حول أطروحة ب.عطا البطحاني عن “اشكالية الانتقال السياسي في السودان”
صحيفة إيلاف 13 نوفمبر 2019
(1)
لم بعد سراً أن حالة من الضبابية باتت تخيّم مجدداً على المستقبل السياسي للسودان، والمفارقة أن ذلك يحدث بعد أشهر قليلة من عنفوان الثورة السودانية الثالثة التي حملت آمالاً عريضة بإمكانية إحداث تحوّلات جذرية تتجاوز مجرد إسقاط نظام حكم شمولي إلى تحقيق تغيير بنيوي شامل في هيكل النظام السياسي السوداني القديم بكل توابعه وتجلياتها الاقتصادية والاجتماعية المعطوبة، غير تلك الآمال العريضة لم تصاحبها بروز رؤى وأفكار جديدة واضحة المعالم تشكل أساس للانتقال المنشود، فيما غلب على الفضاء السياسي جدالات محمومة محدودة الأفق غير منتجة استعادت على نحو مثير للدهشة نمط التفكير والممارسات نفسها لطبقة السياسية القديمة التي تصر على إعادة إنتاج الأزمة بالأدوات نفسها التي ثبت بوارها، وأورثت البلاد والعباد استدامة الفشل، لدرجة أن مفكرين كبار مثل الدكتور النور حمد لا يستبعدون احتمالات حدوث انتكاسة على نحو أسوأ.
(2)
وسط هذه التحديات المصيرية المحدقة، وفي غياب حوار سياسي في مستوى الإنجاز الثوري الضخم الذي فرضه الجيل الجديد الذي لم يجد حتى الآن ما يكافئه في وعيه بالحاجة للقطيعة الجذرية مع منظومة الفشل القديم، برز الأكاديمي المعروف بحمل هموم الشأن العام بروفيسور عطا الحسن البطحاني، أستاذ العلوم السياسي بجامعة الخرطوم، ليقدم أطروحة علمية غاية في الأهمية بعنوان "اشكالية الانتقال السياسي في السودان – مدخل تحليلي" التي صدرت في كتاب جرى حفل التوقيع عليه الاثنين الماضي في منتدى محضور أمّه عدد كبير من الشخصيات العامة، ودار نقاش بالغ الأهمية حول الأطروحة ابتدرها البروفيسور إدريس سالم الحسن، والدكتور النور حمد.
(3)
بالطبع لا تكفي المساحة المتاحة في هذا المقال لتقديم قراءة تحليلة نقدية لقضية "اشكالية الانتقال السياسي" كما طرحها البطحاني ونرجو أن نقوم بهذا الجهد لاحقاً، والتي نأمل أن ننشرها مسلسلة كاملة في أعدادنا القادمة للفائدة العامة بعد الحصول على الإن من الناشر، ولكن سنحاول إلقاء بعض الضوء على أهم الأفكار التي ناقشها من خلال استعراض مجمل ليعض فصول الكتاب هذا الكتاب الذي نرجو أن يرفد الساحة السياسية بمادة عميقة ذات تأسيس علمي تضع قواعد لحوار منتج لمقاربة اشكاليات الانتقال بكل تعقيداتها والنظر في مآلات المستقبل بمعطيات موضوعية وليس بتمنيات مجردة، تسهم في إخراج البلاد من ضيق المغالطات العاجزة عن التحرر من قبضة الدائرة الخبيثة إلى فتح آفاق تستشكف أبعاداً جديداً لتحقيق الأهداف الحقيقية للثورة المجيدة، وهي مهمة عظيمة الشأن لا تحتمل غير التعامل بجدية كاملة مع الأمور كما يشدّد على ذلك المؤلف الذي خبر حقيقة الوضع الماثل ومخاطره.
(4)
ويرى البطحاني أنه يمكن مقاربة "اشكالية الانتقال السياسي" من عدة زوايا، أولاها النظرة الكلية الشاملة لنظام اجتماعي يقوم على سما بنيوية أهم ما فيها، بالإضافة إلى عنصر عدم المساواة بين مكوناته، أن الطبقة السياسية عاجزة عن القيام بدورها "التاريخي" في الانتقال، ويرجع ذلك لما يسميه ب"متلازمة الاقتصاد غير الانتاجي"، ولتقليدية المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويذهب البطحاني إلى أن الاشكالية في إحدى وجوهها تعبّر عن أزمة الطبقة السياسية وعجزها عن الدفع بمشروع وطني ينشد الاستقلال وبناء دولة المواطنة والانعتاق والتنمية، ومع تعدّد محاولات الانتقال استنفذت هذه الطبقة طاقتها، وفقدت مشروعيتها بتمزيق وحدة البلاد، حيث يرى أن انفصال جنوب السودان كان بمثابة زلزال ضرب كيان الدولة السودانية وهزّ قناعات تشكيل الأمة السودانية، ولا تزال هزاته الارتدادية تعصف بما تبقى من مؤسساتها، وتغذي صراع الهامش والمركز الذي يجد نفسه أمام مأزق وجودي.
(5)
ويقول المؤلف أن المرحلة الانتقالية الحالية تأتي هذه المرة والبلاد لا تحتمل تكرار تجارب الانتقالات الأربع الماضية، ولذلك فإن غرضه من هذه الإصدارة من خلال مدخل تحليلي هو ابتدار نقاش حول تحديات هذه المرحلة، من خلال عرض عدد من المفاهيم والنماذج النظرية التي تساعد في فهم أكثر دقة لمواقع الضعف والقوة في ما جرى الاتفاق عليه من ترتيبات لإدارة الفترة الانتقالية، وفي الوقت ذاته الالتفات إلى دينامية موازين القوة التي قد لا تأبه كثيراً لهذه الترتيبات.
(6)
ويعرّف الانتقال السياسي بانه التحوّل من حكم أتوقراطي - عسكري، إلى حكم مدني – ديمقراطي، ويقصد بفترات الانتقال الأربع الماضية، تلك التي أسستها اتفاقية الحكم الذاتي في 1953 بين يدي الاستقلال، والتي أعقبت ثورة أكتوبر 1964، وتلك التي تلت انتفاضة أبريل 1985، والفترة الانتقالية بموجب اتفاقية السلام الشامل. ويرى ضرورة التمييز بين بين مرحلة الانتقال "نجاحها أو فشلها"، وبين التجربة الديمقراطية التي تعقبها أيضاً "نجاحاً أو فشلاً". ويقول إن هذا التميّيز لا ينفي العلاقة بين نجاح أو فشل الانتقال ومصير التجربة الديمقراطية في السودان، ويدفع بأن عدم استيفاء شروط الانتقال السياسي - الديمقراطي السليم هو مقدمة لفشل تجربة الحكم الديمقراطي، ويرجع ذلك إلى أن "أزمة الحكم في السودان" التي فصّلها البطحاني في كتابه الصادر بالعنوان نفسه في العام 2011، تتصل ببنية السلطة، تعكس وتعبر في أهم جوانبها عن عجز الطبقة السياسية الحاكمة القيام بمهام القيادة، أي أنها عاجزة عن القيادة حتى ولو تمتعت بالسلطة أو القوة ومارست الحكم.
(7)
وينبّه المؤلف إلى أن "الانتقال الديمقراطي" لا يعني الاكتفاء بإزاحة هرم السلطة، والإعداد للانتخابات التي تعيد إنتاج النظام بوجوه جديدة، إنما تعني الانتقال لكامل المنظومة السياسية، وفي الحالة السودانية، تعني تجاوز الاحتراب لتوحيد الوطن، وبناء الدولة العصرية، القائمة على المواطنة، وتحقيق التنمية الاقتصادية، وهي المهام التي ظلت مطروحة لأنظمة الانتقال لتحقيقها منذ الاستقلال، ولكنها ظلت تعجز عن استيفاء شروط الانتقال كاملة، وان ما يحدث في الواقع بصورة متكررة هو سعي القوى السياسية المسيطرة تاريخياً لاستيفاء الشروط الإجرائية للانتقال على حساب الشروط الموضوعية، حيث يتم تأجيل المهام الرئيسية وترحيلها، ويزداد أمر الانتقال تعقيداً بقيام الأنظمة العسكرية بتصفية القوى الوطنية والديمقراطية، فيتآكل الرصيد التراكي لشروط الانتقال المطلوب.
(8)
ويرى البطحاني أنه بالنظر لتجارب الانتقال تتجلى الازمة السياسية فى تأرجح ميزان القوى المصاحب لفترات الإنتقال، تأرجح يساهم مع عوامل أخرى، في عجز ترتيبات وحكومات الفترات الإنتقالية عن استيفاء شروط الانتقال الديمقراطى وتحقيق المهام المطروحة والمنوط بأنظمة الإنتقال تحقيقها، ويرى أن إدارة عملية الانتقال الديمقراطي في هذه المرحلة تواجه تحديات جسيمة، اهمها الإرث الثقيل لتجربة حكم الإنقاذ المختلفة نوعياً عن سابقتيها، حيث عمدت إلى تغيير بنية الدولة وإعادة هيكلة مؤسساتها وفق أيدولوجية مذهبية تستند إلى الإسلام السيايسي، ويرى أن أن أكبر إخفاقات النظام تأجيج النزاعات وتهاونه في الحفاظ على استقلال ووحدة البلاد، ومقايضته لسيادة الوطنية من أجل البقاء في السلطة. والانعكاسات السلبية لذلك بإضعاف سلطة الدرولة المركزي’ وفقران مؤسسات الخدمة المدنية لاتسقلاليتها وفعاليتها الوظيفية، وحلول الولاءات الأولية والعشائرية والقبلية والجهوية، محل الولاء للوطن الواحد، لنتقدم إلى الخلف بامتياز,
(9)
ويرى البطحاني أن أحد سمات الانتقالي الراهن الثقل النوعي المتزايد للعوامل الخارجية على حساب العوامل الداخلية، معتبراً أن ذلك من تركة نظام الإنقاذ الإسلامي وأخطرها إذ ساوم على سيادة ووحدة البلاد في سبيل البقاء في السلطة وكيلا كومبرادورياً وتابعاً للأنظمة الإقليمية التابعة هي الأخرى للرأسمالية الغربية.
ويقول في واقع الامر اننا لم نتقدم على اىً من هذه المهام فحسب بل يبدو اننا نتراجع الى الخلف: تراجعت مستويات الاداء تضاعفت المهام بمشروعية حقوق وتطلعات مكونات المجتمع من اقليم مهمشة تطالب بالمساواة او حق تقرير المصير، الى مطالب المرأة السودانية فى المساواة، وحقوق الشباب فى العمل والمشاركة السياسية. وبهذا تتعدد "انواع" الانتقال – فليس المطلوب الانتقال الديمقراطى – بمعنى الانتقال السريع للديمقراطية الاجرائية المتمثلة فى الانتخابات (كما حدث بعد 1964، و1985) بل تزادحم الانتقال السياسى الانتقال من حالة من حالة النزاع والحرب الى السلام وبناء مؤسسات دولة المواطنة، وانتقال الاقتصاد من اقتصاد الريع وهدر الموارد الطبيعية الى الانتاج وادخال جموع القوى العاملة فى دائرة النشاط الاقتصادى الانتاجى ، وايضا الانتقال من سيطرة القيم الذكورية الى المساواة النوعية واحترام كرامة المرأة كانسان ومواطن، وهناك ايضا اِنتقال ذو طابع جيلى بافساح المجال للشباب ليس فقط فى مجال العمل، بل فى المشاركة السياسية سواء فى مؤسسات الدولة، او المجتمع المدنى.
khalidtigani@gmail.com