نعم للثورة والتغيير الجذري ولكن !!.تنحّوا قليلاً أيها الأحزاب لم يحن دوركم بعد

 


 

 

السودان مهيأ لثورة جذرية تعيد بناءه على أسس جديدة. ما في ذلك شك. بل هذا هو قدره التاريخي إذا كُتب له أن يظل قائماً في خارطة العالم السياسية. أو إذا أراد له السودانيون ذلك. ولكن السؤال الذي لم يعنى أحد بطرحه أو التفكير فيه بعقلانية هو: كيف؟ وعلى أي أسس ؟.
في تاريخ الثورات وبناء الدول لا تتصدى الأحزاب لهذه المهمة. وإذا هي فعلت ذلك فإن قصارى ما ستنجزه "دولة" مفصلة على مقاس بنية الحزب الأيديولوجية ووفق تصوره، مؤطرة بحدود أفاق الحزب الفكرية.
وبالتالي سيتم اختزال الدولة في الحزب.
ستكون الدولة دولة الحزب، لا دولة المواطنين الذين تحكمهم.
بما يعني بداهة أن نظمها وقوانينها ومؤسساتها ستكون مكرسة لتحقيق مصالح من ينتمون للحزب أو التنظيم أو الجماعة، ويتم إقصاء الآخرين.

(2)
وفي كل الأحوال ستولد مثل هذه الدولة وهي تحمل جرثومة موتها داخلها. على غرار ما حدث بعد قيام ثورة (1917) التي تمخضت عن قيام إمبراطورية بحجم "الاتحاد السوفيتي". وما حدث بعدها إثر كل الانقلابات التي قامت في دول العالم الثالث بكل القارات (آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية) بما فيها، ما يسمى بمنظومة الدول العربية، بتأثير من بالثورة البلشفية في روسيا. إذ لم تسقط الأنظمة الحاكمة وحدها، وإنما سقطت الدول ذاتها وانهارت، وبعضها في طريقه إلى التشظي والاندثار لتقوم مكانها دويلات تتقاسمها الفئات والمجموعات التي كان تم إقصائها في إطار "دولة الحزب" الكبيرة.
في العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال والسودان، وحتى في لبنان وغيرها من الدول في قارات أخرى، سقطت جميع "الأنظمة" التي كانت تحكم قبضتها الحزبية على الدولة – أياً كانت لافتتها الأيديولوجية قومية، علمانية، دينية، إثنية – . وهي الآن كل في طريقها إلى التفكك، والانهيار، والمحو من خارطة العالم السياسية. رغم أنها في ظاهرها كانت دول قوية ومستقرة، إلا أن سوس الانهيار كان ينخر داخلها، ولم يكن استقرارها الظاهري سوى مظهر مخادع لبركان يغلي بتفاعل التناقضات والإقصاء والظلم المكبوت بقبضة أمنية باطشة، يتحين لحظة انفجاره.

(3)
ما نخلص إليه من هذا الاستطراد هو: أن السودان يغلي مرجل الثورة فيه على نحو غير معهود في مدى قوته واندفاعه. فما من ثورة شعبية في تاريخ السودان المعاصر قبلها ظلت شعلتها مستعرة حية أربعة أعوام متواصلة.
وأن ما يجب أن يعيه قادة الأحزاب ويضعوه حلقة في أذانهم، أن هذه الثورة التي تثير إعجاب الشعوب الأخرى، وإن كان اندفاعها نتيجة "تراكم كمي" للثورات الماضية، والتي عاصرتها قيادات الأحزاب في أكتوبر 1964، وأبريل 1985. إلا أنها تمخضت عن "تحول نوعي" في وعي ثوار اليوم.
وأن هذا التحول النوعي تمثل في "مطلب جديد" لم يكن في وارد وعي ومطالب ثوار الأمس: سودان جديد.
كيف يبدأ مشوار بنائه ؟.
كأنهم يستعيدون صرخة التجاني يوسف بشير، في تحديد نقطة انطلاقهم الأولى:
قف بنا نملأ البلاد حماساً و "نقوِّض" من ركنها المرجحن
بمعنى أن يبدأ مشوار البناء الجديد بالهدم.

(4)
ثمة مفردات جديدة تدخل قاموس آفاق الوعي الوطني في فضاء "الفعل" السياسي على مستوى القاعدة الشعبية.
لم يقل التجاني "نقوِّم" ركنها، وإنما نهدم/ نقوض.
هو لا ينادي بالإصلاح الذي يجدد ركناً أو زاوية ويترك البناء قائماً على حاله القديم. فطالما أن البناء مرجحن/ غير ثابت/ مائل، فليتم هدمه وإعادة بنائه على "ساس" جديد.
مقابل تقويض التجاني للبناء المرجحن يطلق شباب الثورة مبدأ "جذرية" الثورة. والاقتلاع من الجذور يماثل التقويض من "الساس".
وهذه الدعوة لبناء "السودان الجديد" لم تكن من اختراع شباب الثورة. فهي حلم قديم في وعي السودانيين، كانت نخبهم تعبر عنه بطرق مختلفة، وتتخذ وسائل مختلفة لتحقيقه. بعضهم عبَّر عنه شعراً، وبعضهم عبر النثر مقالات ومؤلفات وأبحاث متنوعة وأوراق علمية شتى، واجتهادات فكرية تحمل عناوين مثل: "الذاتية السودانية" و "السودانوية"، وقد يتمظهر أحياناً في دعوات اجتماعية، أو ثقافية، مثل تيار "الغابة والصحراء" و "أبادماك" و"مدرسة الخرطوم" التشكيلية. وقد يتخذ شكلاً عسكرياً وسياسياً مثلما فعل مع جون قرنق. هذا غير استصحابنا الأصوات الشعرية في مرحلة النضال ضد الاستعمار، ودعوة علي عبد اللطيف للدولة القومية، والحفريات التاريخية والآثارية، التي تبحث عن جزء من الذات السودانية مفقود أو مدفون تحت الرمال.
كل هذه الأصوات العالية على اختلافها وتنوعها كانت تعبر عن حلم بسودان غير السودان الذي يستظلون بظل نظامه السياسي والاجتماعي. وتبدو المسألة برمتها وكأنهم يبحثون عن ذواتهم، أو عن دولة ما تتراءى لهم في الحلم.(1).

(5)
قد تسألني: طالما الأمر كذلك، ما الذي يميز هذا الجيل بطرحه هذا الحلم اليوم ؟.
ما يميزه، أن هذا الحلم ولأول مرة يطلع من الشارع، بعد أن كان ينزل من أبراج النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية إلى الشارع.
كانت النخب الثقافية والفكرية تعكف على كتب التاريخ، وتتأمل وتتفكر، وتحلل واقع هذه الشعوب السودانية المختلفة والمتنوعة، وتستقرئ تراثها، ثم تخرج برؤية واضحة بأن بنيان هذه الدولة "مرجحن" الأركان ويحتاج إلى إعادة تشييد وبناء، وبعضهم يبلغ به الحنق فيصرخ غاضباً: "ملعون أبوكي بلد"(2).
الثورات الماضية كانت في جوهرها احتجاجية تعبر شعاراتها وهتافاتها عن "ما يرفضه" الثوار. كان الهتاف قبل أكتوبر "لا زعامة للقدامى"، وفي أكتوبر كانت "الديمقراطية" هي المطلب الرئيسي للثوار ضد حكم العسكر.
ثوار اليوم لا يعبرون عن ما يرفضون ولكنهم يهتفون بما "يريدون".
ومن هذا المنظور يبدو وكأنما دائرة وعي الثوار بالتغيير المنشود قد اكتملت.
وتبدو هذه الثورة كما لو كانت إعلاناً باكتمال الوعي الثوري الذي تداولت الأجيال شعلته عبر مراحله المختلفة منذ ما قبل الاستقلال.
فثوار اليوم هم أحفاد ثوار الأمس. كل منهم واجه تحدياته، وخاض معاركه في ظروف مختلفة، وفي ظل شروط تاريخية موضوعية مختلفة، وخيارات محددة.
وإذن، فإن التحدي الذي يخوض هذا الجيل معاركه بكل بسالة، يختلف كماً ونوعاً عن معارك الجيل الذي يسبقه. و يحتاج إلى وعي جديد.

(6)
ولمزيد من التوضيح، فإن طبيعة ما يطالب به هؤلاء الثوار يعبر عن تجربتهم في ظل نظام اكتووا بشروره، وهم أكثر من تأذى منه قبل غيرهم. فقد ولدوا ونشأوا وشبوا تحت بطشه وعسفه وفساده وعهر رموزه، وما يزيد الأمر تعقيداً والطين بلة، إنه نظام اتكأ في ممارسه كل هذه الشرور والآثام مستظلاً بالإسلام الذي رضعوه عدلاً وسماحة وتقوى وطهارة.
لم تهتز في نظرهم صورة هذه الرموز، بل اهتزت معها القيم التي كانوا يكثرون الحديث عنها ويرفعونها ويلحون عليها في خطابهم المخادع، ومع الرموز والقيم اهتز حتى مصدرهما ومرجعيتهما: الإسلام.
لقد كفروا بكل شيء وحق لهم أن يكفروا.
فقد استطار الشر واستشرى أثره قبحاً في تفاصيل حياتهم، وصادر مستقبلهم.
ابتلع البحر المتوسط من ابتلع، وضاع في مجاهيل ليبيا من ضاع، وقتل حرس الحدود المصريون من قتلوا منهم وهم يتسللون إلى إسرائيل، وغرق من غرق منهم في المخدرات التي يجلبها قادة ورموز النظام الإسلاموي، وكفر من كفر منهم بدينه وأعلن إلحاده في موقع "الملحدون العرب". بينما رابط أغلبهم على الأرض تشبثاً بها، يشيدون عالمهم الخاص.

(7)
هل كانت الأحزاب وقادتها على وعي بالهجرة الجماعية الداخلية التي أدار عبرها الشباب وجوههم للمجتمع الكبير وانطووا على بعضهم بحميمية اليتامى؟.
كلا، لم يتنبهوا إلى أن أجيالا كانت تنحت لها لغة خاصة بها وأشكال تعبير غريبة، حتى أزياءهم وذوقهم وشكل علاقاتهم بينهم كانت تأخذ مناحي غريبة، غير معهودة. هل التفتوا إليهم وهم يبادرون كجماعات بالمشاركة في إصلاح ما احتاج إلى إصلاح في أحوال المساكين والمقهورين والمشردين بطرق لا تقود إلى مؤسسات الدولة. لقد قطعوا كل خيط بكل المؤسسات، وانهمكوا في بناء دولتهم الخاصة.
وفقط مؤخراً انتبه لهم الجميع وإلى عالمهم الذي كانوا يبنونه (طوبه طوبه) على مدى ثلاث عقود بصمت، وذلك في اعتصام القيادة العامة، حيث شيدوا نموذجاً مصغراً لجمهوريتهم التي شاهدها العالم كله.
عاشوا تجربة قاسية، في ظل نظام لم يعرف السودانيون له مثيلاً في توحشه وبربريته وفساده وقبحه وحقده وتجرده من كل القيم والأخلاق. وفي ظل غياب الآباء الذين يمكن يضيئوا ولو جزء من عتمة ليله الحالك. ولكنهم استطاعوا بما يشبه المعجزة أن يصمدوا، وأن ينحتوا في صخر المعاناة، ليرسموا ملامح غدٍ أكثر إشراقاً.
هذه ملحمة ورحلة قاسية تمخض عنها وعي جديد، صاغوه كما ينبغي بوضوح في شعارات تعبر عن ملامح الغد الذي به يحلمون، والدولة التي تليق بحياتهم وحياة الأجيال بعدهم.
وإذا استطاع هؤلاء الشباب أن يصمدوا في ظل عسف جبروت دولة الإسلاميون الفاجرة المتوحشة، فإنهم سيصمدون في ظل ورثتها وخدمها، وهم أقل وأضعف من سادتهم.

(8)
وعودة إلى الأحزاب: هل يستطيعون أن يقوموا بذات الرحلة، وهي أقل قسوة، ليعكفوا على مساءلة أنفسهم وإصلاحها ؟.
هل يستطيعون أن يبذلوا المجهود الكافي لردم الهوة بينهم وبين الشباب ؟.
هل يستطيعون التضحية بما لديهم من وعي بالٍ لم يعد يواكب إيقاع الشارع وقوى الثورة الحية والشباب ؟.
هل يستطيعون التضحية بنفوذهم وبكسبهم من الدولة القائمة، عبر مراحلها المختلفة منذ الاستقلال ليشاركوا في بناء الدولة الجديدة ؟.

محطة أخيرة:
حميدتي يتعهد بالعمل مع القوات المسلحة وصولاً لجيش واحد في السودان
23 يوليو، 2022
- يعني الجيش حاجة، وهو وجيشه حاجة تانية، لذا سينسق مع الحاجة الأولى للوصول إلى شراكة بين الحاجتين.
ترى، ما رأي الجيوش الأخرى ؟؟!!.
(قلنا جيش افتراضي .. قالوا إخرسوا)
ونواصل

هوامش
(1) في مرحلة من مراحل الشباب في السبعينات كنت أسميه "سودان الأعماق"، فقد كنت أستشعره وجوداً حقيقياً يربض في داخلنا كشوق جارف مبهم غامض.
(2) عنوان مجموعة قصصية للشاعر والكاتب الراحل سيد أحمد الحردلو.

izzeddin9@gmail.com

 

آراء