An Expatriate in the Sudan, 1957 - 1962 بقلم رولاند فوريست Roland Forrest ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لمقال للأستاذ البريطاني رولاند فوريست أورد فيه بعض ذكرياته عن أيام عمله في حقل التدريس بالسودان بين عامي 1957 و1962م. نشر المقال عام 2017م في العدد السادس والخمسين من مجلة "دراسات السودان Sudan Studies" التي تصدر عن جمعية دراسات السودان (جنوب السودان والسودان). عمل رولاند فوريست مدرسا ومدربا لمعلمي اللغة الإنجليزية وصحافيا لأكثر من ثلاثين عاما، وقام بتأليف عدد من الكتب الدراسية للغة الإنجليزية. ضمن المؤلف مقاله صورا عديدة، منها صورته الشخصية وهو يرتدي جلبابا وعمامة، وصورته مع عدد من الطلاب وهم يمارسون لعبة "شد الحبل" ضد فريق الأساتذة، وصورة للطلاب في "حصة المكتبة"، وصورة جماعية لأساتذة المدرسة الأهلية بأم درمان عام 1959م يتوسطها الأستاذ خالد موسى ناظر المدرسة، وصور أخرى لمدينة أم درمان منها صورة لمسكنه – مع آخرين – في البيت الذي كان يقطنه سلاطين باشا في بدايات العهد الاستعماري البريطاني. المترجم ********** ********* ********* مقدمة كان من حسن حظي أن حَظيت بتلقي العلم علي يد فيرنون قريفث (1) عندما كنت أدرس في جامعة أكسفورد لنيل دبلوم الدراسات العليا في التربية والتعليم بين عامي 1955 و1956م. وكان قريفث قد عمل من قبل عميدا لمعهد التربية ببخت الرضا بالسودان. وفي تلك السنوات لم أكن أعلم الكثير عن السودان سوى شذرات غامضة في دروس التاريخ عن غردون وكتشنر أيام الطلب. وزاد سماعي لأحاديث قريفث من اهتمامي بالسودان وبنظامه التعليمي. وبعد عام من ذلك، رأيت إعلانا في صحيفة The Times Educational Supplement باللغة الرسمية التي لا زالت تستخدم في سفارة السودان وصحيفة The Times جاء فيه: "ترغب حكومة السودان في تعيين مدرسين للعمل بعقود تمتد لخمسة أعوام ...". وتقدمت لتلك الوظيفة ودُعيت لمقابلة في مبنى السفارة بشارع كليفلاند Cleveland Row وتم قبولي. وفي غضون الأسبوعين التاليين دبرت أمر رحلتي بالطائرة، التي تستغرق يومين كاملين، إذ أنها كانت تشمل توقف في نيس، والنزول في مالطا وقضاء نصف يوم بها، ثم السفر لبنغازي، ومنها لوادي حلفا. وبعد قضاء ليلتين حارتين في "الفندق الكبير Grand Hotel" بالخرطوم أخبرت بأنني سوف أسافر للعمل في مدرسة خور طقت الثانوية، التي تقع على بعد ستة أميال من مدينة الأبيض بكردفان. وكانت تلك مدرسة داخلية بُنيت قبل استقلال السودان في 1956م على نمط ما يعرف بالمدارس العامة الإنجليزية. وانضممت في خور طقت لشعبة اللغة الإنجليزية التي كان يقوم عليها أساتذة إنجليز مع قليل من الأساتذة الآخرين. وكان أساتذة المواد الأخرى في الغالب من السودانيين والمصريين. وكان الطلاب كلهم من السودانيين وتتراوح أعمارهم بين 13 و20 عاما. وكنت سعيدا بتدريسهم بسبب اجتهادهم وشغفهم بالتعلم، ولا غرو، فقد كانوا نخبة مختارة، لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة من الذين ينجحون في بلوغ مرحلة الدراسة الثانوية (وكانت نسبة التعليم في أوساط البنات أقل من تلك النسبة الضئيلة بكثير). وكان منهج التعليم لا يختلف كثيرا عن المنهج الذي يُدرس عادةً في المدارس الثانوية في غالب مناطق مستعمرات الإمبراطورية البريطانية، ويشمل الإِنْشَاء، وكتابة المُلَخّصات précis وقطع الاستيعاب والفهم comprehension وغير ذلك. وكان من الواجب الالتفات إلى اختيار كتب وقطع الأدب الإنجليزي التي قد تكون ذات صلة بخلفية الشباب السوداني. فقد وجدت مثلا أن على أن أشرح باستفاضة بعض الجوانب (الاجتماعية) في مسرحية "الصندوق الفضي" لجون جالزورثي (2). كذلك لم أكن مقتنعا بوجاهة ومَعقُولِيّة تعليم كتابة المُلَخّصات لتلاميذ يتعلمون لغة أجنبية، غير أني لما نقلت شكواي للجنة المناهج بالخرطوم من هذه المادة، قوبل رأيي بالرفض والتوبيخ، بل وأتهمت بأني أدعو إلى تخفيض المعايير والمستويات! وظللت أبذل قصارى جهدي لتحقيق التوازن بين إعداد تلاميذي لامتحانات الشهادة الثانوية (القديمة الطراز نوعًا ما) ومحاولة تحسين لغتهم الإنجليزية. لقد كانت لتلاميذي قدرات لغوية جيدة، ولكني متأكد من أن ذلك كان مرده هو دراستهم لكل المواد الأخرى باللغة الإنجليزية، عدا اللغة العربية والدين بالطبع. ولم يتم تعريب المناهج حتى منتصف الستينيات. وما زلت محتفظا بنسخة من "نشرة مدرسي اللغة الإنجليزية" صدرت في أغسطس عام 1965م، جاء فيها: "لقد أُدخل التعريب الآن في المرحلة الثانوية. وصارت اللغة الإنجليزية تدريجيا في كل مدارس الشمال لغة أجنبية وليست لغة ثانية. وهذا سيلقي على زملائنا في شعب الرياضيات والعلوم والجغرافيا أعباءًا ثقيلة في تحضير موادهم بالعربية وتقديمها للتلاميذ. وهذا يجعل من الضروري على مدرسي اللغة الانجليزية القيام بتغييرات جذرية فيما يدرسونه لتلاميذهم". وبالفعل، كان القيام بتغييرات جذرية، خاصة فيما يتعلق بطرق تعليم اللغة الإنجليزية، أمرا ضروريا، وينبغي أن تستوحي تلك التغييرات ما تنصح به أقسام اللغويات التطبيقية في الجامعات. وتم بالفعل تغيير خُطَّة الِمَنْهَج الدِراسِيّ بخطة أخرى أكثر مناسبةً لاحتياجات الطلاب السودانيين وخلفياتهم. وفي ذات الوقت، تم التركيز والاهتمام أكثر على اللغة بحسبانها أداة للتَوَاصُل وليست مجرد مجموعة من القواعد. التدريس في مدرسة خور طقت الثانوية *********** لم أجد نفسي منسجما مع الحياة في تلك البقعة الصحراوية القصية. ولم يكن الجو العام بين المدرسين البريطانيين لطيفا، رغم أني سعدت بإقامة علاقات اجتماعية دافئة مع السودانيين بالمدرسة. ووجدت أنه يلزم أن تكون للمرء بعض خواص "الشخصية المكتفية ذاتيا" كي ينعم – ولو قليلا – بالحياة في تلك البيئة الاجتماعية المقيدة المحصورة. وبدا لي أن عددا قليلا فقط من الأساتذة الأجانب (كنت من ضمنهم) كانوا يمتلكون مثل تلك الشخصية. وهذا ما مكنني من فهم بعض المتطلبات النفسية التي واجهت المسؤولين الحكوميين الذي يرسلون لمناطق نائية ومعزولة في عهد الاستعمار البريطاني. ورغم أنه ليس هنالك ما يمكن انتقاده في سلوك وطريقة تلاميذنا في الدراسة والتعلم، إلا أن الانضباط وتطبيق النظام عليهم كان شديد الصرامة والحزم. وأنتج التمسك بروح وأخلاقيات المدارس العامة (التقليدية المحافظة) في بريطانيا، إضافة للتراث الإسلامي تطبيقا مستداما للعقاب البدني على التلاميذ لأقل الجنح وأتفه الأسباب. وكما اكتشفت سريعا، كان الجلد يستخدم أيضا لكبح أي مظهر للعصيان السياسي بينهم. وكان ناظر المدرسة يومها (سيد البشرى، الذي غدا لاحقا الملحق الثقافي لسفارة السودان بلندن) يدير المدرسة بكفاءة عالية. وكان الرجل من أشد الملتزمين بالحزم والشدة في تطبيق الانضباط بالمدرسة. وبعد أسابيع قليلة على وصولي لخور طقت، أعلن عن أن وزير التربية والتعليم سيزور المدرسة. وبالطبع كان الناظر الطَّموح شديد الحرص على أن يترك أفضل أثر في نفس الوزير، فقد كانت تلك الأيام هي أفضل الأوقات للحصول على فرص ذهبية للترقي. لذا قرر الناظر أن تقام مباراة لكرة القدم على شرف السيد الوزير، وتم إعداد مقاعد الضيوف والنظارة الآخرين حول الملعب بصورة لائقة. وعندما حان وقت بدء المباراة وجد الوزير ومساعدوه والناظر وبقية الأساتذة والضيوف أنفسهم ينظرون إلى ملعب صامت وخالٍ من اللاعبين. اختفى الأولاد كلهم من المشهد: جميع اللاعبين والمتفرجين (وهم بالمئات)! ونقل حكم المباراة رسالة إلى السيد الناظر من اتحاد الطلاب مفادها أنهم يقاطعون المباراة وذلك احتجاجا على رفض الحكومة لبعض مطالب كان طلاب جامعة الخرطوم قد تقدموا بها آنِفا. بدا الاحراج واضحا على وجه الناظر، فقد كان انسحاب الطلاب جميعا من المباراة بمثابة خيانة فظيعة للذات الملكية (lese - majesty). وسرعان ما تفرق جمع النظارة، وغادر الوزير وحاشيته الملعب وتوجهوا إلى مطار الأبيض على عجل. وفي تلك الليلة تظاهر التلاميذ في داخلياتهم، وتجمع بعضهم حول منزل الناظر وهم يهتفون ضد ذلك "الإنجليزي الأسود". وكان هذا، بالمناسبة، أقرب ما سمعته خلال خمس سنوات في السودان من شيء مناهض لبريطانيا. وفي صبيحة اليوم التالي دخل التلاميذ إلى فصولهم، وما أن بدأت الحصص حتى قام الناظر باستدعاء كل الأساتذة لاجتماع طارئ، عرض فيه قراره بمعاقبة كل تلاميذ المدرسة بالجلد لما اقترفوه بالأمس. وحصل الناظر على الفور على موافقة جميع الأساتذة بجلد كل تلميذ ست جلدات. وكنت الوحيد الذي شذ عن الإجماع، إذ رفضت المشاركة في جلد تلاميذي. وأحسست بخذلان الناظر وخيبة أمله في. وسرعان ما أتى الفراشون لمكان الاجتماع بحزم من العصي ووزعوها على الأساتذة. وما هي إلا دقائق حتى بدأت عمليات الجلد، وتفرق بعض التلاميذ في الفصول النهائية بين بقية الطلاب لحثهم على رفض العقوبة، وعلى مغادرة المدرسة. وسرعان ما خلت المدرسة من التلاميذ بعد أن غادروها وآبوا لديارهم. ولم يكن هنالك في عام 1957م بالطبع هواتف نقالة أو بريد اليكتروني. وكان على بعض التلاميذ أن يبحثوا لأيام عديدة عن مواقع أهلهم الرحل في البوادي. ومرت أسابيع قبل أن يعلن راديو أم درمان عن أن بإمكان طلاب خور طقت العودة للمدرسة ومواصلة الدراسة شريطة أن يقبلوا بالعقوبة التي قررتها إدارة المدرسة عليهم، وكانت 18 جلدة لقادة "العصيان"، و12 جلدة لمن قاموا بأدوار ثانوية في تنظيم الاحتجاج أقل من تلك التي أداها قادة الطلاب، و6 جلدات لكل من سواهم. وبدأ الطلاب في العودة تدريجيا وتلقي عقوبة الجلد المقررة. وظللت على موقفي من عدم المشاركة في جلد تلاميذي. وذات يوم كنت أعمل في مكتب شعبة اللغة الإنجليزية عندما أقبل على رجل سوداني محترم في عقده الخامس، وعرف نفسه بلغة إنجليزية رصينة وقال لي بأنه كان قد حث ولده (التلميذ بالصف الثالث) على المشاركة في الاحتجاج، إلا أنه أيقن لاحقا بأن ذلك كان خطأ عظيما من جانبه. وطلب مني الرجل أن أتولى معاقبة ولده بعدة جلدات. حاولت أن أقنعه بأنه ما من سبب لشعوره بالذنب، غير أنه أصر على أن ضميره لن يصفو إلا إذا قمت بمعاقبة ولده. رددت عليه بأنه من الخير أن أناقش الأمر مع الناظر. ولم أعلم بعد ذلك ماذا قرر الناظر بشأنه. حياة مُغْتَرِب *********** كان المدرسون البريطانيون في خور طقت قد قصروا حياتهم الاجتماعية على مواطنيهم. وبعد وقت قصير من وصولي لخور طقت دعوت زميلا من زملائي مدرسي الإنجليزية – تصادف أنه كان سودانيا – لوجبة طعام في بيتي. قد لا يصدقني القارئ الآن إن ذكرت هنا أن رئيس الشعبة الإنجليزي قال لي أنه قد لاحظ ما فعلته، ونصحني بأن "احتفظ بمسافة معينة من الأساتذة المحليين". ولم يكن الجو العام بين الأساتذة البريطانيين (وعددهم لا يقل عن عشرة) سعيدا جدا في غالب الأوقات. وأذكر جدا أنه في مرة واحدة على الأقل أن تَلاكَمَ الأساتذة البريطانيون في أثناء حفل مشروبات (روحية) في منزل أحدنا. وكان أحد الأساتذة قد اعتاد على شرب صندوق كامل به 12 زجاجة بيرة (أبو جمل) مع زوجه كل ليلة. وظل يداوم على ذلك حتى أدمن الكحول، ولم يعد قادرا على أداء مهام وظيفته فأعيد إلى بريطانيا. وهنالك مدرس بريطاني كان مشهورا بالخبث والطَّمّاح المفرط آب لبريطانيا، وسرعان ما صعد هناك لمنصب مفتش تعليم في إحدى المناطق. غير أنه أُتهم لاحقا بالابتزاز ووضع رهن الاحتجاز. ما هي تلك الامتيازات التي تغري مدرسا بريطانيا ليعمل بالسودان في تلك الأيام؟ لقد كانت شروط التعيين للعمل بالسودان هي نفس الشروط التي كان معمولا بها قبل الاستقلال: يُعين الأستاذ في السودان بعقد مدته خمس سنوات بمرتب يعادل ضعف المرتب الذي يتقاضاه المدرس في المملكة المتحدة، وهو معفي من الضرائب، ويعطي سكنا بإيجار رمزي، وعطلة سنوية قدرها 84 يوما في العام يقضيها في بلاده. وعند نهاية العقد يمنح المدرس مكافأة قدرها 25% من جميع ما حصل عليه من مرتبات في غضون سنوات العقد. عرفت في الخرطوم مدرسا بريطانيا ينتمي إلى حركة "إعادة التسلح الأخلاقي" (3) كتب التماسا لوزارة التربية والتعليم طالبا تخفيض راتبه، إذ أنه يفيض عن حاجته. وردت عليه الوزارة بالقول بأنه ليس هنالك في اللوائح ما يتيح لها تخفيض الراتب المقرر، واقترحت عليه أن يقوم – إن أراد – بالتبرع لجمعية خيرية بما تطيب به نفسه. ولم يكن هنالك في خور طقت من وسيلة للترفيه والتسلية سوى رحلة دورية بعربة نقل المدرسة إلى الأبيض لغشيان محل بقالة يملكه تاجر إغريقي، أو لإعادة مشاهدة شريط (فيلم) غربي قديم في دار سينما المدينة. وكانت الرعاية الطبية متوفرة في المستشفى التي كان يقوم عليها دكتور هسبندHusband ، الطبيب العسكري المتقاعد، مع زوجه التي تؤدي مهمة كبيرة الممرضات. ولا شك أن دكتور هسبند كان يؤدي خدمات جليلة لأهالي كردفان قاطبة، إلا أن معاملته للمرضى (bedside manner) كانت جافة وتفتقر للتعاطف نوعا ما. وكانت لي معه تجربة شخصية، إذ أن شَخَّصَ ألما في بطني على أنه التهاب الزائدة الدودية، وأمر بتحضير غرفة العمليات لإجراء العملية على الفور. وواصل حديثه معي فقال: "للأسف ليس لدينا طبيب أو فني تخدير الآن، لذا سأقوم بتخديرك بنفسي. وفي آخر مرة حاولت فعل ذلك صَحا المريض وأنا في منتصف العملية، وسبق ذلك حالة مريض قمت بتخديره ولكنه لم يستيقظ البتة. هل أنت مستعد بعد ما سمعت أن أجري لك التخدير والعملية؟ إذا لم توافق، أخشى أنه، بالنظر إلى حالتك المتأخرة، فستموت في الغالب". **************** **************** ********** نقلي لمدرسة الأهلية بأم درمان عند انتهاء العام الدراسي قدمت طلبا لنقلي لمكان أقل بعدا (من العاصمة)، وتم قبول الطلب ونقلت لمدرسة أم درمان الأهلية. وكانت تلك مدرسة بنين ثانوية تقع على تُخُم الصحراء. واتخذت في البدء من "نادي السودان Sudan Club " سكنا لي، غير أني عثرت لاحقا على مكان أبعد قليلا على شاطئ النيل كان يسمى "ميز سلاطبن باشا"، وكان ذلك البيت مخصصا لسكن العُزَّاب من الموظفين الحكوميين المغتربين، إذ أن المتزوجين من هؤلاء كانت تخصص لهم منازل في مناطق مختلفة من العاصمة. لذا كان علي أن أنتقل كل يوم بين الخرطوم وأم درمان للوصول والرجوع من مقر عملي لمدة أربع سنوات متصلة. كان رئيس شعبة اللغة الإنجليزية بالمدرسة (اسمه جون اتكنز) رجلا متميزا. وكان مشهودا له قبل مجيئه للسودان بأنه ناقد أدبي محترف نشر عددا من الكتب عن جورج أورويل وجوليان هيكسيلي وايرنست هيمنجواي) 4). وسرعان ما ترك اتكنز العمل بالمدرسة الأهلية والتحق بالمعهد الفني بالخرطوم، وحللت مكانه رئيسا لشعبة اللغة الإنجليزية التي كانت تتكون من أربعة بريطانيين وسودانيين ومصري واحد. وكان لأتكنز روح دعابة قاسية. وطاح تحت دعابته القاسية أحد محرري صحيفة تصدر باللغة الإنجليزية بالخرطوم. كان أتكنز يريد أن يوضح أن ذلك المحرر لم يكن يجيد الإنجليزية، فقام بوضع إعلان في ذات الصحيفة جاء فيه: "مغترب إنجليزي سيغادر السودان قريبا ويرغب في التخلص من مُومِس Courtesan بديعة. تقدم بعرضك ...". ويبدو أن ذلك المحرر كان يظن أن courtesan هي نوع من السيارات! وكان ذلك المقلب هو حديث البريطانيين لأيام عديدة. وأضطر السفير البريطاني لاستدعاء أتكنز ليطلب منه تفسيرا لذلك الإعلان الغريب، وليخبره بأن مثل تلك المزح ستضر بسمعة المملكة المتحدة، وإن أراد سوداني شراء سيارة، فسيشتري فلوكسواجن وليس موريس. وتم تقديم شكوى ضده لوزارة التربية والتعليم. وبعد عدة شهور تلقى أتكنز خطابا من الوزارة تخبره بأنها أجرت تحقيقا حول الأمر ووجدت أنه لن يؤثر على عمله كمدرس. وأبتهج البريطانيون بالسودان بتلك النتيجة وعدوها مثالا طيبا لاعتدال ومعقولية السودانيين. ****** ********* ********** ********* حياة المغتربين البريطانيين في الخرطوم كان بالخرطوم عدد كبير من الأوربيين في خمسينيات القرن الماضي. وكانت عمليات السودنة حينها تجري على قدم وساق، ولكن رغم ذلك كان هنالك عدد كبير من المغتربين الأجانب بالبلاد، كان يشتغل معظمهم في الشركات التجارية، ويعمل بعضهم في التدريس بالمدارس والجامعة، أو كمستشارين في بعض الوزارات الحكومية. وأتذكر من هؤلاء بوجه خاص جاك مافروقراداتو، الخبير القانوني البريطاني الذي عمل بالسودان، وكان يحب التمشي في المدينة مع مشرف كلية غردون التذكارية. كان افروقراداتو قد ألف العديد من الكتيبات العربية التي ساهمت في محو الأمية بالسودان. وكان يأتي في فصول الشتاء للتدريس متبرعا في مدارس البنات بأم درمان، ويتخذ من "نادي السودان" سكنا له. كان "نادي السودان" الواقع على النيل وبالقرب من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية هو مركز الحياة الاجتماعية للبريطانيين بالعاصمة. وكان به حوض للسباحة وملاعب للتنس. وكان المطعم هو أكثر مكان يرتاده الناس في ذلك النادي، خاصة وقت وجبة الغداء أيام الجمعة. وكان النادي يفرض على مرتاديه التقيد بزي رسمي قبل الدخول للمطعم، إذ لا بد أن يكون القميص محشوا في البنطال الطويل أو القصير بالنسبة للرجال، وليس كما يلبس القميص الهندي مثلا. ويجب على مرتادي المطعم في فصل الشتاء (أكتوبر إلى مارس) أن يرتدوا ربطات عنق بعد الساعة الثامنة مساء. ويطوف عليهم السفرجية في البارات والفرندات وهم يحملون صواني عليها ربطات عنق ليستأجرها من لم يأت بربطة عنق من داره. وكانت عضوية النادي مقصورة على المواطنين البريطانيين. ومع تكاثر عدد الأمريكيين في الخرطوم ثار سؤال حول إمكانية قبول عضوية القادمين من "شمال أمريكا" في عضوية النادي. وتمت مناقشة الأمر في اجتماع للجمعية العمومية للنادي. وطالب في ذلك الاجتماع أحد الأعضاء البريطانيين بتعريف دقيق لعبارة "مواطني شمال أمريكا"، وهل يشمل ذلك المكسيكيين. وظل "نادي السودان" مقصورا على البريطانيين لعدد من السنوات بعد ذلك. انقلاب عام 1958 والحياة تحت نظام عبود صحوت من النوم في يوم 17 نوفمبر 1958 لأسمع من أخبار هيئة الإذاعة البريطانية أن انقلابا قد وقع في الخرطوم. ورغم ذلك توجهت عند السابعة صباحا إلى أم درمان كالعادة، وشهدت واحدا من أكثر انقلابات العالم العسكرية سلمية. كانت الدبابات تحرس المباني الحكومية، ومدخلي كبري النيل، ولا توجد أدنى مظاهر تدل على أي عنف. أديت مهامي العادية بالمدرسة وعدت للبيت عند الثانية ظهرا، ولاحظت أن بعض الدبابات قد سحبت بالفعل، وأن الثورة (الانقلاب) قد تكللت بالنجاح. وبدأ الفريق إبراهيم عبود عهدا عسكريا من الحكم استمر طوال ست سنوات. ولم يدرك أكثرنا يومها أن عهد الديمقراطية البرلمانية قد انتهي فعليا، وأن عقودا من الديكتاتورية العسكرية ستأتي. وتم تعيين عدد من البريطانيين للعمل في إذاعة أم درمان لإنتاج وإذاعة برامج قصيرة باللغة الإنجليزية تتضمن في الغالب أخبارا وشؤونا عامة تهدف لتمجيد "منجزات" النظام الجديد. وكنت من ضمن هؤلاء، وقضيت بالفعل وقتا ممتعا وأنا أمارس ذلك العمل مع ذلك الفريق. وكنت أحرص أشد الحرص وأنا أقوم بتحرير الفقرات الجديدة في البرنامج أن أراعي ترتيبها بحسب الأهمية، فأخبار الفريق إبراهيم عبود لا بد أن تأتي في البداية، ثم تليها أخبار وزير الاستعلامات (الذي يرأس الإذاعة السودانية)، وتأتي بعد ذلك بقية أخبار السودان، وتليها أخبار أفريقيا، وأخيرا أخبار بقية دول العالم. واستمريت في ذلك العمل حتى تلقى وزير الاستعلامات عددا من الرسائل من المستمعين في الخارج (5) تسأل إن كان السودان لا يزال تحت الاستعمار البريطاني. عند ذاك قرر وزير الاستعلامات أن يسودن وظائفنا، وطلب منا أن نتقدم بترشيحاتنا لشخصيات مناسبة تحل محلنا. وقمت شخصيا بترشيح زميل لي كان مدرسا وصحافيا في آن معا. غير انه لم يستمر في وظيفته الجديدة إلا لأسابيع قليلة بدعوى أن لهجته "إنجليزية أكثر مما ينبغي"! وفي تلك الأيام كانت معدلات الجريمة قليلة جدا. وكان الناس ينامون خارج الغرف في الفراندا أو الحديقة، والحريصون منهم يكتفون بإغلاق الباب الخارجي للدار ووضع المفتاح تحت وسادة السرير. ولم أسمع بأي سرقة من بيت في العاصمة في غضون سنواتي الخمس في السودان. وكانت أسوأ الحوادث التي تحدث هي من الخدم في المنازل حيث يزيدون زجاجات الويسكي والجن بالماء، ويغشون في قيمة مشترياتهم من الأسواق. وبعد سنوات من مغادرتي للسودان سمعت – بمزيد من العجب والتعجب – بأن مكافحة السرقة الآن تتم عبر المعاقبة بقطع اليد. وكنت قد نصحت في حالة أن أوقفني رجل شرطة المرور وأنا اقود سيارتي أن أقول له "أنا مدرس"، وسيتركني أمر دون سؤال، إذ أن لتلك المهنة احتراما ووضعا خاصا في تلك الأيام. غير أني لم أستفد من تلك النصيحة، إذ لم اتعرض لمثل ذلك الموقف أصلا، وكانت حركة المرور محدودة في تلك الأيام. ورأيت – لأول مرة - أمام مبنى السفارة البريطانية لافتة كتب عليها: "ممنوع الوقوف هنا" في الموقف المخصص لسيارة السفير البريطاني الرولس رويس. وكانت أول مقابلة لي مع شرطي المرور هي حين قمت بإجراء امتحان قيادة السيارة في رئاسة قسم حركة المرور، التي لم تكن تبعد كثيرا عن مكان سكني، وكان رجل الشرطة في غاية اللطف معي. لا شك أن المرء يحتاج لسيارة خاصة في الخرطوم، خلافا للوضع في خور طقت. وقام زميل من المدرسيين المصريين بإعطائي بعض الحصص في قيادة السيارة، وأصررت على أن أتقدم لاختبار القيادة، إذ كنت أشعر بأني لم أكن مستعدا بالفعل لقيادة سيارة. وتولى زميلي المصري القيام ببعض الإجراءات وذهب بي لمكان الاختبار. وكنت حينها قد تعلمت من الكلمات العربية ما يكفي، ولكن أصر الزميل المصري على أن يرافقني في السيارة بعد أن أقنع الشرطي بأنه سيقوم بمهمة الترجمة لي بدعوى أن هنالك كلمات إنجليزية أكثر مما في اللغة العربية. وكان يقول لي مثلا عندما يطلب مني الشرطي أن أتجه بالسيارة يسارا بقوله: "شمال"، فهو يقول لي: "أبطيء السير الآن، وحول ترس السيارة إلى الثاني، وشغل اللمبة الومضية (indicator)، ثم استدر بالسيارة ببطء يسارا". أكملت الاختبار في عشر دقائق، توقف محرك سيارتي خلالها ثلاث مرات، وكدت أصطدم بسيدة عجوز. وبعد نهاية الاختبار احتار الشرطي فيما يمكن أن يقوله لي، إذ أنه، فيما يبدو، لم يصادف قط رجل بريطاني لا يجيد قيادة السيارة. صمت قليلا ثم أعطاني شهادة بالنجاح وقال لي: "عربية بطالة، لكن سواق كويس"! مغادرة السودان في نهاية السنة الخامسة من فترة عقدي وجدت فرصة في مكان آخر في مجالي التدريس والصحافة، فآثرت – بعد تردد – أن أرفض عرض التجديد الذي عُرض علي. وأتأمل الآن – بعد نحو ستين عاما – سنواتي الخمس في السودان، وأعدها من أجمل سنوات حياتي وأكثرها إثارة ومتعة. بعد مغادرتي للسودان، عشت في دول كثيرة أخرى، غير أن أكثر ذكرياتي حرارةً (بالمعنيين طبعا) كانت بالسودان. وما حاق بالسودان من بعد ذلك بهذا البلد الجميل وبشعبه الصديق الذي عشت بينه وعملت معه يملأ قلبي بالأسى وخيبة الأمل. **************** **************** ********* إشارات مرجعية 1. تخرج السيد في. قريفث في جامعة أكسفورد عام 1922م وعمل بالهند في كلية سانت أندروز حيث تأثر بفلسفة غاندي التربوية ذات الطابع الريفي. ألف عدداً من الكتب منها "تجربة في التعليم: رواية لمحاولات تحسين تعليم البنين في المراحل الأولية بالسودان الإنجليزي المصري المسلم"، وألف مع عبد الرحمن علي طه نائب عميد بخت الرضا كتابا عن "عادات المجاملة في السودان" (نشرنا ترجمة لعرض لذلك الكتاب كتبه جورج أسكوت https://hi-in.facebook.com/341963835911282/posts/969765899797736/) وكتاباً بعنوان "أهداف الأخلاق: آراء عن المستوى الخلقي لأمة ناشئة". وألف بمفرده كتاب "الأخلاق وعلم النفس" الذي عربه عبد الرحمن علي طه. للمزيد عن قريقث مؤسس معهد التربية ببخت الرضا في عام 1934م يمكن الاطلاع على كتاب محمد عمر بشير المعنون 'Educational Development in the Sudan (1898-1956)', Clarendon Press, Oxford, 1969. 2. يتناول هذا العمل للكاتب المسرحي الذي نال جائزة نوبل للآداب عام 1932م الفرق بين معاملة الأغنياء والفقراء أمام القانون. 3. حركة "إعادة التسلح الأخلاقي Moral Re-Armament movement " هي حركة مسيحية تجديدية دولية كانت تنادي بتوجه أكثر "أخلاقية" في السياسية والعلاقات الإنسانية أسسها المبشر البروتستانتي الأمريكي فرانك بوخمان عام 1938م. للمزيد عن هذه الحركة يمكن الاطلاع على الرابط https://www.britannica.com/event/Moral-Re-Armament 4. جون اتكنز (John Atkins) ناقد وشاعر ومسرحي بريطاني تخرج في جامعة بريستول عام 1938م، وعمل بعد الحرب العالمية الثانية في خارج بريطانيا، وألف كتبا نقدية عن عدد من مشاهير الكتاب والروائيين. عمل بالتدريس في السودان بين عامي 1951 -1955م و1958 - 1968م. للمزيد عن الرجل يمكن قراءة نعيه في صحيفة الجارديان البريطانية https://www.theguardian.com/books/2009/may/18/obituary-john-atkins 5. لست متأكدا من أن إذاعة أم درمان كانت تُسمع في خارج السودان في ذلك الوقت؟