النفايات واقتصاد التدوير في السودان 

 


 

 

يتناول مفهوم تدوير النفايات استخدام أنواع مختلفة وعديدة من المخلفات إلى منتجات أخرى أقل جودةً من المنتج الأصلي. كما يمكن توصيفها بأنها عملية تحويل المخلفات إلى منتجات جديدة لها فوائد اقتصادية وبيئية. وهذا التدوير آلية موجودة سلفاً في الطبيعة، حيث تعتبر فضلات بعض الكائنات الحية غذاء لكائنات حية أخرى. وقد مارس الإنسان عملية إسترجاع النفايات منذ عصور قديمة بمفهوم موجود في التصرف الاجتماعي التقليدي، مثل تخمير بقايا الطعام لاستعماله كسماد للزراعة. ويتم حاليا اللجوء إلى عملية التدوير للتخلص من النفايات التي يؤدي تراكمها إلى تهديد صحة الإنسان وتهديد البيئة التي يعيش فيها. وأصبح تدوير النفايات من المفاهيم الملحة الأهمية مع تكاثر عدد سكان العالم، وازدياد النفايات المنزلية، خاصة مع زيادة المواد المستهلكة بمختلف أشكالها وأنوعها. وساد قديما اعتقاد بأن الوفرة في المنتجات هي من أسباب كثرة النفايات. فعندما تكون الموارد وفيرةً (بأكثر مما يجب) تصبح بالغة الرخص، فتفقد قيمتها وتقل دوافع الابتكار في تدويرها. غير أن التطور الذي ارتبط بفهم المشكلات الناجمة من تكدس النفايات، يدفع بالابتكار في طريقة استخدام الموارد الطبيعية، وتصبح دوافع الابتكار في مجال النفايات ترتبط بالحفاظ على البيئة ولتحقيق الإستدامة في الموارد.

وأفاد تقرير صادر عن البنك الدولي في عام 2018م بأن نفايات العالم ستزيد بنسبة 70% بحلول عام 2050م مالم تتخذ دول العالم إجراءات تصحيحية عاجلة. وكما ذكر التقرير "أنه من المتوقع أن يزيد توليد النفايات في أفريقيا جنوب الصحراء أكثر من ثلاثة أضعاف المستويات الحالية، ويمثل البلاستيك مشكلة ضخمة بشكل خاص. فإذا لم يتم جمع المواد البلاستيكية وإدارتها بشكل صحيح، فإنها ستلوث وتؤثر على الممرات المائية والنظم البيئية. ويُعد علمياً أن كلفة معالجة الآثار الضارة المترتبة على تراكم النفايات على المستوى الصحي والبيئي أقل بكثير من كلفة إعداد وتشغيل أنظمة بسيطة وكافية لإدارة النفايات بطرق مناسبة. كما ويفيد تقرير الأمم المتحدة المعنون "المرصد العالمي للنفايات الإلكترونية 2020م" أن النفايات الإلكترونية تمثل الآفة البيئية الثانية بعد النفايات البلاستيكية.

ولم تستفد كثير من الدول - وبالطبع من ضمنها السودان - من برامج البنك الدولي الخاصة بالمساعدة في الحصول على حلول تتعلق بشأن تمويل إدارة النفايات الصلبة والنفايات البحرية، وفي وضع أنظمة لإدارة النفايات بصورة حديثة، أو حتى المساعدات الفنية في اتخاذ القرارات الحيوية والسياسات الخاصة بها، مثل الحد من هدر الطعام من خلال توعية المستهلك، وإدارة المواد العضوية والبرامج المنسقة لإدارة النفايات الغذائية.

وهناك فوارق بين الدول الأفريقية في مسألة معالجة مشكلة النفايات، حيث توصف طرقات بعض البلدان الأفريقية بأنها ممتلئة بأكوام القمامة والنفايات على اختلاف خطورتها وأشكالها، وأنه يتم فيها التخلص من المخلفات البلاستيكية، والمنزلية، والطبية، والإلكترونية، والصناعية، والعضوية كيفما اتفق دونما رقابة في الغالب؛ مما يتسبب في تفشي الأمراض والأوبئة وتلوُّت التربة والمياه. بينما توجد مكبّات نفايات متطوّرة في بعض الدول الأفريقية، على سبيل المثال لا الحصر: النيجر، والكونغو، ومالي، إلّا أنها رغم ذلك لازالت تتسم بتكدس القمامة. وتعد المخلفات البلاستيكية من أكثر النفايات المقلقة للدول الإفريقية حيث تتسبب في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، وتمثل أكثر المواد الضارة بالبيئة. وكما أشارت "منظمة السلام الأخضر الدولية، غير الحكومية" إلى أن 99% من المنتجات البلاستيكية مصنوعة من الوقود الأحفوري، الذي يُصْدر غاز ثاني أكسيد الكربون، وأن النفايات البلاستيكية المستخدمة لمرّة واحدة "تتناثر في شوارع البلدان الأفريقية" وفقاً لمنصة الطاقة الالكترونية".

وتبذل العديد من الجهود حول العالم لمعالجة النفايات البلاستيكية في أفريقيا، حيث تتسبب في تلوث المياه والأنهار والمحيطات. وتضمنت تلك الجهود تطوير أساليب إعادة التدوير، وبناء مشروعات عديدة في القارة لذلك الغرض. وتُعد تجربة جمهورية بنين من التجارب المميزة في هذا المجال حيث تُحوَّل النفايات البلاستيكية فيها إلى مواد بناء أرخص وأخف وزناً وملائمة للبيئة مثل الطوب والبلاط. ومن المرتقب بناء مصنع لفرز النفايات البلاستيكية وتحويلها لمواد مفيدة، بدعم من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف). كذلك هناك تجربة جمهورية مصر في إعادة تدوير النفايات البلاستيكية التي تعتبر من التجارب المهمة في القارة الأفريقية، عبر اشتراك بعض شركات القطاع الخاص في اعادة تدوير البلاستيك في مصر، حيث تهدف إلى تطوير الاقتصاد الدوّار في قطاع النفايات البلاستيكية، حسب تقرير نشره موقع "أفريكا21".

وفي بلادنا، خاصة عاصمتها الخرطوم، تطغى مظاهر التلوث بالنفايات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد مثل العبوات والقوارير والأكياس في غياب أي جهود مبذولة لمعالجة هذا التلوث الذي يبدو واضحاً لجميع السكان. وسبق لمجلس ولاية الخرطوم أن حظر استخدام الأكياس البلاستكية بحجم أقل من سُمك (60) مكرون، وذلك وفقا لقانون أصدر في عام 2017م. ويحظر ذلك القانون تصنيع واستعمال وتداول أكياس البلاستيك بسمك أقل من (60) ميكرون داخل الحدود الجغرافية للولاية، على أن يستثني من تطبيق أحكام القانون أكياس البلاستيك والعبوات والمغلفات المستخدمة للأغراض الطبية والمعتمدة من هيئة المواصفات والمقاييس السودانية، إلا أن تطبيق ذلك القانون لم يستمر للأسف. وعند المقارنة بالمدن الأخرى لا يخفى على أحد مستوى تلوث مدينة الخرطوم المفرط بنفايات الأكياس البلاستيكية ذات الجودة المنخفضة التي تتناثر في الطرقات وفي كل مكان تقريبا والمرتبطة بالكثافة السكانية العالية.

ووفقا لموقع اتحاد الغرف الصناعي السوداني يوجد الآن بالبلاد أكثر من عشرة مصانع لأكياس البلاستكية مقابل أربعة مصانع فقط لتدوير المنتجات البلاستكية. ومعلوم أن مادة البلاستيك هي المادة التي تميز العصر الحالي، فهي مادة متينة، متعددة الاستخدامات، واقتصادية من حيث الإنتاج. لكن متانتها العالية هي مشكلتها الرئيسية، لأنها مادة يستغرق تحللها على الأقل مئات السنين. كذلك يتم استخدامها بإفراط نسبة لكلفتها المنخفضة نسبياً وكونها قابلة للتشكيل لأغراض متعددة، ويتم إنتاجها بكميات ضخمة، خاصة عند انتاج الأكياس البلاستيكية.

وواضح أن السودان – ومنذ سنوات طويلة - يعاني من سوء إدارة النفايات البلاستيكية التي تسبب تهديداً متنامياً لتلوث البيئة، حيث أن الاستخدام المفرط للبلاستيك خاصة (الأكياس البلاستيكية منخفضة الجودة) ومواد التغليف والتعبئة البلاستيكية تتسبب في امتلاء مكبَّات النفايات والطرقات، وخنق الأنهار، وتهديد الأنظمة البيئية البحرية، كما أن اغلب البلاستيك المستخدم من النوع الردئ الذي يصعب تدويره ويفقد قيمته الاقتصادية. وبالتالي تصبح المشكلة مشكلة هدر لموارد قيمة وإلحاق للضرر بالبيئة في ذات الوقت. ويجب على كل الدول ومواطنيها تغيير أسلوب التفكير والنظرة إلى البلاستيك بوصفه مورداً ثميناً عوضا عن كونه مجرد نفايات وفرصة لأنشطة استثمارية عديدة. كما يمكن للقطاع الخاص القوي الدخول في هذا القطاع للتخلص من التحديات التي تعيق إعادة التدوير البلاستيك الخام الأرخص ثمنا، حيث نجد أن كثير من البلدان تستورد "خردة" النفايات البلاستيكية الأفضل من حيث الجودة، في حين تصدر البلاستيك المعاد تدويره لتلبية الطلب الخارجي.

وينبغي أن تقوم الجهات المسؤولة في السودان بفرض قوانين مجازة من الجهات التشريعية والعدلية تسري على جميع الولايات دون سن قوانين خاصة بولاية الخرطوم دون غيرها- كمعالجة لظاهرة محددة - مصحوبة بسياسات تحمل منتجي السلع البلاستيكية ومستورديها المسؤولية عن التخلص من النفايات البلاستيكية؛ والأدوات الاقتصادية- بما في ذلك الضرائب- للمساعدة في التخلص التدريجي من المواد البلاستيكية غير الأساسية. ويجب كذلك مواءمة هذه السياسات والمعايير والمبادئ التوجيهية مع التوجهات العالمية وأهداف التنمية المستدامة الصادرة عن الأمم المتحدة.

كما أنه من المصلحة وضع الجهات المسؤولة بالدولة لعدد من الخطط تسهم في تحويل طريقة إستخدام المواد البلاستيكية وإدارتها والتحول إلى اقتصاد إعادة التدوير الذي يسعى إلى تصميم منتجات لا تخلف أي نفايات، أو يمكن أن يُعاد استخدامها وتدويرها. كما أنه من المصلحة للقطاع الخاص أيضا أن يدخل شريكاً مهماً في قيادة الحلول للتحدي المتعلق بالمواد البلاستيكية. كذلك نستطيع أن نقول إن الاستهلاك والإنتاج يجب أن يعتمدا نهجا كليا يأخذ في الاعتبار الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة، وذلك على نحو متوازن ومتكامل. ومعلوم أيضا أن أنماط الاقتصاد الإنتاجي والاستهلاكي تحوي عدداً من الاثار الايجابية وأخرى سلبية على البيئية والتنمية الاجتماعية.  فالاقتصاد الجيد يجب أن يحقق مكاسب من حيث الكفاءة والإنتاجية، ويكفل أن تظل الأنشطة البشرية في إطار القدرة الاستيعابية للأرض، والأخذ في الاعتبار حقوق الأجيال القادمة. ومن الجانب الآخر تؤثر نقص الكفاءة سلباً على مفاهيم الاستدامة للموارد الاقتصادية. لذلك نجد أن أهداف التنمية المستدامة السابعة عشر قد صاغت منهجية متوازنة بين الإنتاج والاستهلاك بشكل عام في إطار حقوق الانسان وحفظ حقوق الأجيال القادمة. ونجد أن الهدف الثاني عشر من أهداف التنمية المستدامة ركز على كفاءة وحسن إدارة الموارد الطبيعية ومن ثم الآثار البيئية مثل إدارة النفايات وإطلاق الملوثات، أي ما تحدثه من فصل منهجي بين النمو الاقتصادي من جانب، وتنامي إستخدام الموارد والتدهور البيئي من جانب آخر.

وبصورة إجمالية تتطلب تطبيق إستراتيجية إدارة النفايات في السودان أن تكون هناك إدارة للتوعية والتثقيف البيئي والصحي للسكان للمساهمة في فرزها وايداعها في أماكنها الصحيحة، أو حتى التقليل منها. وهذا التثقيف يرتكز على تهيئة مناهج التربية والتعليم، بحيث يصبح التعامل الصحيح مع النفايات والبيئية سلوكاًعاماً وجزءا أساسياً من مناهج رياض الأطفال والمدارس وكافة وسائل الإعلام بالإضافة إلى المنابر الاجتماعية المختلفة حتى تصبح سلوكا مجتمعيا معتادا عليه ومشاركةً مجتمعية للسكان في كل عمل تقوم به الدولة.

ويرى البعض أن حملات النظافة التي تقوم بها بعض المنظمات وجمعيات حماية البيئة بمشاركة المواطنين وبعض المؤسسات والمبادرات الشبابية– رغم نبل أهدافها – تعد عمليا حملات للتوعية أكثر من أنها إحدى أدوات أو وسائل نظافة حقيقية لمدينة كبيرة. لذلك يجب على الدولة وضع خطة إسعافية للعاصمة سواءً للأحياء السكنية المخططة أو تلك التي نشأت خارج المخططات السكانية تتمثل في معالجة للوضع البيئي الحالي لدرء أخطار النفايات المنزلية والمختلط مع النفايات الآخرى المختلفة، أو التخفيف منها ، ثم وضع برنامج متكامل لإدارة النفايات بإختلاف أنوعها عبر إيلاء هذا القطاع لشركات متخصصة من القطاع الخاص لديها القدرة لمعالجة هذه النفايات في مكبات حديثة ومصممة بطريقة لا تتسبب في  تلوث المياه الجوفية ولا تضر بالبيئة بصورة عامة. كما يجب أن تكون تلك المكبات بعيدة عن المناطق السكانية  وتراعى فيها المواصفات الجودة وإلتزام بمعايير النزاهة في إختيار الشركات العاملة في قطاع النفايات وفقا لإمكانياتها وربطها بمنظومة كاملة من الشركاء في عملية جمع النفايات مثل قطاع الصناعة لضبط المخلفات الصناعية. والمؤسسات الصحية (الخاصة والعامة) عند فصل النفايات الطبية عن النفايات الأخرى. ولإدارة النفايات المنزلية يجب إشراك وتوعية المواطنين عبر منظمات المجتمع المدني في مراحل إدارة عملية النظافة، من تجميع ونقل للنفايات باعتباره شريك أصيل في الحفاظ على البيئة.

كذلك يجب التعامل مع ملف النفايات بأنه مورد من الموارد المادية للدولة ويستوجب توجيه الإيرادات الخاصة بقطاع النفايات لتطويره وتجويد الخدمة المقدمة للمواطن، مع عدم إغفال دور المجتمع والمواطنين وجمعيات حقوق المستهلك في أن تمثل الدور الرقابي في أي تجاوزات ومخالفات في هذا القطاع سواءً كانت المالية أو حتى حقوق العاملين عبر تكوين نقابات تمثلهم وتشرف على حقوقهم القانونية في توفر شروط ومعايير العمل الدولية والصحة المهنية والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان مثل منع عمالة الاطفال والالتزام بتوفير الرعاية الطبية المناسبة للعاملين وبتوفير الزي المخصص وتدريبهم على العمل بكافة مستوياته من جمع النفايات وصولاً للتعامل مع المحارق . هذا فضلا عما ذكر في تقرير البنك الدولي حول أهمية إعادة تدوير النفايات حيث أشار التقرير إلى أن النظم الجيدة لإدارة النفايات ضرورية لبناء اقتصاد تدوير، حيث يتم تصميم المنتجات وتحسينها لإعادة الاستخدام وإعادة التدوير. ومع اعتماد الحكومات الوطنية والمحلية اقتصاد التدوير، ستساعد الطرق الذكية والمستدامة لإدارة النفايات على تعزيز النمو الاقتصادي الفعال مع الحد من الأثر البيئي.



nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء