجار والكادحين السودانيين، وكان الأخيرون يلجأوون شاكين لمفتش المركز الإنجليزي أو مدير المديرية ليجدوا العدالة والإنصاف على حساب المامور المصري، مما زرع إسفيناً بين الشعبين "الشقيقين" يحتاج لقرون من الزمان حتى يزول.
هذه االمعادلة الشيطانية العبقرية هي التي جعلت اللورد كرومر يتباهى علناً في أول أيام الحكم الثنائي بأنهم، أي الإنجليز، يحكمون السودان بلفاً (على وزن قول العبادي "عطشان قلت ليهن وصحت البلفة") وتمويهاً ومخالسة ومواربة وضحكاً على ذقون الخديوي والطبقة الحاكمة المصرية (We are ruling Sudan by bluff). وإمعاناً في التمويه كان السودان هو القطر الوحيد في جميع البلدان المستعمرة التابع لوزارة الخارجية الريطانية وليس لوزارة المستعمرات. ويبدو أنها كانت معادلة فولاذية استخدمها الإنجليز بثقة في النفس وثبات وديمومة، سمحت لهم بالاستواء على ظهور السودانيين لخمس وخمسين سنة حسوما، ومكنتهم من تحقيق استقرار ونقلة هائلة للبلاد من القرون الوسطي للقرن العشرين في بضع سنوات، ومن إنجاز نهضة تنموية وعمرانية ومؤسسية نادر مثلها في المنطقة – سكك حديدية ربطت كافة أطراف البلاد ببعضها البعض ويسرت آليات التصدير والإستيراد عن طريق ميناء بورتسودان، العماد الفقري للتجارة الناجحة، فارتبط إقتصاد الدولة السودانية الناشئة بالإقتصاد العالمي عبر بورصة لندن ومانشستر؛ بالإضافة للنقل النهري الذي ربط الشمال بالجنوب، ومشروع الجزيرة، وزراعة القطن بمنطقة طوكر وفي العديد من البقاع بالمديرية الشمالية كمشروع الزيداب والعالياب والكلد بقنتي وبجبال النوبة، وإنشاء بعض الصناعات التحويلية كمصنع غزل أنزارا بمديرية الإستوائية ومحالج القطن الكبرى ببركات وسنار وبورتسودان....إلخ.
ويبدو أن الإخوان المسلمين قد تأثروا باللورد كرومر فيما يختص ب"البلفة" فقط، (إذهب للقصر وسأذهب أنا لسجن كوبر)، فظلوا يحكمونا منذ البداية كعسكريين مستقلين، وفي معيتهم جنوبيون مسيحيون وأشخاص معروفون بمهنيتهم وبعدهم عن التحزب مثل العقيد طيار فيصل مدني مختار؛ ولم يسفروا عن وجههم الإسلاموي الصارخ إلا بين الفينة والأخرى، إذا دعت الضرورة. وبعد تسع سنوات من المخالسة والتمويه انقلبوا على عرابهم الذى علمهم السحر، الدكتور حسن الترابي مؤسس تنظيم الإخوان المسلمين وزعيمه منذ 1964، وأودعوه في غياهب السجن وحرقوه وربما تسببوا في موته المبكر، وطفقوا يبحثون عن غطاء إيديولوجي يستظلون به. وأحسب أنهم قضوا العقدين المنصرمين في البحث والتجريب وتغيير الجلد، متمنطقين بأسمى آيات التقية، بينما ظل الطاقم الإخواني الحاكم بكل مفاصل الدولة والإقتصاد موجوداً ومتشبثاً كما هو، ويزداد تحصيناً واستشراءً وسمنة واستكراشاً كل يوم، إذ يبدو أنه في أثناء عمليات التمكين الأولي تداخلت المصالح وتشابكت الأسهم، ونشأت شراكات تجارية ومافيوزية ونسب وأرحام بين أفراد ذلك الطاقم، ويبدو أنهم قلبوا ظهر المجن للشعارات الإسلامية التى كانوا يتشدقون بها أيام الديمقراطية الأخيرة 1985 – 1989 وأصبح دينهم وأيمانهم المال زينة الحياة الدنيا، وأصبحوا مصاصي دماء محترفين لا تأخذهم لومة لائم في حق البلد ولا في شعبها المسكين المستغيث.
وشيئاً فشيئاَ تركزت السلطات الدستورية والتنفيذية في يد شخص واحد – البشير، القائد الملهم الذى لا يتردد في خرق الدستور جهاراً نهاراً ليترشح لرئاسة البلاد للمرة الرابعة – متكئاً على إخوانه ورهطه الأقربين ومن تمت رشوتهم واستقطابهم من كافة ألوان الطيف، الذين يمموا وجوههم شطر السلطة وريعها، وولوا الأدبار لأحزابهم ومبادئهم التي كانوا يستظلون بها منذ أيام النضال ضد الاستعمار في أربعينات وخمسينات القرن المنصرم. ولا زال التمويه مستمراً لدرجة أن أهل السودان لا يعرفون حتى الأن هل هم محكومون بدستور علماني ديمقراطي صاغه بنو البشر وضمنت قيه لائحة حقوق الإنسان بعد اتفاقية نيفاشا 2005، أم هم تحت بردة دولة ثيوقراطية كما هو الحال في إيران، إذ تتحدث أبواق النظام عن انتخابات 2020 داعية كل القوى السياسية للمشاركة فيها، ثم يخاطب رئيس النظام مؤتمراً شبابياً قبل بضعة أسابيع قائلاً "نحن حركة إسلامية كاملة الدسم"، ومؤكداً أن الشريعة الإسلامية هي التى تحكم البلاد رضي من رضي وأبى من أبى. ويبدو أن النظام فعلاً هجين من هذا وذاك، وأنه يستخدم الشريعة لما فيها من ردع صارم كالجلد وقطع الأيدي وجز الرقاب ليس فقط لمحاربة الجرائم التى تطال تلك العقوبات مرتكبيها، ولكن لزوم الإرهاب المعنوي لكل من تسول له نفسه معارضة النظام. فالحاكم بموجب الشريعة هو ممثل الذات العلية في الأرض، ومن يخالفه يقام عليه الحد,
والإشكالية الجوهرية التى يواجهها مثل نظام الخرطوم الquasi إسلامي تتعلق بموقع غير المسلمين في مثل هذه الدولة؟ ونحن لا نسأل عن الجنوبيين بالطبع، فقد نأووا بأنفسهم عن دولة بها شبهة شريعة لأنها تشكل تهديداً وجودياً لهم، وتحيلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية، يدفعون الجزية وهم صاغرون. ولكنا نتساءل عن المسيحيين واللادينيين الذين ما زالوا قابعين بأركان معروفة، مثل جبال النوبة، وجبال الإنقسنا بجنوب النيل الأزرق، وببعض الحواضر الشمالية، أم ياترى ليسوا في عداد الآدميين أصحاب الحقوق في الدولة – مثل حق التصويت والترشح وتقلد مناصب تنقيذية أو تشريعية أو سيادية!
مهما يكن من أمر، فقد تمكن الإخوان المسلمون من حكم السودان لثلاثة عقود، وأصبحت لهم اليد الأمنية العليا، فأكظموا كل الأصوات المعارضة إلا من رحم ربك، وإلا من يسمحون لهم بهامش محدود ومراقب من المناورة حتى يقال عنهم في الغرب أنهم عقلانيون ومعقولون ووسطانيون؛ وهكذا دانت لهم البلاد واستكانت. ولكن ظلت المسألة الإقتصادية عصية على الحل، فلقد ظلوا يتخبطون ذات اليسار وذات اليمين، بلا بوصلة أو استراتيجية معلومة، وتناقصت موارد البلاد وأصولها واختلت موازين التجارة مع الخارج، وارتبكت معادلات الصرف الذى يقابله دخل يغطيه ويفيض عليه، وتهشمت البنية التحتية – السكة حديد، مشروع الجزيرة، مشاريع الري بالأمطار، وتجارة الحبوب الزيتية والصمغ العربي...إلخ، واستشرى الفساد في كل أركان دولاب الحكم، وانعدمت الثقة في موظف الدولة وتضاءلت كفاءته المهنية، قاضياً كان أم طبيباً أم معلماً أو مهندساً، وانهار التعليم تماماً واستحالت مخرجاته إلى كتل من العطالى والعوانس عديمي الكفاءة والمهارة، الجاهلين باللغات الأجنبية، الذين يجوبون الآفاق داخل وخارج البلاد بحثاً عن مخارج، بلا طائل ولا أي ضوء في آخر النفق.
باختصار شديد، انهارت الدولة السودانية تماماً، والجميع ينتظرون مراسم الدفن.
ولقد كنا حتى وقت قريب من السذاجة بمكان، وظللنا نخاطب البشير باعتباره أصلا من أبناء الكادحين، عله يثوب لرشده ويتذكر مصير هيلا سلاسي وموبوتو وعيدي أمين وجان بيدل بوكاسا وبن علي وحسني مبارك والقذافي وعلى عبد الله صالح، فيتصرف بمسؤولية وضمير حي وقليل من الذكاء ويكف عن تدمير البلاد والبطش بأهلها، ويجمع أهل الحل والعقد تحت سقف واحد بصدق وشفافية، وليس كما فعل في حوار الوثبة من تقية وفهلوة وبلف واستهبال. ولا مفر من أن يتفق السودانيون بالتراضي حول مخرج من هذه الأزمة الكارثية التى تمر بها البلاد.
ولكن من الواضح جدا أن مثل هذه الدعوة صيحة في واد، وبندق في بحر. والبشير هذا أسكرته السلطة ولن يكف عن العرضة والرقص، شأنه شأن فرعون الذى طغى، طالما ظلت الأباليس تقرع له (دلوكة الورل). ولا أعتقد أننا بصدد الخروج من هذا النفق حالك الظلام الذى حشرنا فيه الإخوان المسلمون، وما انفكوا في غيهم يعمهون.
والسلام.
fdil.abbas@gmail.com
///////////////