النهاية (1/ 2): موت الجسد السياسي وتفكك الدولة 

 


 

 

لا أكاد أحصي عدد المرات التي أكدت فيها بأن الفصل الأول من الثورة ، والذي بدأ بتوقيع وثيقة الشراكة التي كرسَّت سلطة عسكر لجنة البشير الأمنية، وفتحت الباب لكل مرتزق مسلح وغير مسلح، قد أنتهى بانقلابهم المتوقع.

وأكدت بأن ما نشهده اليوم من فظائع إجرام قيادته، ومن شايعهم، من استباحة لدم وعروض من نهضوا لبناء وطنٍ أعمل فيه المتأسلمون الكذبة اللصوص الفاسدين القتلة ، هدماً وتفكيكاً وتشويها، واسترخصوه في عين كل قزم طامع، في الداخل والخارج، إنما هو إعلان واضح وصريح بنهاية مرحلة في تاريخ السودان القديم، وبداية تأسيس جديد للدولة السودانية الحديثة.


(2)

ولو أردنا توصيفاً أكثر دقةً ومصداقية لقلنا بأن الصيغة التي نتجت – وكان لا بد أن تنتج بسبب اختلال ميزان القوة بين الشركاء – عن الوثيقة التي حكمت العلاقة بين المكون العسكري والحكومة المدنية وحاضنتها السياسية، لم يكن لها أن تحقق استقراراً سياسياً يؤدي إلى النتيجة المرجوة بالانتقال الديمقراطي، رغم تأكيدات رئيس الحكومة حمدوك المتكررة والمتفائلة بسلاسة "العبور".

- فعدم الاستيفاء الدستوري لمؤسسات الدولة: التشريعية والتنفيذية، من برلمان، ومحكمة دستورية،

- وفي ظل وجود خمسة جيوش داخل الدولة لا تخضع جميعا لقيادة، أو قانون، أو حتى لمصادر تمويل وتسليح موحدة.

- وفي ظل تداخل وتقاطع حدود مهام سلطات الدولة السيادية والتنفيذية الذي أدى إلى ما يشبه الفوضى والعشوائية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبرى. كلها كانت عوامل لا يمكن أن تقود إلى أي استقرار سياسي. بل هي من تمظهرات وعوامل وعلامات موت الجسد السياسي للدولة.

وليس بعد موت الجسد السياسي سوى تفكك الدولة.


(3)

نبهنا إلى هذا، وحذرنا من نتائجه، إلا أن النخب السياسية كانت في شغل عن هذا الهراء، منهمكة في معاركها الصغيرة ضد بعضها من أجل السلطة !.

ولقد نبهت كثيراً، – وفعل كثيرون غيري – بأن جهدنا يجب أن ينصرف الآن، وقبل أن يخر عرش  هذا المعبد المتهالك على رؤوس سدنته، بأن نسارع للاتفاق على الأسس التي سينهض عليها صرح "نظام" بديل بذل شبابه أرواحهم بشجاعة ونبل من أجله. وبالفعل سلك بعض الأفاضل هذا الطريق، وطرحوا أفكاراً خلاقة وقيِّمة، وتقدموا بمبادرات تستحق التفكير والنقاش والتحاور حولها (1).

إلا أن نخبنا وأحزابنا لم ترتقِ رؤيتهم لذرى هذا الحلم النبيل. وهاهم – وكأن بهم عاهة عقلية – يرقصون على إيقاع لحن نشاز قديم، وتأتي رقصتهم "مشاترة"، ليصدق في حقهم القول السوداني بأنهم "يرقصون خارج الحلبة".

يتحدثون عن مبادرات لا تدري أي شيطان يوحيها إليهم. وهم يرون حلف أعداء الوطن تتفكك أوصال عراه صباح كل يوم، ما يؤذن بقرب قيامتهم الصغرى !.


(4)

- يرون البرهان وحميدتي ما أن تهبط طائرة أحدهما، حتى تقلع مرة أخرى في رحلات مكوكية متوترة، بحثاً عن أي حليف من الخارج، أو مخرجٍ يأتي من أي عاصمة بذلت لهم الوعود من قبل، دون جدوى.

حتى أن إسرائيل (تصور إسرائيل التي غافلوا شعبهم وطبَّعوا معها بليل، وفتحوا لرئيس استخباراتها أبواب مقراتهم العسكرية والأمنية على مصراعيها !) ضربت بكرامتهم عرض الحائط ، وتجاهلت دعوتهم لـ"قمة النقب" التي دعت إليها مصر والأردن والمغرب والإمارات والبحرين !!.

- يرون "الحركات" التي باعت برخص الذهب والوظائف "العاريَّة" دم وكرامة رجال ونساء وأطفال أهلهم وأحرقت قراهم، وهجَّرتهم من قراهم وشردتهم، قبل أن يبيعوا دم الثوار الذي فتح لهم باب المطار والسلطة والتوظيف، "ليقدلوا" في شوارع الخرطوم بحرسهم وأسلحتهم وعرباتهم رباعية الدفع.

يرونهم بعد أن كانوا ظهيراً يُحَرِّض "رب الفور" وحميدتي (الذي يعرفونه كجوع بطونهم) للانقلاب، وهم يعقدون اليوم المؤتمرات الصحفية، ينشرون فيها غسيلهم على حبل منصات الإعلام المسموع والمرئي والمقروء، فيصف فريق في التجمع الثوري جبريل إبراهيم بأنه: "تاجر حرب لا يهمه غير الصرف على المليشيات. وأن حديث جبريل عن (انفتاح أبواب السماء) يشير الى عقلية الإسلامويين" (1). وترد العدل والمساواة التي تم وصف رئيسها بـ"تاجر الحرب" بأن مؤتمر حلفاءه "لم يأت بجديد" !!!.(2).

ولا يكاد تناقض المواقف يسبب إزعاجاً أو يثير قلق قيادة الحركة الشعبية وهي ترى قائدها عقار في مجلس سيادة الانقلاب، بينما عرمان في صفوف مسيرات معارضيه !!!.

- يرون تمدد حميدتي وقوات "نهبه"  السريع – وفي سعيها لنهب مناجم ذهب شرق السودان، بعد أن جففت جبل عامر – تصطدم بحائط قوات شيبة ضرار، الأمر الذي ينذر باشتعال فتيل حرب أخرى، إذ ربما تغري محمد نور أو الحلو بالتدخل لصالح ضرار، وقد تغري غيرهما أيضاً بالتدخل. فـ"النهب السريع" لم يوفر صديقاً لم يستعديه، سواء كان في الجيش، أو في الحركات المسلحة، أو بين الأحزاب، دع عنك الشارع بمختلف طبقاته وطوائفه وشرائحه العمرية.


(5)

- يرون في الزاوية الأخرى غلاء في المعيشة، وصل إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، وانفلات أمني لم يشهد بلد في العالم مثيلاً له، وصل ذروته أن صار الواحد لا يفرق بين رجل الأمن بزيَّه الرسمي، وبين المجرم الذي ينهب الناس نهاراً جهاراً ويقتحم المنازل بسلاحه يغتصب الحرائر تحت الكباري وفي المقار الحكومة. ويرون الغضب يقدح ناراً في عيون الناس، حتى بين الذين لا يهمهم في شيء من يحكم، ومن الذي يعارض.

- ومقابل كل أولئك، هم يرون جحافل فرسان شبابهم الشجعان يثيرون الرعب في قلوب التتار القتلة حملة السلاح، حتى صار هؤلاء ينافسون في التتريس وإغلاق الشوارع لجان مقاومة الأحياء، بل ويتفوقون عليها، ويغلقون الشوارع ويترسونها بالصبات الإسمنتية، والكونتينرات الفولاذية، وعربات القطارات.


(6)

- يرون وطناً يتفكك ، ويرون القوى التي تعمل على تفكيكه تتضعضع، ويرون شبابه يزودون عنه بأرواحهم.

فانظر ماذا تفعل نخب أحزابه الكبيرة، والأقدم في ممارسة العمل السياسي منذ ما قبل الإستقلال:

- حزب الأمة يتحدث بلسانين، فرئيسه يدعو إلى الجلوس مع الانقلابيين كشركاء بعد الانقلاب، ولجنة الحزب مع شعار لا للجنة البشير الأمنية، ولا شراكة معها. فالحزب – وفي الآن نفسه هو – مع العسكر ومع لجان المقاومة معاً !.

- الحزب الشيوعي يركب صهوة الزخم الثوري الشبابي لينفرد بتنفيذ أجندة حزبه الأيديولوجية، ويتحدث عن الديمقراطية، ويثير الربكة بين الجميع (3).

- "الاتحادي" الذي لم يستطع توحيد كيانات حزبه المتفرقة، وبعضها مع العسكر وبعضها الآخر مع الثورة، لا تدري كيف يستطيع حزب فشل في تحقيق وحدته الداخلية توحيد السودان !.

- بل تجد حتى حزب شبابي حديث مثل حزب المؤتمر السوداني أصابته عدوى لعنة "الهلامية وتناقض المواقف"، وهو الذي كان مؤملاً منه أن يكون في مقدمة الشارع الشبابي، وأن يحتل الحزب موقع الوسط الشاغر الذي كان يشغله الوطني الاتحادي، وأخلاه زعيمه إسماعيل الأزهري بتحالفه الطائفي، حيث تم قبره في جوف الميرغنية.


(7)

- ثم يرتفع بين النخب صوت الإسلاموي عبد الوهاب الأفندي بضرورة عودة العقول السودانية من إجازتها المفتوحة. وهو يعني عقول الصفوة حصراً، وكأنه يجهل بأن هذه الصفوة زادت الأحزاب تلويث عقولها التي تولى بدءاً نظام التعليم ومناهجه خطوات اغترابها الأولى، لتأت عقود الإسلامويون الثلاثة وتقضي على ما تبقى في هذا العقل من وعي وحكمة وذكاء.

ولأن الأفندي من هذه الصفوة، يضرب معها في متاهة الاغتراب عن الواقع، ولا يستطيع أن يرى أبعد من رؤيتها الضيقة، فإنه يدعوها إلى التوحد ويراهن عليها في حل المشكل السوداني، وقد نعى كما قال:" على ثلّة من الأصدقاء الأعزاء إصدارهم بياناً يفوّضون فيه ما "تسمّى" (المزدوجين من عندي) لجان المقاومة بتمثيلهم، بل وقيادتهم كما جاء في البيان" (4). والرهان عنده مناط بمن يسميهم "المثقفين". لأن: " مكان المثقف هو في القيادة، وليس التبعية لأي جهة، فالخروج إلى الشارع والمشي فيه وإغلاقه بالطوب بل حتى حمل السلاح وخوض الحروب لا معنى له بدون خطة وفهم، وسرديات توحد الناس"(5).

وتسأله: وكيف يضع هؤلاء الفاهمون هذه الخطط والسرديات التي توحِد الناس، وهم أنفسهم أيدي سبأ مقتتلون لفرض سردياتهم الأيديولوجية؟ فيجيبك أن ذلك يتم في: "مجالس التشاور وتبادل الرأي وخلوات التدبّر والتفكّر والتأمل في تجارب الشعوب" (6).


(8)

يقول هذا، وكأنه لم يتعظ من تجربته الشخصية الفاشلة في "المؤتمر الذي عقدناه في الدوحة في فبراير/ شباط 2009" (7) ودعا إليه جماعة من الصفوة (النقاوة). ولم يتعلم من تلك التجربة أن مصائر الشعوب وبناء مستقبلها لا يتم في غرف مغلقة وجلسات صوفية سرية بين البطاركة، وإنما في الشارع حيث نبض الناس الحي، بالتواضع، والشراكة، والشفافية.

ثم من قال له أن هؤلاء الشباب في لجان المقاومة تنقصهم السردية، وأن حراكهم السياسي خلواً من أي رؤية فكرية ؟.

أللهم إلا إذا كانت السردية في فهمه الصفوي، عبارة عن منظومة "أيديولوجية" كليانية شاملة تملك الجواب القاطع على كل سؤال.

أما إذا كانت السردية "سياسية" كما يطرحها السبتمبريون، فإنها تتلخص عندهم في دولة المواطنة المدنية الحديثة، التي تحقق المطلوبات الثلاث: حرية، سلام وعدالة.

إنها سردية سياسية بسيطة يفهمها أي إنسان، ولا تحتاج إلى صفوة تعتكف بحثاً عنها لاكتشافها والعثور عليها ومن ثم التبشير بها. ولكن القلوب التي في الصدور تعمى عنها، لأن العيون "منشنة" بتركيز على السلطة والنفوذ.


(9)

خلاصة القول:

الأزمة أعمق من الإطاحة بنظام ما بعد الانقلاب، فهذا النظام ميت سريرياً منذ أن كان جنين في رحم الفترة الانتقالية قبل ثلاث سنوات، ولكن قادته يعيشون حالة إنكار هستيرية,

المشكلة الحقيقية في الواقع، أكبر من البرهان ولجنة البشير الأمنية، ومن حميدتي ومليشيا الدعم السريع، ومن الحركات المشاركة في الانقلاب. بل هي أكبر حتى من السرطان الكيزاني، والتنظيم الإسلاموي الشيطاني الأخطبوطي. رغم أن كل أولئك وهؤلاء هم العقبة الكأداء في حل المشكلة الأكبر والمهمة الأصعب: تأسيس الدولة السودانية الثانية الحديثة.

تبدو المشكلة أعقد، ولكن إذا تقدمنا خطوة في تحليل عقدتها سنجد أمامنا مسارين للإجابة على سؤال:

- كيف نتجاوز هذه العقبة الكأداء بأقل الخسائر؟.

- وكيف نقيم صرح الدولة الحديثة البديلة ؟.

ونواصل بإذن الله .....


هوامش

(1) يذكر منها "دعوة للتأمل حول كيف يُحكَم السودان ديمقراطياَ" لبروف مهدي أمين التوم بتاريخ21/ 2/ 2022. وسبقتها مبادرة بروف فيصل عبد الرحمن علي طه حول إعادة هيكلة الدولة بمقترح "الولايات المتحدة السودانية" وغيرهما.

(2) موقع صحيفة سودانايل، نقلاً عن "الجريدة"، بتاريخ 29 مارس 2022.

(3) مصدر سابق، بتاريخ 29 مارس 2022.

(4) راجع مقال زين العابدين صالح عبد الرحمن: " الضرب تحت الحزام بين قحت والشيوعي"، موقع صحيفة سودانايل، بتاريخ 29 يناير، 2022 ". وأيضاً مقاله "كلمة الميدان والمغالطات التاريخية"، بموقع صحيفة سودانايل، بتاريخ: 13 مارس, 2022.

(5) د. عبد الوهاب الأفندي: " في أمر العودة من إجازة العقول السودانية المفتوحة"، موقع صحيفة سودانايل، بتاريخ، 27 مارس, 2022.

(6) الأفندي، سابق

(7) سابق

(8) نفسه، سابق



izzeddin9@gmail.com

 

آراء