الحكم العسكري في السودان واقعياً بدأ منذ الاستقلال في 1 يناير 1956، عندما استلم الأميرالاي عبدالله خليك رئاسة الوزراء، وكان حينها أول سكرتير عام لحزب الأمة، وعندما تفاقمت صراعات الأحزاب واشتد الاستقطاب، سلم الحكم في 17 نوفمبر 1958 للجنرال عبود، وتم التسليم بمباركة عبد الرحمن المهدي. واجه السودان ثلاثة تحديات أساسية بعد الاستقلال تمثلت في: الاتفاق حول دستور دائم، ومشكلة جنوب السودان، والتنمية وتوزيع الثروة، ولولا قطع عبدالله خليل الطريق أمام تطور الديمقراطية لنجح السودان في حل هذه المشاكل، ولكن لأن عبدالله خليل عسكري برتبة أميرالاي، كان أقرب حل أمامه هو تسليم السلطة للجيش. بعد هذا التسليم، حكم الجيش السودان لمدة 51 عاماً توزعت بين الجنرالات الثلاثة، عبود ونميري والبشير، مقابل حكم ديمقراطي لم يتجاوز الـ 12 عاماً توزعت بين عبدالله خليل وإسماعيل الأزهري والصادق المهدي، وبعد خصم السنوات الانتقالية تصبح الفترة 9 أعوام بالضبط، وهذه الفترة غير كافية لتأسيس حكم ديمقراطي مستدام. وما يحدث اليوم من تململ وبروز دعوات خجولة إلى استمرار الحكم العسكري، نتيجة طبيعية لحكم دكتاتوري دام أكثر من 50 عاماً، رسخ لفكرة تتلخص في أن الاستقرار والتنمية لا يتحققان إلا عبر القبضة الأمنية والدكتاتورية العسكرية الباطشة، حيث وجدت هذه الفكرة رواجاً وقناعة بين قطاعات كثيرة من الشعب السوداني بسبب ضعف الثقافة الديمقراطية في مجتمع لم يمارس الديمقراطية في الواقع، وظلت مجرد أطروحات وتطلعات حزبية. ظل العسكريون منذ الاستقلال وحتى اليوم يطلقون على الفترات القليلة التي حكم فيها المدنيون "فوضى الأحزاب"، مع ملاحظة أن الحكم المدني عادة يأتي بعد ثورة شعبية تنادي بالحرية والديمقراطية والعدالة، ولم نسمع بثورة شعبية خرجت ضد نظام ديمقراطي وطالبت بحكم عسكري. ثورة ديسمبر 2018 المجيدة، تختلف عن سابقاتها في كونها واجهت نظام سياسي استغل المؤسسة العسكرية وعمل على تصفيتها وإعادة هيكلتها لتخدم أجندة الحركة الإسلامية في حكم السودان إلى الأبد، لذلك مهمة تفكيك نظام الإنقاذ ستكون معقدة وشاقة وطويلة، وكل ما يحدث اليوم هو مخاض طبيعي وعسر ولادة لدولة ديمقراطية تقوم فيها السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بمهامها على أكمل وجه، تحت حماية مؤسسة عسكرية قومية قوية تحمل على حماية السيادة وحفظ الأمن. الدعوة إلى انتخابات مبكرة قبل حسم ملفات كنس آثار "الإنقاذ" وتفكيك التمكين، وتحقيق السلام والاتفاق على دستور للحكم، بمثابة حرق لمراحل نضوج الثورة، وفي تقديرنا ثلاث أو أربع أو حتى خمس سنوات للفترة الانتقالية لا تعني شيئاً أمام بناء مستقبل كامل للبلد، وترتيب البيت وتأهيله ليصبح صالحاً للسكن الدائم، وننجح بذلك في قطع الطريق أمام الدائرة الشريرة "حكم عسكري – ثورة شعبية – ديمقراطية – والعكس"، ولنعلم أن كل ما يحدث اليوم هو مجرد صراعات ومشاكل مصطنعة يقف خلفها الفلول، ومع تمدد الحكم المدني في الولايات والتفاف الجماهير حوله، سيزيد صراخهم ولكن في النهاية سيصمتون إلى الأبد.. دمتم بود