عن مكّة وبكّة بمناسبة الحج
د. خالد محمد فرح
12 July, 2022
12 July, 2022
Khaldoon90@hotmail.com
وردت في القرءان الكريم ، هاتان الصيغتان: " مكة " بالميم و " بكة " بالباء لاسم هذا البلد الحرام ، الذي ظلّ لقرون عديدة ، مهوى افئدة كافة المسلمين فيشتى أرجاء الأرض ، وقبلتهم للصلاة ، ومقصدهم لاداء مناسك الحج والعمرة ، استجابة لنداء خليل الرحمن سيدنا ابراهيم عليه السلام.
وقد وردت الصيغة " مكة " في قوله تعالى: " وهو الذي كَفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطنِ مكّةَ من بعد أن أظفرَكُم عليهم ، وكان الله بما تعملون بصيرا"ً. الآية رقم (24) من سورة الفتح.
أما الصيغة " بَكّة " بالباء ، فقد وردت في قوله تعالى: " إنّ أول بيتٍ وُضِع للناس للذي ببكةَ مبارَكاً وهُدىً للعالمين ". سورة آل عمران الآية (96).
هذا ، وقد أورد مفسرو القرءان أقوالاً شتى في بيان أولية بيت الله الحرام وقدمه. فمن ذلك ما رووه من أنه كان زبدة بيضاء على الماء من قبل خلق الأرض نفسها ، وأن الأرض قد دُحيَت من تحته ، وأنه بُني مسامتاً للبيت المعمور في السماء ، وأن الملائكة قد أقامت قواعده وبنته قبل خلق آدم عليه السلام بآلاف السنين ، وأنها كانت تحجه وتطوف حوله، ثم حجّه آدم بعد ذلك وأجيال كثيرة من ذريته من بعده.
وفي تفسير الإمام البغوي أبي محمد الحسين بن مسعود ( ت ٥١٦ هج / ١١٢٢م ) في شرح قوله تعالى: للذي ببكة ، وهو شرح قال به في الواقع جلة المفسرين كالطبري والقرطبي والزمخشري وابن كثير: قال جماعة هي مكة نفسها ، وهو قول الضحّاك ، والعرب تُعاقب بين الباء والميم ، فتقول سبد رأسه وسمده ، وضربة لازب ولازم.
وقال الآخرون: ببكة موضع البيت ، ومكة اسم البلد كله. وقيل بكة موضع البيت والمطاف. سُمّيت بكة لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبُكّ بعضهم بعضا، ويصلي بعضهم بين يدي بعض ، ويمر بعضهم بين يدي بعض.
وقال عبد الله بن الزبير: سمين بكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة ، أي تدقّها فلم يقصدها جبّار بسوء إلا قصمه الله .. أما مكّة سُمّيت بذلك لقلة مائها من قول العرب: مَكّ الفصيل ضرع أمه وامتكّه ، إذا امتصّ كل ما فيه من لبن. وتُدعى أمّ رَحِم لأنّ الرحمة تتنزّل بها .. انتهى الاقتباس.
والذي نميل إليه -ونعوذ بالله أن نقول في ألفاظ القرءان قولاً لا يوافق مراده منها - أنّ بكة هي مكة نفسها بتعاقب الباء والميم في كلام العرب على نحو ما وردفي تفسير البغوي المشار إليه فيما مضى. وقد قال المفسرون ان القرءان يفسر بعضه بعضا ويشرح بعضه بعضا.
أما بالنسبة للتخريج اللغوي للفظ مكة / بكة ، فلعل السلف من المفسرين رحمهم الله قد أغربوا بعيدا في التأويل ، بسبب انهم قد حصروا انفسهم فقط في ما شاكل هذا اللفظ من الفاظ اللغة العربية الجارية على الالسن في القرن السابع الميلادي ، قرن نزول القرءان والقرون الاولى التي تلته ، ولم يروا حاجة الى افتراض انها ربما يكون هو الآخر من اصل من غير العربية العدنانية القرشية التي نزل بها القرءان ، على نحو ما فعلوا مع ألفاظ اخرى عدوها من الغريب مثل: سندس واستبرق وفردوس وغيرها ، حيث اجتهدوا في نسبتها الى لغات أخرى مثل العبرانية والسريانية والنبطية والحبشية وغيرها.
فالذي نميل إليه أيضاً أن اللفظ " مكة " ينبغي التماس أصله في كلمة " مكا " التي تعني بيت مطلقاً في اللغة البابلية السامية القديمة ، وذلك بقرينة ان اقدم وابرز واهم معلم في مدينة مكة ، هو الكعبة البيت الحرام كما سماه المولى عز وجل في القرءان الكريم.
والى هذا التخريج نفسه ، ذهب الاستاذ جرجي زيدان في كتابه: تاريخ العرب قبل الاسلام ، وهو من هو في سعة الاطلاع ورسوخ القدم في المعرفة اللغوية والتاريخية عموماً ، بصرف النظر عن ديانته المسيحية. وقد كتب جرجي زيدان في هذا الخصوص ما نصه:
" اختلف المؤرخون في أصل مكة ، والأرجح عندنا أنه أشوري أو بابلي لأنّ " مكا " في البابلية " البيت " ، وهو اسم الكعبة عند العرب. ويدل ذلك على قدم هذه المدينة ، كأنها سميت بذلك من عهد العمالقة على إثر هجرتهم من بين النهرين فسموا المكان بها إشارة الى امتيازها بالبناء الحجري عن سائر ما يحيط بها من البادية. " انتهى الاقتباس ، والمرجع هو: كتاب تاريخ العرب قبل الاسلام ، تاليف جرجي زيدان ، مطبعة الهلال ، القاهرة ، طبعة سنة ١٩٢٢م ، ص٢٤٤.
ذلك ، ويقابلنا الجذر الثنائي مك / بك مما له صلة وثيقة بذات الحقل الدلالي ، في اسم المدينة اللبنانية العتيقة " بعلبك " ، وانما تفسيرها الراجح هو أنها تعني:" بيت البعل " ، أي المعبود الوثني " بعل " الذي انتشرت عبادته على نطاق واسع في سائر بلاد المشرق العربي القديم.
هذا ، والله أعلم ، وكل عام وحجاج البيت الحرام والمسلمين جميعا بخير.
وردت في القرءان الكريم ، هاتان الصيغتان: " مكة " بالميم و " بكة " بالباء لاسم هذا البلد الحرام ، الذي ظلّ لقرون عديدة ، مهوى افئدة كافة المسلمين فيشتى أرجاء الأرض ، وقبلتهم للصلاة ، ومقصدهم لاداء مناسك الحج والعمرة ، استجابة لنداء خليل الرحمن سيدنا ابراهيم عليه السلام.
وقد وردت الصيغة " مكة " في قوله تعالى: " وهو الذي كَفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطنِ مكّةَ من بعد أن أظفرَكُم عليهم ، وكان الله بما تعملون بصيرا"ً. الآية رقم (24) من سورة الفتح.
أما الصيغة " بَكّة " بالباء ، فقد وردت في قوله تعالى: " إنّ أول بيتٍ وُضِع للناس للذي ببكةَ مبارَكاً وهُدىً للعالمين ". سورة آل عمران الآية (96).
هذا ، وقد أورد مفسرو القرءان أقوالاً شتى في بيان أولية بيت الله الحرام وقدمه. فمن ذلك ما رووه من أنه كان زبدة بيضاء على الماء من قبل خلق الأرض نفسها ، وأن الأرض قد دُحيَت من تحته ، وأنه بُني مسامتاً للبيت المعمور في السماء ، وأن الملائكة قد أقامت قواعده وبنته قبل خلق آدم عليه السلام بآلاف السنين ، وأنها كانت تحجه وتطوف حوله، ثم حجّه آدم بعد ذلك وأجيال كثيرة من ذريته من بعده.
وفي تفسير الإمام البغوي أبي محمد الحسين بن مسعود ( ت ٥١٦ هج / ١١٢٢م ) في شرح قوله تعالى: للذي ببكة ، وهو شرح قال به في الواقع جلة المفسرين كالطبري والقرطبي والزمخشري وابن كثير: قال جماعة هي مكة نفسها ، وهو قول الضحّاك ، والعرب تُعاقب بين الباء والميم ، فتقول سبد رأسه وسمده ، وضربة لازب ولازم.
وقال الآخرون: ببكة موضع البيت ، ومكة اسم البلد كله. وقيل بكة موضع البيت والمطاف. سُمّيت بكة لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبُكّ بعضهم بعضا، ويصلي بعضهم بين يدي بعض ، ويمر بعضهم بين يدي بعض.
وقال عبد الله بن الزبير: سمين بكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة ، أي تدقّها فلم يقصدها جبّار بسوء إلا قصمه الله .. أما مكّة سُمّيت بذلك لقلة مائها من قول العرب: مَكّ الفصيل ضرع أمه وامتكّه ، إذا امتصّ كل ما فيه من لبن. وتُدعى أمّ رَحِم لأنّ الرحمة تتنزّل بها .. انتهى الاقتباس.
والذي نميل إليه -ونعوذ بالله أن نقول في ألفاظ القرءان قولاً لا يوافق مراده منها - أنّ بكة هي مكة نفسها بتعاقب الباء والميم في كلام العرب على نحو ما وردفي تفسير البغوي المشار إليه فيما مضى. وقد قال المفسرون ان القرءان يفسر بعضه بعضا ويشرح بعضه بعضا.
أما بالنسبة للتخريج اللغوي للفظ مكة / بكة ، فلعل السلف من المفسرين رحمهم الله قد أغربوا بعيدا في التأويل ، بسبب انهم قد حصروا انفسهم فقط في ما شاكل هذا اللفظ من الفاظ اللغة العربية الجارية على الالسن في القرن السابع الميلادي ، قرن نزول القرءان والقرون الاولى التي تلته ، ولم يروا حاجة الى افتراض انها ربما يكون هو الآخر من اصل من غير العربية العدنانية القرشية التي نزل بها القرءان ، على نحو ما فعلوا مع ألفاظ اخرى عدوها من الغريب مثل: سندس واستبرق وفردوس وغيرها ، حيث اجتهدوا في نسبتها الى لغات أخرى مثل العبرانية والسريانية والنبطية والحبشية وغيرها.
فالذي نميل إليه أيضاً أن اللفظ " مكة " ينبغي التماس أصله في كلمة " مكا " التي تعني بيت مطلقاً في اللغة البابلية السامية القديمة ، وذلك بقرينة ان اقدم وابرز واهم معلم في مدينة مكة ، هو الكعبة البيت الحرام كما سماه المولى عز وجل في القرءان الكريم.
والى هذا التخريج نفسه ، ذهب الاستاذ جرجي زيدان في كتابه: تاريخ العرب قبل الاسلام ، وهو من هو في سعة الاطلاع ورسوخ القدم في المعرفة اللغوية والتاريخية عموماً ، بصرف النظر عن ديانته المسيحية. وقد كتب جرجي زيدان في هذا الخصوص ما نصه:
" اختلف المؤرخون في أصل مكة ، والأرجح عندنا أنه أشوري أو بابلي لأنّ " مكا " في البابلية " البيت " ، وهو اسم الكعبة عند العرب. ويدل ذلك على قدم هذه المدينة ، كأنها سميت بذلك من عهد العمالقة على إثر هجرتهم من بين النهرين فسموا المكان بها إشارة الى امتيازها بالبناء الحجري عن سائر ما يحيط بها من البادية. " انتهى الاقتباس ، والمرجع هو: كتاب تاريخ العرب قبل الاسلام ، تاليف جرجي زيدان ، مطبعة الهلال ، القاهرة ، طبعة سنة ١٩٢٢م ، ص٢٤٤.
ذلك ، ويقابلنا الجذر الثنائي مك / بك مما له صلة وثيقة بذات الحقل الدلالي ، في اسم المدينة اللبنانية العتيقة " بعلبك " ، وانما تفسيرها الراجح هو أنها تعني:" بيت البعل " ، أي المعبود الوثني " بعل " الذي انتشرت عبادته على نطاق واسع في سائر بلاد المشرق العربي القديم.
هذا ، والله أعلم ، وكل عام وحجاج البيت الحرام والمسلمين جميعا بخير.