مع السفير أحمد مختار في التخلص من الاستعمار
د. خالد محمد فرح
17 April, 2022
17 April, 2022
أهدتني الاخت والزميلة الفاضلة الدكتورة نوال أحمد مختار ، الوزيرة المفوّضة بوزارة الخارجية ، كتابين صدرا تحت إشرافها مؤخرا. أما الكتاب الاول ، فهو مجموعة مقالات صحفية تناولت الهم السياسي والوطني ، كتبها ونشرها والدها الراحل السفير أحمد مختار ١٩١٥ - ٢٠٠٢م عليه رحمة الله ورضوانه ، أحد مؤسسي وزارة الخارجية السودانية ، إذ أنه قد كان من ضمن رعيلها الأول من السفراء . وكان المؤلف قد كتب تلك السلسلة من المقالات ونشرها في بعض الصحف المحلية في الفترة من عام ١٩٥٠ وحتى عام ١٩٥٢م ، بينما عمدت كريمته الدكتورة نوال الى جمعها في صعيد واحد ، وتنقيحها ، واعادة تحريرها ، ثم نشرها بين دفتي الكتاب المذكور ، الذي جاء تحت عنوان؛ " خمسون عاماً في قبضة الاستعمار ".
وأما الكتاب الثاني ، فهو من تأليف الدكتورة نوال نفسها ، وعنوانه هو: رحلتي مع الدبلوماسية الجماعية: خواطر من وحي زهرة اللوتس. وتعكس المؤلفة من خلال هذا الكتاب ، ملامح من تجربتها كدبلوماسية عاملة ببعثة السودان الدائمة لدى الأمم المتحدة بنيو يورك خلال الفترة ما بين ٢٠١٧ و ٢٠٢٠م.
صدر كتاب: في قبضة الاستعمار الذي نحن بصدده في هذه الكلمة ، عن دار عزّة للنشر والتوزيع بالخرطوم في عام ٢٠٢١م في ٢٣٣ صفحة من القطع الصغير بل الاقرب الى المتوسط ، وقد احتوى بعد الاهداء والتقديم ، على اثنتين وستين مقالة متفاوتة في الطول ، سبق للمؤلف ان نشرها منجّمةً بصحيفة " الهدف " التي كان يصدرها هو نفسه بين اواخر الاربعينيات واوائل الخمسينيات من القرن العشرين.
وقد كان الراحل السفير احمد مختار قد شرع أيضاً بالفعل في نشر كتاب بعنوان قريب جدا من هذا هو: " خمسون عاماً في قبضة الاستعمار " ، وكان ذلك في حوالي أوائل عام ١٩٤٩م ، ولكن سلطات الادارة الاستعمارية البريطانية التي كانت تجثم على صدر البلاد آنئذٍ ، صادرته وحالت دون صدوره. فهاهي ذي كريمته البارة الدكتورة نوال ، تشرف بكل همة واقتدار على اصدار ذلك الكتاب ، بعد ان ولى المستعمر الدخيل الى غير رجعة.
يوقفنا تقديم الكتاب على أن السفير أحمد مختار أحمد مصطفى قد ولد في عام ١٩١٥ بقرية " القدواب " التي تقع على بعد نحو اربعة كيلومترات شمال مدينة بربر بولاية نهر النيل، وانه نشأ وترعرع فيها ، ودرس بها الخلوة ، ثم درس تعليمه الاولي والاوسط ببربر ، ومنها انتقل الى الخرطوم لدراسة المرحلة الثانوية بكلية غردون التذكارية. وشهد في عامه الاول بتلك الكلية ، اضراب طلابها الشهير في عام ١٩٣١م احتجاجا على قرار الادارة الاستعمارية البريطانية القاضي بتخفيض مرتبات الموظفين من خريجيها. وقد كان نصيبه الفصل من الكلية عقاباً له على دوره في تلك الاحداث مع عدد من زملائه الطلاب.
اشتغل الاستاذ احمد مختار في مهنة التدريس بالمدارس المتوسطة اثر تخرجه من كلية غردون ، ولكنه هاجر في اوائل الاربعينيات لكي يواصل تعليمه الجامعي بمصر بمعهد التربية العالي بالقاهرة.
وعلى اثر عودته من القاهرة ، انخرط الاستاذ احمد مختار في العمل في مجال الصحافة ناشرا وكاتباً ، الى جانب انخراطه في مختلف مجالات العمل الوطني المناهض للاستعمار .
وبعد نيل السودان لاستقلاله في مطلع عام ١٩٥٦م ، تم تعيين الاستاذ احمد مختار ضمن اول كوكبة من السفراء بوزارة الخارجية الوليدة آنئذٍ ، حيث ترأس عددا من الادارات برئاسة الوزارة بالخرطوم ، كما تولى منصب سفير السودان بمصر وغير مقيم بكل من تونس والجزائر والمغرب والاردن ، وكذلك سفيرا للسودان بكل من اليونان ويوغسلافيا.
وختم السفير احمد مختار حياته المهنية بوزارة الخارجية في عام ١٩٧٠ بتعيينه نائبا لوكيل الوزارة. وعلى اثر تقاعده للمعاش في عام ١٩٧٢ ، انتدب للعمل بوزارة خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة حديثة النشوء آنئذٍ ، حيث أسهم في تاسيس السلك الدبلوماسي ووزارة الخارجية بها.
تناولت مقالات هذا الكتاب استعراضا وتحليلا وتعليقاً وتعقيباً على الوقائع والاحداث التي شهدها السودان في ظل عهد الحكم الاستعماري الثنائي البريطاني المصري ، وخصوصا العقدين الممتدين ما بين ابرام اتفاقية ١٩٣٦ بين بريطانيا ومصر بشان السودان ، وحتى استقلال السودان في عام ١٩٥٦ ، مرورا بقيام مؤتمر الخريجين واحتدام اوار الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار البريطاني ، وقيام الاحزاب السياسية المختلفة بميولها وسياساتها وارتباطاتها المعروفة ، ومناورات الادارة الاستعمارية شاملة تاسيسها للجمعية التشريعية والمجلس الاستشاري لشمال السودان ، وتنظيم مؤتمر جوبا في عام ١٩٤٧ ، انتهاء بتنظيم اول انتخابات وطنية في عام ١٩٥٣ ايذانا ببداية الفترة الانتقالية التي اعقبها الاستقلال. وبالطبع فان جميع تلك الوقائع والاحداث قد ظلت موضع عناية واهتمام ملحوظين من قبل مختلف السياسيين المعاصرين لتلك الحقبة المفصلية والمهمة من تاريخ السودان المعاصر ، وغيرهم من سائر المثقفين والباحثين والاكاديميين الذين قتلوها بحثاً في مذكراتهم ومؤلفاتهم مثل: خضر حمد وعبد الرحمن علي طه ومحمد احمد محجوب وامين التوم وعبد الماجد ابو حسبو وبشير محمد سعيد ومكي عباس ومدثر عبد الرحيم ومحمد عمر بشير ومحمد سعيد القدّال وفدوى عبد الرحمن علي طه وغيرهم. بيد ان هذا الكتاب ، يسلط اضواء كاشفة حقاً على تفاصيل وزوايا مهملة وغامضة ، لم تتوغل فيها المؤلفات آنفة الذكر في تقديرنا ، ومن هنا تاتي اهميته ، ويأتي تفرّده.
تميزت مقالات السفير احمد مختار كما سوف يلاحظ القارىء ، بالصراحة والجرأة الفائقة ، والروح الوطنية الصادقة والمتجردة ، والمباشَرة وعدم الميل الى المصانعة والمداهنة والتملق ، خاصة اذا ما علمنا مدى الشراسة والشدة التي كان ينتهجها المستعمرون مع الاصوات والاقلام المناوئة لهم من الوطنيين السودانيين في تلك الفترة. وبحسبنا ان نشير في هذا المقام ، الى ان الاستاذ احمد مختار هو مطلق العبارة المجلجلة التي سارت بها الركبان في عهدها: " أما آن لهذا الفارس أن يترجّل ؟ " ، وقد كان يقصد بها تمثال اللورد هربرت كتشنر ، قائد قوات الغزو الاستعماري للسودان في عام ١٨٩٨م ، وأول حاكم عام بريطاني للبلاد. وكان قد نصب له تمثال وهو راكب على صهوة حصان في احد شوارع الخرطوم الرئيسية. واظن ترجيحا ان يكون عنوان ذلك المقال الحارق ، هو القطرة التي افاضت الكأس بالنسبة للادارة الاستعمارية ، فامرت بمنع صدور كتابه المشار اليه آنفا.
مهما يكن من أمر في الختام ، فانني وانا اتصفح مقالات هذا الكتاب الممتع والمفيد ، والتي تجاوز بعضها السبعين عاماً منذ أن كُتبت ، كنت اتوقف مليّاً عند فقرات بعينها ، وأردد في خاطري تلك العبارة التراثية الخالدة متحسّراً على حال بلادي وعلى حال شعبها : ما أشبه الليلة بالبارحة !!.
ومن ذلك على سبيل المثال ، إهداء المؤلف لكتابه القديم " خمسون عاما في قبضة الاستعمار " ، والذي أثبتته ابنته الدكتورة نوال في هذا الكتاب الحالي في ثوبه الجديد ، وقد جاء في ذلك الاهداء ما يلي:
" إلى أبناء وبنات هذا الوطن: لا يُجدي العمل الفردي ، ولا يجدي عمل الجماعات المتناثرة ، بل الأمل كل الأمل في عمل واسع النطاق بعيد الأثر ،، تتجاوب أصداؤه في العالم بأسره ، وفي هذه الساعات الحاسمة ، يجب أن نعلّق خلافاتنا إلى أن يهلّ فجر الحرية ، لأنّ الحرية لا تُكسب بالخلاف والمشاكسة ".
khaldoon90@hotmail.com
////////////////////////
وأما الكتاب الثاني ، فهو من تأليف الدكتورة نوال نفسها ، وعنوانه هو: رحلتي مع الدبلوماسية الجماعية: خواطر من وحي زهرة اللوتس. وتعكس المؤلفة من خلال هذا الكتاب ، ملامح من تجربتها كدبلوماسية عاملة ببعثة السودان الدائمة لدى الأمم المتحدة بنيو يورك خلال الفترة ما بين ٢٠١٧ و ٢٠٢٠م.
صدر كتاب: في قبضة الاستعمار الذي نحن بصدده في هذه الكلمة ، عن دار عزّة للنشر والتوزيع بالخرطوم في عام ٢٠٢١م في ٢٣٣ صفحة من القطع الصغير بل الاقرب الى المتوسط ، وقد احتوى بعد الاهداء والتقديم ، على اثنتين وستين مقالة متفاوتة في الطول ، سبق للمؤلف ان نشرها منجّمةً بصحيفة " الهدف " التي كان يصدرها هو نفسه بين اواخر الاربعينيات واوائل الخمسينيات من القرن العشرين.
وقد كان الراحل السفير احمد مختار قد شرع أيضاً بالفعل في نشر كتاب بعنوان قريب جدا من هذا هو: " خمسون عاماً في قبضة الاستعمار " ، وكان ذلك في حوالي أوائل عام ١٩٤٩م ، ولكن سلطات الادارة الاستعمارية البريطانية التي كانت تجثم على صدر البلاد آنئذٍ ، صادرته وحالت دون صدوره. فهاهي ذي كريمته البارة الدكتورة نوال ، تشرف بكل همة واقتدار على اصدار ذلك الكتاب ، بعد ان ولى المستعمر الدخيل الى غير رجعة.
يوقفنا تقديم الكتاب على أن السفير أحمد مختار أحمد مصطفى قد ولد في عام ١٩١٥ بقرية " القدواب " التي تقع على بعد نحو اربعة كيلومترات شمال مدينة بربر بولاية نهر النيل، وانه نشأ وترعرع فيها ، ودرس بها الخلوة ، ثم درس تعليمه الاولي والاوسط ببربر ، ومنها انتقل الى الخرطوم لدراسة المرحلة الثانوية بكلية غردون التذكارية. وشهد في عامه الاول بتلك الكلية ، اضراب طلابها الشهير في عام ١٩٣١م احتجاجا على قرار الادارة الاستعمارية البريطانية القاضي بتخفيض مرتبات الموظفين من خريجيها. وقد كان نصيبه الفصل من الكلية عقاباً له على دوره في تلك الاحداث مع عدد من زملائه الطلاب.
اشتغل الاستاذ احمد مختار في مهنة التدريس بالمدارس المتوسطة اثر تخرجه من كلية غردون ، ولكنه هاجر في اوائل الاربعينيات لكي يواصل تعليمه الجامعي بمصر بمعهد التربية العالي بالقاهرة.
وعلى اثر عودته من القاهرة ، انخرط الاستاذ احمد مختار في العمل في مجال الصحافة ناشرا وكاتباً ، الى جانب انخراطه في مختلف مجالات العمل الوطني المناهض للاستعمار .
وبعد نيل السودان لاستقلاله في مطلع عام ١٩٥٦م ، تم تعيين الاستاذ احمد مختار ضمن اول كوكبة من السفراء بوزارة الخارجية الوليدة آنئذٍ ، حيث ترأس عددا من الادارات برئاسة الوزارة بالخرطوم ، كما تولى منصب سفير السودان بمصر وغير مقيم بكل من تونس والجزائر والمغرب والاردن ، وكذلك سفيرا للسودان بكل من اليونان ويوغسلافيا.
وختم السفير احمد مختار حياته المهنية بوزارة الخارجية في عام ١٩٧٠ بتعيينه نائبا لوكيل الوزارة. وعلى اثر تقاعده للمعاش في عام ١٩٧٢ ، انتدب للعمل بوزارة خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة حديثة النشوء آنئذٍ ، حيث أسهم في تاسيس السلك الدبلوماسي ووزارة الخارجية بها.
تناولت مقالات هذا الكتاب استعراضا وتحليلا وتعليقاً وتعقيباً على الوقائع والاحداث التي شهدها السودان في ظل عهد الحكم الاستعماري الثنائي البريطاني المصري ، وخصوصا العقدين الممتدين ما بين ابرام اتفاقية ١٩٣٦ بين بريطانيا ومصر بشان السودان ، وحتى استقلال السودان في عام ١٩٥٦ ، مرورا بقيام مؤتمر الخريجين واحتدام اوار الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار البريطاني ، وقيام الاحزاب السياسية المختلفة بميولها وسياساتها وارتباطاتها المعروفة ، ومناورات الادارة الاستعمارية شاملة تاسيسها للجمعية التشريعية والمجلس الاستشاري لشمال السودان ، وتنظيم مؤتمر جوبا في عام ١٩٤٧ ، انتهاء بتنظيم اول انتخابات وطنية في عام ١٩٥٣ ايذانا ببداية الفترة الانتقالية التي اعقبها الاستقلال. وبالطبع فان جميع تلك الوقائع والاحداث قد ظلت موضع عناية واهتمام ملحوظين من قبل مختلف السياسيين المعاصرين لتلك الحقبة المفصلية والمهمة من تاريخ السودان المعاصر ، وغيرهم من سائر المثقفين والباحثين والاكاديميين الذين قتلوها بحثاً في مذكراتهم ومؤلفاتهم مثل: خضر حمد وعبد الرحمن علي طه ومحمد احمد محجوب وامين التوم وعبد الماجد ابو حسبو وبشير محمد سعيد ومكي عباس ومدثر عبد الرحيم ومحمد عمر بشير ومحمد سعيد القدّال وفدوى عبد الرحمن علي طه وغيرهم. بيد ان هذا الكتاب ، يسلط اضواء كاشفة حقاً على تفاصيل وزوايا مهملة وغامضة ، لم تتوغل فيها المؤلفات آنفة الذكر في تقديرنا ، ومن هنا تاتي اهميته ، ويأتي تفرّده.
تميزت مقالات السفير احمد مختار كما سوف يلاحظ القارىء ، بالصراحة والجرأة الفائقة ، والروح الوطنية الصادقة والمتجردة ، والمباشَرة وعدم الميل الى المصانعة والمداهنة والتملق ، خاصة اذا ما علمنا مدى الشراسة والشدة التي كان ينتهجها المستعمرون مع الاصوات والاقلام المناوئة لهم من الوطنيين السودانيين في تلك الفترة. وبحسبنا ان نشير في هذا المقام ، الى ان الاستاذ احمد مختار هو مطلق العبارة المجلجلة التي سارت بها الركبان في عهدها: " أما آن لهذا الفارس أن يترجّل ؟ " ، وقد كان يقصد بها تمثال اللورد هربرت كتشنر ، قائد قوات الغزو الاستعماري للسودان في عام ١٨٩٨م ، وأول حاكم عام بريطاني للبلاد. وكان قد نصب له تمثال وهو راكب على صهوة حصان في احد شوارع الخرطوم الرئيسية. واظن ترجيحا ان يكون عنوان ذلك المقال الحارق ، هو القطرة التي افاضت الكأس بالنسبة للادارة الاستعمارية ، فامرت بمنع صدور كتابه المشار اليه آنفا.
مهما يكن من أمر في الختام ، فانني وانا اتصفح مقالات هذا الكتاب الممتع والمفيد ، والتي تجاوز بعضها السبعين عاماً منذ أن كُتبت ، كنت اتوقف مليّاً عند فقرات بعينها ، وأردد في خاطري تلك العبارة التراثية الخالدة متحسّراً على حال بلادي وعلى حال شعبها : ما أشبه الليلة بالبارحة !!.
ومن ذلك على سبيل المثال ، إهداء المؤلف لكتابه القديم " خمسون عاما في قبضة الاستعمار " ، والذي أثبتته ابنته الدكتورة نوال في هذا الكتاب الحالي في ثوبه الجديد ، وقد جاء في ذلك الاهداء ما يلي:
" إلى أبناء وبنات هذا الوطن: لا يُجدي العمل الفردي ، ولا يجدي عمل الجماعات المتناثرة ، بل الأمل كل الأمل في عمل واسع النطاق بعيد الأثر ،، تتجاوب أصداؤه في العالم بأسره ، وفي هذه الساعات الحاسمة ، يجب أن نعلّق خلافاتنا إلى أن يهلّ فجر الحرية ، لأنّ الحرية لا تُكسب بالخلاف والمشاكسة ".
khaldoon90@hotmail.com
////////////////////////