-1- فى تونس اختارت الجماهير لـ(ثورتها)، التى تُعرف بثورة الحرية والكرامة – وأيضاً - بـ((ثورة الياسمين))، الشعارات التالية :(شُغل ..حرية ..كرامة وطنية)، ومازلنا نذكر – مع العالم - واقعة قصّة الشاب محمد البوعزيزى، الذى أضرم النار فى جسده، فى 17 ديسمبر 2010، احتجاجاً على صفعه، من قبل شرطة نظام زين العابدين بن على، فكانت الشرارة التى فجّرت غضب الجماهير، واحتجاجاتها الشهيرة، حتّى هرب الدكتاتور وركب "التونسية"، لتستضيفه المملكة السعودية، وما ذلك، بغريبٍ عليها، فقد سبقه من قبل - فى الاستضافة - دكتاتور يوغندا، الجنرال عيدى أمين، ويبدو أنّ السعودية، مازالت تتهيّأ لاستقبال حُكّام مخلوعين قُدامى أو جُدد !. ويبقى أنّ التاريخ الحديث سيحفظ لتونس، ولشعبها العظيم، أنّ ثورته، انتقلت "عربياً"، رُغم عدم اكتمال ربيعها المُنتظر، فامتدّ فوح "زهرة ياسمينها" إلى مصر، وليبيا، واليمن وسوريا، لتشعل انتفاضات، لم تُستكمل - للأسف - مقاصدها وشروط تحوّلها إلى ثورات، وهذا حديث يطول فى علم الثورات !.
-2- فى مصر جاءت ثورة 25 يناير2011، بعد مخاضٍ طويل، ورفع الثوار شعار: (عيش ..حرية..عدالة اجتماعية)، وما زال السؤال المشروع يتردّد : هل فشلت الثورة المصرية أم لا ؟!. والإجابة لا يُمكن اختزالها – ببساطة، وكسل ذهنى - فى (لا) أو (نعم) !. فالثورات ليست نزهة قصيرة، ونجاحها وفشلها، لا يُمكن الحكم عليه، بـ(لا) النافية التى تنفى وقوع حدثٍ ما، أو (نعم) والتى هى حرف جواب للمستفهم، اثباتاً أو نفياً، أو كما يقولون!.. فالتاريخ - وعلم التاريخ الاجتماعى تحديداً - وعلم الثورات بصورة أكثر دقّة، يُعلّموننا - وفى السودان، على وجه الخصوص - أنّ النجاح فى اسقاط النظام القديم "الدكتاتورية"، ودك حصونه الأمنية، ليس هو نهاية المطاف، بل، هو المحطة الأولى فى اِحداث التغيير، وتأتى - بعد ذلك - عملية شاقّة فى مسيرة استكمال مشوار ومشروع الثورة، لتحقيق أهدافها وشعاراتها، كمهمة أصعب، وأكثر تعقيد، تحتاج لطاقات جديدة، وتكتيكات جديدة، ورؤى متكاملة، وفرز سياسى وطبقى واجتماعى، لا بُدّ منه، لتحديد الوجهة، وللإجابة على السؤال التاريخى الهام، ما العمل؟!.
-3- يبقى المهم والأهم فى سؤال الثورة المصرية، أنّ البعض مازالوا يصرّون على الخلط المُتعمّد بين الثورة التى كان الشباب وقودها، ودخول الأخوان المسلمين الخط، بركوب الموجة، ومحاولة سرقة الثورة، والسطو "المُسلّح" على مُكتسباتها، لمصلحة برنامجهم، وخدمتهم لمصالح خارجية ظلّت تدعمهم – بالمال والإِعلام - لتحقيق مشروع استعباد الشعوب، وخنق ارادتها الغلّابة، فى التحرّر الشامل والكامل، وبين الشباب الذين ضحّوا بالغالى والنفيس، وأبدوا جسارةً فى مواجهة دولة القهر والظلم ومشروع (التوريث) "غير المبارك"، ليبقى مشروع الثورة المصرية فى محطّة انتظارالاستكمال، ولو بعد حين!.
-4- تجربة الثورة المصرية، تجعلنا نطلب من جنرالات الجيوش والقوى الطبقية والسياسية المتحالفة معهم - فى السودان وبلدان المنطقة - قراءة تاريخ الثورات، لنذكّرهم - أجمعين - بحُلم التحرّر الذى تؤمن به الشعوب، وننبِّه لخطورة السير فى طريق الاستجابة لضغوط وأوهام الحلول الفطيرة التى من بينها فرض الاستدانة من النظام المصرفى العالمى القديم، وقبول وصفة / روشتّة صندوق النقد الدولى المحفوظة، والتى جرّبتها بعض الحكومات، فلم تُنقذها – فى نهاية المطاف – من غضب الشعوب، وهى وصفات وعقاقير تسكينية، فاقدة الجدوى العلاجية، ومُنتهية الصلاحية، ولذلك، ترفضها الشعوب المُحبّة للحرية والانعتاق، فهل يعى ساستنا دروس التاريخ!.
-5- فى السودان جاءت ثورة ديسمبر 2018، بشعار: (حريّة..سلام ..عدالة) وهى ثورة مازالت شابّة، وفى طور التكوين، وتحقيقها - بالكامل - مازال مرهوناً بشرط استكمال مهام وواجبات عملية (التحوّل الديمقراطى)، أو بعبارة أُخرى (الانتقال الديمقراطى)، ومطلوباته الأساسية فى تحقيق شعارات الثورة، فى الطريق الطويل والشاق، لاستكمال الثورة السودانية، ولكن، وبرغم العراقيل الموضوعة، داخلياً ومن الخارج الإقليمى والعالمى، ستبقى جذوة النضال مُتّقدة، ونعلم أنّ ارادة الشعب هى الغالبة، وإن كره المتآمرون، والمنظّرون!.
-6- ليس غريباً لجوء الأنظمة الدكتاتورية للعبة تعديل الدساتير، لتمديد عُمر الأنظمة المستبدّة، فقد جرّبها المخلوع مُبارك عربياً، وجرّبتها دول إفريقية - منها على سبيل المثال، لا الحصر - فى بوروندى بيير نكورونزيزا ، وفى يوغندا يورى موسيفينى، وحتّى فى رواندا بول كاغامى، وها نحن نشهد تعديل الوثيقة الدستورية فى السودان، والانقلاب الكامل على مبادئها المعروفة ، حتّى فقدت ملامحها الأساسية، من تلك التعديلات الجوهرية، بغرض فرض تحالف العسكر وقادة الحركات المسلّحة وبعض مكوّنات قوى الحرية والتغيير!.
-7- الدرس المستفاد من تجارب الشعوب والثورات، وتجربة شعبنا العظيم، هو أنّ الثورة فعلٌ تراكمى، وأنّ الثورات، ليست بأىّ حالٍ من الاحوال، وليدة الصدفة، بل فعل عميق المحتوى، يقوم به الشعب، ويعنى به القطع والتحرُّر الكامل من النمط الاقتصادى الاجتماعى القائم والسائد، وتاسيس نمط جديد على أنقاضه، ومن أهمّ شروط هذا التغيير وجود حزب ثورى، يبقى - على الدوام - فى قلب عملية التغيير وتجذيره، يدفع بالفعل الثورى للأمام، ويقود التغيير، لانجاز (الثورة الديمقراطية) والتى هى ليست – بالضرورة، وبأىّ حالٍ من الأحوال - (الثورة الاشتراكية)، ولهذا، ولأسباب تاريخية أُخرى، فإنّ الكثيرين من علماء الثورات، يميلون إلى استخدام مُصطلح (انتفاضة) على الثورات العربية المذكورة، باعتبار أنّ (الثورة) هى فعل أشمل وأكبر وأعمق لتغيير الواقع، فيما تكون (الانتفاضة) فعل أصغر وأقلّ - كمّاً ونوعاً - لكونها، تأتى فى شكل هبّات جماهيرية، أو تمرُّد شعبى على الدولة القائمة، ولكن، يبقى فى أجندة الشعوب المقهورة، لا بُدّ من صنعاء الثورة، عبر تراكم نضالات الانتفاضة، و"إن طال السفر"، وهى مقولة أصبحت مثلاً فى تحدّى الصعاب، كتبها الشاعر اليمنى الكبير، عبد العزيز، يقول فيها " صنعاء وإن أغفت على أحزانها حيناً.. وطال بها التبلُّد والخدر.. سيثور فى وجه الظلام صباحها، حتماً.. ويغسل جدبها يوماً مطر" .. ولهذا يبقى الامل واليقين، كبيراً فى انجاز الشعوب (ثوراتها)، ونزول أمطارها، ليغسل جدب الدكتاتوريّات، والأنظمة الشمولية الباطشة، وما ذلك، على شعبنا والشعوب العربية والافريقية ببعيد!. تبقّى أن نقول إنّ انتفاضات الربيع العربى والشتاء السودانى، ومشروعات الثورات الإفريقية، لن تضيع هدراً، وستستكمل الشعوب ثوراتها، إذ لا بُدّ من صنعاء الثورة، وإن طال سفر الانتفاضات!.
جرس أخير: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. فلا بُدّ أن يستجيب القدر .. ولا بُدّ لليل أن ينجلى .. ولا بُدّ للقيد أن ينكسر" (( أبو القاسم الشابّى ))