في حضرة كل الجمال- كابلينا المن الجمال يغرف ويدينا

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

umsalsadig@gmail.com

احتفل منتدى دال الثقافي بمقدم الفنان الأستاذ عبدالكريم الكابلي 30- يناير والفاتح من فبراير 2020 على مدى ليلتين عبقريتي الحسن والابداع (من ليالي كليوباترا الحسان) وقد كان فيهما الكابلي حضورا بهيا مع أسرته الكريمة وقدمت من ضمن البرنامج الاحتفائي وصلات غنائية للكابلي أداها مؤدون كان قد اختارهم الفنان الأستاذ بنفسه. فشكرا لمنتدى دال الثقافي الذي عودنا دوما على الاحتفاء بالجمال على هذه اللفتة البارعة ، وشكرا لعبقري الفن الأستاذ عبدالكريم عبد العزيز الكابلي الفنان المثقف لاستجابته استجابة (عجال لاقت) لدعوة منتدى دال الثقافي ولأشواق محبيه في الوطن العريض وشكرا لثورة أعادت لنا الروح وأعادت لنا الكابلي.
منذ أعوام خلون فجعنا (على ما بنا من نوازل) بأن الأستاذ الكابلي غادر مهاجرا (لبلد طيره عجم) ملتحقا بابنائه في أمريكا ومع أنه لم يصرح أو نسمع عن مضايقته بصورة خاصة من قبل النظام السابق سيء السيرة والسريرة لكن ان قايسنا بين هجرتيه: الأولى في سبعينات مايو الدكتاتورية والثانية في سودان الانقاذ- الأكثر سوادا قبل نحو سبعة أعوام، لفهمنا الدوافع فقد أوضح حينها: ” ليس بالضرورة أن أكون قد تعرضت لضيق، أو مضايقات بصفة شخصية مباشرة، فقد كان يؤرقني كل ليلة الضيق الذي يعيشه أهلي في كل مكان، الناس حولي جياع، فكيف أهنأ بلقمة وأنا الفنان؟"ويشير الكابلي إلى أن الناس ما كانوا يستطيعون تعبيرا عما حاق بهم، بينما تنطق الإذاعة والتلفزيون بأشياء مختلفة تماما عن الحقيقة..وبالطبع هذا منظر مخفف جدا عن الذي أصاب السودان بعد يونيو 89، فلا عجب من أن فنانا مثله باحساسه المرهف قد وجد نفسه بين أمرين أحلاهما مر: إما أن يقبع في وطن تمت مصادرته بالكامل لصالح مضيعيين- وقديما قال الكرار علي ( الفقر في الوطن غربة) وهو فقر لا يشير الى فقر المال فقط أو الآخر : مفارقة الوطن وتحمل ألم الغربة . لا شك أن هذا القرار قد عرضه لضغط نفسي رهيب فنحن نعلم ما لاقاه من عنت الغربة في سبعينات مايو عندما يمم صوب المملكة العربية السعودية وهي الأقرب للوطن مسافة .. ومع ذلك فقد كانت الغربة غير محتملة لنفسه المعطونة في حب الوطن فبث حنينه شعرا (ذوب الصخر العصيا) :
أشوف معناك في كل زول …شرب من طعمك المعسول

ده الخلاني فيك اقول …قدرما يرجى عمري الحول

كلاما بالغزل مغزول …ولحنا في البعاد موصول

وكيف ما أشيل هواك فصول….وقلبي برؤيتك مأهول ..الخ القصيدة /الغنوة المشببة بالوطن.
وكابلي الانسان حساس يحكي عن تجربته في أمريكا ويقول: (والحق أقول لقد تملكتني الحيرة وانهمرت الدموع من عيني وأنا أراقب على الطريق مشهد (بص) يتوقف في إحدى المحطات ليقل المعاقين، وتابعت حركة هذا البص وهو ينحني آلياً ويميل كلياً لتخرج منه رافعة أخذت هذا المعاق برفق ولطف إلى داخل البص وبكل التحوطات التي تؤمن سلامته، حقاً كان مشهداً مؤثراً للغاية يبين قمة التعامل والاحترام والاهتمام التي يجدها الإنسان هناك).
كنت دوما ومنذ مفارقة الكابلي للسودان أمني نفسي بعودته مرة أخرى وبعد نجاح الثورة المباركة تجدد هذا الأمل الذي تحقق اليوم على يد منتدى دال الثقافي.
من ضمن ترتيبات هاتيك الليالي الحسان قدم المنتدى فلما وثائقيا ومعرضا للصور وكتيبا عن سيرة المحتفى به الذي برنا بكلمة طمئنتا عليه وعلى حضوره البهي شكر فيها المكرمين والمحبين والرسميين وأسرته والسودان وأهله وعكس فيها تعلقه بوطنه السودان وميزاته وميزات أهله التي جعلت حتى حكامه من البريطانيين أمثال سير دوقلاس نيوبولد حاكم كردفان السابق يكتب عن السودان كلمات أسماها " الصلاة" : يتوجه فيها بالدعاء والصلاة للخالق ليحفظ شعب وقبائل السودان في جميع الأمكنة ويحمهم من الفقر ومن البؤس ومن الحروب وان يزودهم ويؤتي قادتهم الحكمة للعبور لسودان موفق وختم كلمته بدعاء متبتلٍ مستغفرٍ شفيفٍ وآسر ..
أتى في سيرة كابلي الذاتية باختصار أنه ولد في 13 ابريل 1932 ببورتسودان في بيت دين وحسب ، حيث أكمل دراسة المرحلة الابتدائية والوسطى ببورتسودان. ودرس المرحلة الثانوية بامدرمان كلية التجارة الصغرى وعمل بوظيفة كاتب في المصلحة القضائية بالخرطوم ثم مروي ثم عاد للعمل بالخرطوم مرة أخرى مفتشا اداريا بادارة المحاكم و بعدها مغتربا في المملكة العربية السعودية مترجما لثلاث سنوات.
كانت انطلاقته الفنية الحقيقية عام 1960 متغنيا برائعة الشاعر تاج السر الحسن "أنشودة آسيا وأفريقيا" أمام الرئيس المصري جمال عبدالناصر وقد غنى لجمال أيضا: (تحية لناصر) وكان معجبا به. يعرف الكابلي نفسه بأنه غير متعصب ويعظم دور الفن في تحقيق معاني يعجز عن تحقيقها السياسي.. كما يؤكد أنه: (شخصية تستلهم القديم ولا تقلده وتستشرف الحديث دون أن تفقد هويتها وأصالتها).
أصوله الاثنية المتعددة بين كابل الأفغانية من جهة الأب وجذور تعود لجبل مرة في دارفور من ناحية أمه من جينات تتحدر من فرع من الفور هم الكنجارة ..وقد ولد في الشرق وعاش في الشمال ثم العاصمة كما تأثر بعلم من أعلام سنكات المرحوم محمد بدري أبو هدية. وود هدية رجل نادر جعل تعليم بنات البجا وأولادهم أكثر همه منذ الخمسينات.ولا شك أن هذا الأثر قد بدا جليا في احتفاء الكابلي بالنساء وحثهن عن طريق الغناء (بفتاة الغد).
تنقله في مختلف انحاء السودان وخارجه أثرى تجربته الغنائية متخذا الأغنية وسيلة لخدمة السلام والعدالة والمحبة ولم الشمل ..
وقد غنى لمروي وكسلا و جبل مرة والقضارف، ولسنكات وغنى لكل السودان؛ ثم غنى لمصر وآسيا وأفريقيا وفلسطين .
غنى الكابلي في مختلف المواضيع: غنى للطبيعة، للجمال، لقضايا المرأة، والطفولة، والسلام، والتعاون، والعدالة، والحب، والوطن، والتراث ..غنى لشعراء الجاهلية والشعر العربي بمختلف ضروبه وغنى شعرا حداثيا وغنى أغاني التراث وأغاني البنات غنى بطبقات صوتٍ متنوعة حوّلت الغناء عنده لتعبيرٍ حي عن الحب والسعادة والحزن وزرع الأمل في قلوب معجبيه والمستمعين له..
وغنى لكثير من الشعراء ومن شعره ، كما أن له علاقات بكثير من أهل الأدب في داخل وخارج الوطن وقيل أن العقاد استمع لضنين الوعد فألمح الى أن تعدل ل(يا ضنينا بالوعد) فاعتمدها كابلي فيما ذكر الأديب الدبلوماسي جمال محمد ابراهيم.
لا أعرف كيف أفاضل بين الفن الذي يقدمه كابلي من خلال ما يتغنى به فأنا أسمعه وأصيخ السمع ولا أدري هل تعجبني ما هو عارف أكثر أم في حضرة من أهوى ولا هل أفضل الجندول أم حبيبة عمري أم الموز روى أم في ليلة المولد وطبعا الكلام بكمل لمن نأتي لقصيدة الملحمة وأوبريت سودانية التي نظمها الشريف زين العابدين وأبدع فيها الكابلي الى مصاف النجوم ..الى آخر المئات من أغانيه..لكني مفتونة باختياره للكلمات وما زلت (أعيش الدهشة) مثلما قال في كلمته لمنتدى دال الثقافي عند تأملي على سبيل المثال فقط : لأمثال "هاك قلبي بالمرة قصو وفللو"... أو "حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق" وألاف الصور البديعة في غناه: من نسجه أو من اختياره ..
لا أذكر متى كانت المرة الأولى التي عانقت فيها أذناي صوت الكابلي ولا أدري متى تغلغل ذلك في وجداني (فحدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق) في حضرة غناه البديع .. لابد أن ذلك كان مع لبن أمي: حفية الكرم مامون حسين شريف فمعها سمعت لأول مرة صوت الكابلي ينساب نديا من شريط الكاسيت بغرفتها وما زالت نبرات صوته الشجي في ( هل رأيتن على الشط فتى غض الاهاب أسمر الجبهة كاللخمرة في النور المذاب) حية في مخيلتي منذ ذلك الزمان البعيد.. رسولا للمحبة والسلام والانسانية صوفيا متبتلا وعاشقا مولها ووطنيا غيورا ومبدعا فنانا..
قلنا أن الأستاذ الكابلي غنى لناصر لكن ذلك لم ينتقص أبدا من حرصه المثابر على الخصوصية السودانية التي ساهم بسهم وافر في نسجها بالتنقيب باحثا عنها في التراث والتاريخ وساهم في الاحتفاء بأخلاق السمتة السودانية من كرم ونجدة ومرءة وتسامح والخ..و لابد أن كابلي في هذا المسعى (استقلالي) كامل الدسم دعوته (السودان للسودانيين) .
وفي حقيقة الأمر فالأغنية حتى الغزلية لعبت دورا هاما في خدمة قضايا مختلفة أهمها قضية تحقيق الاستقلال وذلك ببلورتها لخصوصية سودانية مثلما ذكر أستاذنا السر قدور في محاضرة له عن دور الأغنية الوطنية في تحقيق الاستقلال قبل أعوام في مصر ومثلما ذكرالكابلي نفسه في مقدمته لألبوم أمير العود محتفيا بأستاذه حسن عطية وبدور أغنية الوسط في تجميع بقية السودان ولم شمله ..
ما قدمه كابلي من رسائل من خلال غناه قبل عشرات السنوات يصلح حتى اليوم فعلى سبيل المثال في عمله (ليس في الأمر عجب)يقول :
للعمل إلى العمل لم يعد غير العمل
قد سئمناه صراخا و هتافاً ليس يجدي
قد مللنا كل من غير الذى يبطن يبدي
قد كرهنا صولة الغافل إن الجهل يُردي
ليست الثورة تهليلاً و تطبيلاً لفرد
ليست الثورة تدعيماً و تكريساً لقيد
أو هتافاً أرزقياً مسلط السيف لكيد
إنما الثورة أيد فوق أيد فوق أيد
إنما الثورة جهدٌ بعد جهدِ بعد جهد
إنما الثورة حبٌ و عطاءٌ و تحد
لقلاع الجهل للفقر و للداء الألد
لشرور النفس للحقد وجور المستبد
وفي غربته حيث اختار الحياة مع ابنيه في هذه المرحلة من حياته بواشنطن استطاع أن يطلق مؤسسته الخيرية الدولية من العاصمة الأميركية، ويكون باكورة أعماله في هذا المشروع الخيري الصرف هو إطلاق كتابه الأول باللغة الانجليزية " أنغام لا ألغام"
وقدم عملا عن التعايش الديني بعنوان "جراح المسيح" للشاعر عزيز التوم منصور وقلية بن لشرقنا الحبيب من تأليفه.
كتب كثيرون عن ابداع الكابلي وعن اسهامه في ترقية الذوق العام بضربه المثل في الكلمة الفصيحة واللحن العبقري والمعاني الرسالية مثلما شهد أستاذ بكري الصايغ: (الفنان الكبير عبدالكريم الكابلي ثروة قومية بمعني الكلمة، -ما كان يجب ان تفرط فيه الدولة ابدآ. هو أغلى من النفط الاسود الذي مارأينا عائداته!!…وأهم مليون مرة من الذهب الابيض والاصفر.. والصمغ العربي..والكركدي…ولايقل اهمية عن النيل الابيض والازرق).
شهد له دكتور عبد اللطيف البوني أنه من بناة السودان الحديث.
كتب عنه بروف عبدالله علي ابراهيم(في تحية الكابلي الله يخليك ياأستاذنا)..
كتب أستاذ مصعب الصاوي: أن الكابلي الشاعر المغني عالج النص الشعري، أتى ألوانا لم يألفها الناس ولم توجد في غير كرمه، احيا أغاني الوعي، وجرب قوالب الموشح، راد مجالات لم يحاولها غيره، ونقب في الموروث الشعبي. بل جرب مجال النقد الاذاعي من خلال برنامج "فكر وابداع" وأعطى أغاني الحقيبة دورة حياة جديدة: (ماهو عارف-خليل فرح، بت ملوك النيل - سيد عبدالعزيز، الرشيم الأخضر-بشير عتيق، هات لينا صباح- عبدالرحمن الريح).
كتب عثمان عامر: حلم كابلي بسودان جديد قبل خمسة عقود حالما بفتيان وفتيات يصعدون في سلالم المجد بقوة الحلم والعلم وها هو حلمه اليوم يتحقق.
كتب عنه صلاح شعيب: ان روح الشاعرية التي تقمصت المبدع الكابلي وتوازنت مع صوته ذي الامكانات الهائلة ساعدته في تخير الأشعار الجيدة التي غناها.
فماذا أقول غير شكرا كابلي و دعاء لاهج :متع الله الأستاذ الكابلي بالصحة والعافية وجزاه عنا وعن وطنه خير الجزاء.
وسلمتم

 

آراء