الأتحادي الأصل .. و جعلناكم أحاديث وأخرجناكم من هذه الأرض
بينما كنت أقرأ بيان القاهرة المشترك الذي وقع بين الحزب الأتحادي الديمقراطي الأصل و الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال ( جناح الحلو ) ، استرجعت سريعا في مخيلتي تفاصيل الأحداث المريرة التي مرت على جميع منتسبي هذا الحزب في الشهور السوداء الماضية التي أعقبت سقوط نظام الإنقاذ المجرم عبر ثورة سبتمبر المجيدة .
كانت المشاركة مع النظام حتى آخر أيامه وهو يتهاوى أمرا مستفزا للكافة من عامة أبناء شعبنا ، و لكنه كان أيضا لمنتسبيه مشهدا جنائزيا مؤلما لحزب كان هو نفسه وليس غيره أول من قرر أن يبدأ مسيرة النضال لأسقاط هذا النظام من داخل و خارج البلاد عبر منظومة التجمع الوطني الديمقراطي منذ خواتيم عام 1989م .
من خلال زخم الثورة و تطوراتها المتلاحقة التي سبقت كل مؤشرات و توقعات لأي من القوى السياسية الحاكمة أو المعارضة ، فشل الحزب في تدارك ما يمكن تداركه ، بل كان من المدهش و العجيب لنا أن تخرج كل أحزاب الوحدة الوطنية و تفض شراكتها مع الحكومة في الرمق الأخير من عمر النظام ( أشراقة و غازي صلاح الدين و مبارك الفاضل ) و تعلن انحيازها للثورة ، بينما ظل الحزب يدافع عن شرعية استمرارية النظام و أمكانية تحسين الوضع الاقتصادي في ظل وجوده على سدة الحكم مع آخرين من أمثال حسن أسماعيل و أبو قردة و حزب الطيب مصطفى و المؤتمر الشعبي !
ساعتها و عندما دق ناقوس هذه الثورة في 19 ديسمبر من العام الماضي ، لم يتردد الكثير من قيادات هذا الكيان و حتى جماهيره العريضة من مسألة التمرد على موقف الحزب السياسي ، لأن المسؤولية الشرعية و الأخلاقية ساعتها كانت تتقدم على السياسية ، وكانت تحتم عليهم أن يقفوا صفا واحدا مع شعبنا من أجل أنهاء عهد الطغيان وأسقاط هذا النظام .
كان هنالك دافع آخر مهم جعل جماهير هذا الحزب تتقدم الصفوف في هذه الثورة وهو مسألة التأكيد على أن المجموعة المحدودة التي تشبثت بكراسي الحكم مع البشير لا تمثل أصل الحزب ولا قيادته الممسكة بجمر القضية ولا جماهيره العريضة الرافضة لهذه الشراكة ، خصوصا تلك التي تتواجد بكثافة في ولاية نهر النيل في بربر و عطبرة من حيث انطلقت شرارة الثورة الأولى .
لا أريد من خلال هذا المقال أن أبرر لشيء ما ، أو لأخطاء سياسية جسيمة أرتكبت فيما مضى ، فالكل ممن أعتصم بهوية هذا الكيان الوطني سواء كان مؤيدا لمشاركة الحزب مع النظام أو رافضا لها أضحى يتحمل المسؤولية الأخلاقية لهذا السقوط المريع و مدين بالاعتذار لهذا الشعب العظيم .
هذا أمر لا جدال عليه ولا خلاف حوله وهو ما دفع نائب رئيس الحزب السيد جعفر الميرغني أن يخرج بعد نجاح الثورة مباشرة و يعترف أمام الملأ وفي مؤتمر صحفي مشهود له بخطأ هذا المسار السياسي ، وأضاف لذلك المبررات و الظروف السياسية التي دفعت الحزب لتلك الخطيئة التاريخية !
ما أثار دهشتي و جعلني في حيرة من أمري وربما دفعني لكتابة هذا المقال هو وقبل أن يجف حبر تلك الأتفاقية التي وقعها الحزب مع عبدالعزيز الحلو انتشرت و توزعت في الأسافير صورة قديمة جمعت مولانا السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب بصلاح قوش مدير جهاز الأمن و المخابرات السابق !
هذه الصورة تحديدا قديمة و كانت في سياق اجتماعي بحت كان الأخير في زيارة رسمية للقاهرة ، فعرج معها ليطمئن على صحة الأول الذي أعتزل العمل السياسي بشكل كبير ، و خرج قبل سقوط النظام بسنوات لظروف صحية يعلمها الجميع .
ولأن الحزب عبر مكتبه الإعلامي أصدر قبل عدة أسابيع و قبل نشر هذه الصورة نفيا قاطعا وضح فيه أنه لا علاقة سياسية بينه و بين قوش ، ولن تكون هنالك أي نوع لمثل هذه العلاقة مستقبلا ، إلا أن جهات سياسية بعينها وبعد مفاجأة توقيع الحزب لأتفاقية الشراكة مع الرقم الصعب في السياسة السودانية الرفيق عبدالعزيز الحلو أرادت أن تواصل في نفس هذه السياسة المعيبة و المشروخة و التي بدأتها منذ لحظة سقوط النظام و نجاح ثورتنا المجيدة وأستمرت حتى يومنا هذا .
حملة التشويه هذه نعتبرها في رأينا الشخصي أنها مدروسة الخطوات و معدة بعناية فائقة و حرص شديد ،ولاحظنا أنها تسير في محورين أساسيين :
( أ ) محور يتجه في إطار عزل الحزب سياسيا في فترة ترتيبات الدخول للفترة الانتقالية بهدف أبعاده عن لعبة المحاصصات السياسية التي أرادت قوى الحرية و التغيير أن تديرها و تحتكرها لنفسها .
( ب ) ومحور آخر يسعى للتقليل من قيمة أي أدوار سياسية أو وطنية يمكن أن يلعبها الحزب خلال هذه الفترة الانتقالية بهدف تخفيض وزنه السياسي الجماهيري قبيل الانتخابات القادمة لأقصى درجة ممكنة .
من خلال هذين المحورين توزعت هذه الجهات السياسية المعادية لحزب الحركة الوطنية من باب الأهداف و المنطلقات و ربما الاستراتيجيات السياسية الى صنفين :
( أ ) صنف أول يتكون من قوى معارضة تريد عزل الحزب سياسياً خلال الفترة الأنتقالية ، و تجريده تأريخيا من شرف الأشتراك في هذه الثورة المجيدة التي أسقطت هذا النظام من خلال فكرة الحصر النظري لهذه الثورة على أنها ثورة ( الصدفة وليدة اليوم و اللحظة ) بدأت فقط في يوم 19 ديسمبر من العام 2018م وأنتهت في 11 أبريل ، وليست عمل ثوري تراكمي أضعف النظام على عدة مراحل زمنية متعاقبة بداية منذ تاريخ تأسيس منظومة التجمع الوطني الديمقراطي و حتى لحظة سقوطه .
( ب ) صنف ثاني آخر راديكالي في عداءه للحزب و تشكله قوى تريد دفن الحزب سياسيا و تشييعه الى مثواه الأخير، أو تحويله على أسوأ الظروف لحزب رمزي تاريخي لا تأثير له في الساحة السياسية كحزب الأحرار البريطانيين أو حزب الوفد المصري .
أما فيما يخص القوى السياسية في الصنف الأول ، كان الحزب أكثر نضجا و عقلانية في مواجهة أفعالها و سياستها العدائية معه .
عمل بداية على أمتصاص حالة الأحتقان السياسي الكبيرة التي تولدت بعد نجاح الثورة مابين القوى السياسية خارج مؤسسات الحكم وتلك المشاركة فيه ، فأتفق معها على فكرة الأبتعاد ، وخرج السيد جعفر الميرغني ليؤكد أن الحزب لن يشارك في أي ترتيبات تخص الفترة الأنتقالية لا بالمشاركة في أي مستوى من هياكل الدولة ولا حتى من باب الأستشارة و الأخذ بالرأي .
لم يقتصر الأمر على هذا الأعلان بل أن الحزب ذهب لأبعد ذلك و وجه لهم كلمة شرف من خلال نفس هذا المؤتمر الصحفي قرر فيها الحزب أنه سوف يسخر كل إمكانياته سندا لقوى الحرية و التغيير و المجلس العسكري من أجل الأهداف الثلاثة المحورية التالية :
( أ ) إنجاح الشراكة السياسية بين القوى المدنية و العسكرية .
( ب) تحقيق السلام الشامل المستدام في البلاد .
( ج ) الوصول الى عتبة التحول الديمقراطي للدولة عبر انتخابات حرة و نزيه .
هذا التوجه السياسي العقلاني من حزب كبير في قامة الحزب الأتحادي الديمقراطي الأصل ساعد بل ربما قصر على الجميع طريقا شاقا طويلا كان يمكن أن يُنفَق في معارك سياسية و إعلامية لا جدوى منها ولا تخدم الوطن و المواطن ، خصوصا إن جلسنا نتحدث و نتناظر عن كون الثورة فعل تراكمي بدأ منذ أنقلاب النظام على الديمقراطية وليست مجرد حدث مفاجئ وليد اليوم و اللحظة في 19 ديسمبر ؟
أو هل هنالك فرق أخلاقي و سياسي ما بين مشاركة نظام بدأ إجرامه على شعبنا في أيامه الأولى و مشاركته حتى آيامه الأخير ؟
أو عن القوى السياسية التي تتصدر المشهد اليوم و كانت قبل أيام قليلة من يوم 19 ديسمبر تسير في منحنى أتفاق الهبوط الناعم السياسي مع النظام في أديس أبابا ثم تفاجأت بالتحول الثوري و الغضب الجماهيري في الخرطوم فبدلت مواقفها سريعا تجاوبا مع غضبة الشارع العام ؟
أما فيما يخص القوى السياسية التي تمثل ( الصنف الثاني ) فيبقى من المؤلم و ربما المحزن له أن تواصل في نفس نهجها العدائي و الأقصائي ضد الحزب رغم المراجعات التصحيحية التي بدأ يجريها الحزب على مساره و مواقفه السياسية و أجهزته التنظيمية من بعد سقوط النظام .
هذه القوى مازالت حتى يومنا هذا تسعى ليل نهار لتشويه صورة الحزب بغرض طمس وجوده السياسي عبر أساليب أقل ما توصف بأنها تفتقر للحس و الروح الوطنية من جهة ، و البعد الأستراتيجي لمسألة أدارة الشان العام في هذا البلد من جهة أخرى ، ويبقى الأدهى و الأمر أن يكون معظمها من جملة أحزاب و تيارات خرجت من رحم الحركة الأتحادية .
و هنا وحيث نتناول نحن هذا الأمر بحساسيته السياسية الدقيقة نعلم علم اليقين مواقف جماهير هذا الكيان الوطني التي لم تتأثر يوما بهذه التفرق الأتحادي على مستوى القيادات ، و ظلت على الدوام تقدم النموذج الوفاقي لقياداتها و تنادي ع بوحدة العمل و المصير المشترك الأتحادي .
لا أريد الخوض في جذور و أسباب الخلافات( الأتحادية الأتحادية ) فهي كالبحر اللجي لن يفهم طلاسمه و جذور ظاهرته من هو خارج هذا الكيان الكبير ، كما أن ذلك لا يندرج من ضمن أهداف هذا المقال .
لكن ما يعنيني هنا هو جملة السياسات الرشيدة و الخطوات الصحيحة التي يجب أن يتخذها الحزب الأتحادي الديمقراطي الأصل في مواجهة حملة التشويه الواسعة و العداء الفاجر الذي تبديه بقية الفصائل الأتحادية له ، حتى يكون هذا الحزب ألم معول البناء و ضمادة الجراح الناجعة لتطبيب هذا الجرح الأتحادي الغائر .
إيماننا بالوحدة الأتحادية يجب أن يكون ضمن أولويات تحركات الحزب تجاه هذه الفصائل سواء التي ترحب بالفكرة ، أو حتى التي ترفضها جملة و تفصيلا مع الأصل .
فتح قنوات حوار متواصلة رسمية و غير رسمية مع هذه التيارات يجب أن يكون بصدد مناقشة كل الخلافات التراكمية التي فرقت الشمل الأتحادي في الماضي مع محاولة لتقريب وجهات النظر و تقليص أو تخفيض حدة العداء السياسي السافر .
ربما نعجز اليوم و غدا في تحقيق حلم الجماهير الأتحادية بالوحدة السياسية بين كل الفصائل وتأتي أجيال قادمة تحقق هذا الحلم المشروع ، ولكننا في المقابل لا يجب أن نكون أعداء سياسيين خصوصا وإن توصلت جولات الحوار ( الأتحادي الأتحادي ) لفكر التنسيق السياسي المشترك دون الوحدة ، مع تبادل الخبرات و التشاور في القضايا الوطنية التي تخدم جماهير الحركة الأتحادية خصوصا و الشعب السوداني عموما .
أن المرحلة الدقيقة التي يمر بها الوطن تحتاج من كل القوى السياسية الأرتفاع فوق الصغائر و تحويل كل جهد سياسي يمكن أن يبذل لصالح إنجاح الفترة الأنتقالية عبر دعم حكومة حمدوك .
لغة الأقصاء السياسي التي تنتهجها قوى الحرية و التغيير لن تخدم أستقرار البلاد و ربما جرت الحكومة لقضايا أنصرافية مثل ما يجري الآن مابين ( مجلس الوزراء ) و تيار نصر الشريعة في قضية الشيخ عبد الحي و السيدة ولاء البوشي وزيرة الشباب و الرياضة .
لقد كفر الشعب السوداني بالأحزاب السياسية وقدم عليها تجمع المهنيين بسبب قناعته بعدم نضجها السياسي و تقديمها دوما المصلحة الحزبية على الهم الوطني .
لذلك يبقى التحدي القائم أمامنا أن نعيد اللحمة الوطنية فيما بيننا بعيدا من لغة التخوين و أساليب التشويه و الأغتيال السياسي ليكون أختلافنا حول كيف نخدم الوطن و المواطن ؟ وليس من يحكم الوطن و المواطن ؟ .
teetman3@hotmail.com