الرماديون
عز الدين صغيرون
28 July, 2022
28 July, 2022
قلنا في حديثنا السابق أن السودان مهيأ لثورة جذرية تعيد بناءه على أسس جديدة. وأن هذا هو قدره التاريخي إذا كُتب له أن يظل قائماً في خارطة العالم السياسية. أو إذا أراد له السودانيون ذلك. وأكدنا بأن الأحزاب في لحظات ثورة بناء الدولة لا تتصدى لهذه المهمة. وإن هي فعلت فإن قصارى ما ستنجزه "دولة" مفصلة على مقاس بنية الحزب وأيديولوجيته وتصوره، وستكون محكومة مقيدة بحدود أفاق الحزب الفكرية.
وبالتالي سيتم اختزال الدولة في الحزب (1).
وحينها ستكون الدولة دولة الحزب، لا دولة المواطنين الذين تحكمهم. وهذه دولة محكومة بالفشل بلا أدنى شك. لأن نظمها وقوانينها ومؤسساتها ستكون مكرسة لتحقيق مصالح من ينتمون للحزب أو التنظيم أو الجماعة، ويتم إقصاء الآخرين.
(2)
لقد نبهنا إليه كثيراً بأن هناك فجوة في الوعي بطبيعة أهداف الثورة بين الشباب الذين فجروها ومهروها دمهم، ليعيدوا بناء وطنهم على أسس جديدة بديلة، وبين قيادات الأحزاب السياسية ونخب المجتمع المدني التي تسعى لإعادة إنتاج نظام الحكم، وتغيير البنية الفوقية للسلطة بإزاحة الطاقم الحاكم واحتلال مقعده بطاقم مدني، وتسمي ذلك حكم مدني ديمقراطي !.
ختمنا حديثاً بسؤالٍ، له عدة أوجه لهذه النخب والأحزاب:
هل يستطيعون التضحية بما لديهم من وعي مهترئ بالٍ، لم يعد يواكب إيقاع الشارع وقوى الثورة الحية والشباب ليحقق أهداف الثورة والتغيير الجذري ؟.
هل يستطيعون التضحية بنفوذهم وبكسبهم من الدولة القديمة، عبر مراحلها المختلفة منذ الاستقلال، ليشاركوا في بناء الدولة الجديدة ؟.
طرحنا السؤال ونحن على علم بإجابتهم. ليس تنبؤا، أو تخميناً ورجماً بالغيب، ولكن انطلاقاً من معرفة تاريخية بكيفية تشكلها، وبطبيعة تكوين بنيتها. كما انطلاقاً من رصد تاريخها السياسي ومواقفها في القضايا المفصلية.
- نحن نعرف مثلاً أن نصف إجابة الأحزاب على هذه الأسئلة معلوم بالضرورة ولا يحتاج إلى إفادتهم، لأنهم لن يفصحوا عنها.
وإجابتهم ستكون: نعم ...ولكن.
هذه الـ"لكن" لا تشكل مجرد حجر عثرة، وإنما جبلا لا يتزحزح من الوعي "ما قبل السياسي".
وعي طفولي "يحرن" أمام ما يريد ويملأ الدنيا صراخاً ولا يكف عن البكاء.
يريد كل حزب أن يكون هو قيادة الثورة، بل يريد أن يكون هو الثورة مجسدة. وهو مقتنع اقتناعاً أعمى بحق قيادته لها، ووضع أجندة مساراتها، وتطبيق رؤيته ما انتصارها، لأيديولوجيتها، ولشكل الدولة ونظام حكمها ومؤسساتها، وتوجيه مسارها الاقتصادي والاجتماعي وترتيب العلاقات بين مكوناتها.
وإذن كل الأحزاب والنخب مع الثورة والتغيير، ولكن وفق رؤية كل حزب منها.
وإذن بالتالي، بدلاً من أن يكون "التغيير هو الهدف". سيتحول الصراع بين هذه الأحزاب والنخب على: من الذي سيفوز بقيادة الثورة ويحرز قصب السبق !!. ويضيع التغيير – جذري وغير جذري – في ستين داهية غير مأسوف عليه.
أليس هذا هو عين العبث الطفولي .. واللامسؤولية ؟!.
نصف الإجابة الآخر جسدته عملياً مواقف الأحزاب والنخب والمنظمات.
- قوى الحرية والتغيير تمطقت وتلمظت قياداتها مذاق السلطة المسكر، رحبت ببيان قائد مليشيا الجنجويد حميدتي ووصفته بالإيجابي، فقد (حوى الخطاب إقرارا ببعض مطالب الحركة الجماهيرية وأهمها ضرورة تسليم السلطة، كاملة للمدنيين) حسب ما جاء في بيانهم، مع العلم بأن صفه كاملة لم ترد في خطابه أصلا. "وأظنه الاندفاع للتسوية القادمة هو الذي خيل لهم ذلك حتى يخدعوا به الشعب" ،حسب ما وصفه الفاتح جبرا (2).
يقولون ذلك ويتغافلون بأن خدعة البرهان/ حميدتي للرأي العالمي بالانسحاب من السلطة إنما هو مجرد "وهمة".
- وعلى عكس ما يمكنك أن تتوقع، تماهى موقف الحزب الشيوعي تماماً مع قوى الحرية والتغيير في السباق العبثي بينهما، للاستحواذ على السلطة التي ما فتئت تزداد قوة قبضة تحالف العسكر/ حميدتي/ الكيزان/ الحركات عليها، لانشغالهما بالصراع بينهما على فراخ الثورة التي لم "يفقس" بيضها بعد.
تحركت "قحت" في اتجاه التسوية مع العسكر خارجة على إجماع قوى الثورة، بأن لا تفاوض ولا تسوية ولا شراكة ولا شرعية للقتلة، ومتحدثة في ذات الوقت بلسانهم !.
فسارع الحزب الشيوعي، وقد ظن أن قيادة الثورة آلت إليه باردة، وحان قطاف ثمرتها عبر الثغرة التي فتحتها حقت، إلى تلفيق ولملمة تحالف جديد على عجلة من أمره، عبر واجهات مصطنعة من صفوف قوى المعارضة، يضم الحزب الشيوعي وأجسام مهنية ومطلبية معروفة. أطلق عليه "تحالف التغيير الجذري". وقد كشف هذا التحالف والطريقة التي تم بها تشكيله عن مدى عمق أزمة الوعي والمسؤولية والأخلاق التي تعيشها هذه الأحزاب يمينها ووسطها ويسارها.
إذ لم تلبث أن أعلنت بعض الأجسام تبرؤها من هذا التحالف فور إعلان بيانه التأسيسي وأصدرت بيانات كشفت فيها تزوير توقيعها على البيان التأسيسي. ومن هذه الأجسام " منظمة أسر شهداء ديسمبر المجيدة"، التي قال أمينها العام أبوبكر عمر الامام، والد الشهيد عبد العظيم، في بيان صحفي، إن المنظمة لم تفوض أي شخص للتوقيع إنابة عنها في بيان تحالف التغيير الجذري، ولا تعرف من هو الذي مثل الأسر ووقع إنابة عنها في هذا التحالف، دون تفويض أو توكيل.
وكشف بيان انسحاب لجان المقاومة من "التحالف الاقتصادي لثورة ديسمبر" بسبب ظهور اسمه من ضمن الموقعين على بيان التغيير الجذري، دون معرفة الأعضاء، عن عمق فجوة الوعي بين الأحزاب وشباب الثورة. حيث أعلنت لجان المقاومة في بيانها أن “ظهور توقيع التحالف الاقتصادي لثورة ديسمبر، على بيان التغيير الجذري، بهذه الطريقة قد أثار حفيظة مكوناته غير المحزبة، سيما لجان المقاومة". وأوضحت بأنها وقعت على برنامج التحالف الاقتصادي ليس باعتباره جسما حزبيا، بل من منطلق كونه جسما تكنوقراطيا برامجيا، يُعنى باستحثاث الموارد الاقتصادية المحلية في سبيل إرساء بنية هيكلية اقتصادية متينة للسودان الذي نحلم به جميعا، دون ولوجه في سراديب التكتيكات السياسية بكافة أشكالها".
وكانت لجنة ضباط الشرطة المفصولين تعسفياً والمعاشيين (إنصاف) اعلنت في وقت سابق تبرؤها من التوقيع على الانضمام لـ (تحالف التغيير الجذري) وقالت في بيان تلقت(الديمقراطي) نسخة منه، إن “اللواء الصائغ لا يمثل كل مفصولي ومعاشيي الشرطة وبالتالي غير مفوض للحديث نيابة عنهم أو التوقيع على أي مواثيق أو الدخول في أي تحالفات سياسية" (3).
حزب بتاريخ وتجارب الحزب الشيوعي السياسية والاجتماعية والتنويرية يسقط مثل هذا السقوط، الذي يكشف عن تدهور مريع الحنكة والحكمة السياسية، التي تجعل قيادته لا تدرك الفرق بين التناقضات الرئيسية والتناقضات الثانوية، التي تحتاج إلى المرونة التكتيكية اللازمة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية ؟.
ما الفرق بينه وبين تجمع قحت وقوى الهبوط الناعم، وحتى الكيزان، ما الفرق الجوهري بينه وبينهم ؟.
أليست هي ذات الأجندة: التركيز على ما هو تكتيكي آني بشتى الوسائل، بما فيها "الاستهبال"، على حساب ما هو استراتيجي مستقبلي ومستدام ؟.
وإذا كان دافع قيادات قوى الحرية والتغيير الذي يجعلهم على تناقض مشين بين تحدثهم بلسان اللجان وقوى الثورة، بينما هم يطؤون في سبيل الوصول إلى فتات حلوى السلطة التي ذاقوا طعمها لماماً.
فإن شهوة الحكم الشمولي أعمت بصيرة قيادة الحزب الشيوعي عن رؤية التغيير الجذري الذي تبشر به، ويغفل المقدمات ليقفز إلى النتيجة.
وما كان أغنى الحرية والتغيير عن هذا التعهر السياسي.
وما كان أغنى الحزب الشيوعي عن فضيحة الكذب والغش والتزوير !.
لقد خسرا معاً هذا السباق العبثي واللامسؤول، بينما خصمهما المشترك يحصد كل يوم المزيد من أرواح الشباب، ويكسب المزيد من الأراضي، ويشتري المزيد من الوقت، ويمد لسان السخرية كل يوم للمجتمع الدولي بكذبة جديدة تمد الحبل وتطيل بقاءه في السلطة.
إنهم العقبة الكأداء أمام زحف الثورة الفتية، بمواقفهم الرمادية التي تعرف لها لوناً ولا تدري مع من هم؟ في أي صف يصطفون؟. يزعمون يومياً بأنهم مع الثورة، ولكنهم يعملون ضدها !.
ومع ذلك لا وجود للديمقراطية التي نتطلع إليها نظاماً للحكم دون أحزاب. وهذا يعني أن مكان كياناتهم هذه محفوظ في ظل الدولة الجديدة التي يستشهد الشباب يومياً لإرساء دعائمها.
ففيم العجلة؟
ولماذا يتم ذلك بكلفة عالية ترهق كاهل مستقبل البلاد/ شبابها وقواها العاملة؟.
كلمة أخيرة
قلتها لكم من قبل (4):
إنكم تتصارعون على فراخٍ لم يفقس بيضها بعد. وستحطمون البيض بصراعكم هذا.
تريثوا قليلاً دعوا الثورة تمضي في مسارها، ريثما يفقس بيضها عن فراخ الدولة الحديثة وساعتها ستتصارعون ديمقراطيا/ سلمياً على إدارتها وفق برامج وخطط مقترحة واضحة.
وإذا كان لكم أن تشاركوا في ملحمة التغيير، ليس عليكم سوى أن تتحدوا مع قوى الثورة الحية على هدف واحد: إسقاط هذا النظام، وإرساء قواعد نظام جديد.
والنظام الجديد لن يضعه أي حزب من أحزابكم تطبيقاً لرؤيته، ولكن سيضعه الشعب صاحب الحق، لأن الدولة دولة الشعب (كله) بكل مكوناته، وليست دولة أي حزب، أياً كانت أيديولوجيته أو رؤيته منفرداً، أو تصوره للدولة وحده.
فالدولة دولة الشعب.
والسلطة سلطة الشعب.
له السيادة على الدولة. لا ينازعه فيها حزب، أو أحد، أو مؤسسة، أو طائفة.
والأحزاب دورها أن تتصارع سلمياً في نظام ديمقراطي لإدارة الدولة بما يخدم ويحقق مصلحة الشعب.
والشعب هو الذي يحكم على أدائها.
فيعطي أمانة الحكم لمن يشاء وينزعها ممن يشاء.
أيها الأحزاب، تريدون السلطة ؟. اخضعوا لإرادة الشعب وسيادته تستحقونها.
من هو الشعب؟.
إنهم هؤلاء الذين يملؤون الشوارع ويفتحون صدورهم ببسالة ونبل لاسترداد دولتهم من مختطفيها.
هوامش ومصادر
(1) نعم للثورة والتغيير الجذري ... ولكن، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ
(2) الفاتح جبرا، إقرار ايجابي، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ، 26 يوليو, 2022.
(3) صحيفة الديمقراطي، انسحاب أجسام جديدة من تحالف التغيير الجذري، بتاريخ 25 يوليو, 2022.
(4) 1/ حتى لا تضلُّ بوصلة اللجان: في استعادة ذكرة الثورة (1/ 3)، نشر في سودانايل يوم 04 - 12 - 2020
2/ في اختبار الشرعية، لم ينجح أحد (2): الحواضن خانت الشارع، وتنازعوا الفراخ قبل أن يفقس البيض، بتاريخ 20 ديسمبر, 2021.
https://sudanile.com/%D9%81%D9%8A-
izzeddin9@gmail.com
وبالتالي سيتم اختزال الدولة في الحزب (1).
وحينها ستكون الدولة دولة الحزب، لا دولة المواطنين الذين تحكمهم. وهذه دولة محكومة بالفشل بلا أدنى شك. لأن نظمها وقوانينها ومؤسساتها ستكون مكرسة لتحقيق مصالح من ينتمون للحزب أو التنظيم أو الجماعة، ويتم إقصاء الآخرين.
(2)
لقد نبهنا إليه كثيراً بأن هناك فجوة في الوعي بطبيعة أهداف الثورة بين الشباب الذين فجروها ومهروها دمهم، ليعيدوا بناء وطنهم على أسس جديدة بديلة، وبين قيادات الأحزاب السياسية ونخب المجتمع المدني التي تسعى لإعادة إنتاج نظام الحكم، وتغيير البنية الفوقية للسلطة بإزاحة الطاقم الحاكم واحتلال مقعده بطاقم مدني، وتسمي ذلك حكم مدني ديمقراطي !.
ختمنا حديثاً بسؤالٍ، له عدة أوجه لهذه النخب والأحزاب:
هل يستطيعون التضحية بما لديهم من وعي مهترئ بالٍ، لم يعد يواكب إيقاع الشارع وقوى الثورة الحية والشباب ليحقق أهداف الثورة والتغيير الجذري ؟.
هل يستطيعون التضحية بنفوذهم وبكسبهم من الدولة القديمة، عبر مراحلها المختلفة منذ الاستقلال، ليشاركوا في بناء الدولة الجديدة ؟.
طرحنا السؤال ونحن على علم بإجابتهم. ليس تنبؤا، أو تخميناً ورجماً بالغيب، ولكن انطلاقاً من معرفة تاريخية بكيفية تشكلها، وبطبيعة تكوين بنيتها. كما انطلاقاً من رصد تاريخها السياسي ومواقفها في القضايا المفصلية.
- نحن نعرف مثلاً أن نصف إجابة الأحزاب على هذه الأسئلة معلوم بالضرورة ولا يحتاج إلى إفادتهم، لأنهم لن يفصحوا عنها.
وإجابتهم ستكون: نعم ...ولكن.
هذه الـ"لكن" لا تشكل مجرد حجر عثرة، وإنما جبلا لا يتزحزح من الوعي "ما قبل السياسي".
وعي طفولي "يحرن" أمام ما يريد ويملأ الدنيا صراخاً ولا يكف عن البكاء.
يريد كل حزب أن يكون هو قيادة الثورة، بل يريد أن يكون هو الثورة مجسدة. وهو مقتنع اقتناعاً أعمى بحق قيادته لها، ووضع أجندة مساراتها، وتطبيق رؤيته ما انتصارها، لأيديولوجيتها، ولشكل الدولة ونظام حكمها ومؤسساتها، وتوجيه مسارها الاقتصادي والاجتماعي وترتيب العلاقات بين مكوناتها.
وإذن كل الأحزاب والنخب مع الثورة والتغيير، ولكن وفق رؤية كل حزب منها.
وإذن بالتالي، بدلاً من أن يكون "التغيير هو الهدف". سيتحول الصراع بين هذه الأحزاب والنخب على: من الذي سيفوز بقيادة الثورة ويحرز قصب السبق !!. ويضيع التغيير – جذري وغير جذري – في ستين داهية غير مأسوف عليه.
أليس هذا هو عين العبث الطفولي .. واللامسؤولية ؟!.
نصف الإجابة الآخر جسدته عملياً مواقف الأحزاب والنخب والمنظمات.
- قوى الحرية والتغيير تمطقت وتلمظت قياداتها مذاق السلطة المسكر، رحبت ببيان قائد مليشيا الجنجويد حميدتي ووصفته بالإيجابي، فقد (حوى الخطاب إقرارا ببعض مطالب الحركة الجماهيرية وأهمها ضرورة تسليم السلطة، كاملة للمدنيين) حسب ما جاء في بيانهم، مع العلم بأن صفه كاملة لم ترد في خطابه أصلا. "وأظنه الاندفاع للتسوية القادمة هو الذي خيل لهم ذلك حتى يخدعوا به الشعب" ،حسب ما وصفه الفاتح جبرا (2).
يقولون ذلك ويتغافلون بأن خدعة البرهان/ حميدتي للرأي العالمي بالانسحاب من السلطة إنما هو مجرد "وهمة".
- وعلى عكس ما يمكنك أن تتوقع، تماهى موقف الحزب الشيوعي تماماً مع قوى الحرية والتغيير في السباق العبثي بينهما، للاستحواذ على السلطة التي ما فتئت تزداد قوة قبضة تحالف العسكر/ حميدتي/ الكيزان/ الحركات عليها، لانشغالهما بالصراع بينهما على فراخ الثورة التي لم "يفقس" بيضها بعد.
تحركت "قحت" في اتجاه التسوية مع العسكر خارجة على إجماع قوى الثورة، بأن لا تفاوض ولا تسوية ولا شراكة ولا شرعية للقتلة، ومتحدثة في ذات الوقت بلسانهم !.
فسارع الحزب الشيوعي، وقد ظن أن قيادة الثورة آلت إليه باردة، وحان قطاف ثمرتها عبر الثغرة التي فتحتها حقت، إلى تلفيق ولملمة تحالف جديد على عجلة من أمره، عبر واجهات مصطنعة من صفوف قوى المعارضة، يضم الحزب الشيوعي وأجسام مهنية ومطلبية معروفة. أطلق عليه "تحالف التغيير الجذري". وقد كشف هذا التحالف والطريقة التي تم بها تشكيله عن مدى عمق أزمة الوعي والمسؤولية والأخلاق التي تعيشها هذه الأحزاب يمينها ووسطها ويسارها.
إذ لم تلبث أن أعلنت بعض الأجسام تبرؤها من هذا التحالف فور إعلان بيانه التأسيسي وأصدرت بيانات كشفت فيها تزوير توقيعها على البيان التأسيسي. ومن هذه الأجسام " منظمة أسر شهداء ديسمبر المجيدة"، التي قال أمينها العام أبوبكر عمر الامام، والد الشهيد عبد العظيم، في بيان صحفي، إن المنظمة لم تفوض أي شخص للتوقيع إنابة عنها في بيان تحالف التغيير الجذري، ولا تعرف من هو الذي مثل الأسر ووقع إنابة عنها في هذا التحالف، دون تفويض أو توكيل.
وكشف بيان انسحاب لجان المقاومة من "التحالف الاقتصادي لثورة ديسمبر" بسبب ظهور اسمه من ضمن الموقعين على بيان التغيير الجذري، دون معرفة الأعضاء، عن عمق فجوة الوعي بين الأحزاب وشباب الثورة. حيث أعلنت لجان المقاومة في بيانها أن “ظهور توقيع التحالف الاقتصادي لثورة ديسمبر، على بيان التغيير الجذري، بهذه الطريقة قد أثار حفيظة مكوناته غير المحزبة، سيما لجان المقاومة". وأوضحت بأنها وقعت على برنامج التحالف الاقتصادي ليس باعتباره جسما حزبيا، بل من منطلق كونه جسما تكنوقراطيا برامجيا، يُعنى باستحثاث الموارد الاقتصادية المحلية في سبيل إرساء بنية هيكلية اقتصادية متينة للسودان الذي نحلم به جميعا، دون ولوجه في سراديب التكتيكات السياسية بكافة أشكالها".
وكانت لجنة ضباط الشرطة المفصولين تعسفياً والمعاشيين (إنصاف) اعلنت في وقت سابق تبرؤها من التوقيع على الانضمام لـ (تحالف التغيير الجذري) وقالت في بيان تلقت(الديمقراطي) نسخة منه، إن “اللواء الصائغ لا يمثل كل مفصولي ومعاشيي الشرطة وبالتالي غير مفوض للحديث نيابة عنهم أو التوقيع على أي مواثيق أو الدخول في أي تحالفات سياسية" (3).
حزب بتاريخ وتجارب الحزب الشيوعي السياسية والاجتماعية والتنويرية يسقط مثل هذا السقوط، الذي يكشف عن تدهور مريع الحنكة والحكمة السياسية، التي تجعل قيادته لا تدرك الفرق بين التناقضات الرئيسية والتناقضات الثانوية، التي تحتاج إلى المرونة التكتيكية اللازمة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية ؟.
ما الفرق بينه وبين تجمع قحت وقوى الهبوط الناعم، وحتى الكيزان، ما الفرق الجوهري بينه وبينهم ؟.
أليست هي ذات الأجندة: التركيز على ما هو تكتيكي آني بشتى الوسائل، بما فيها "الاستهبال"، على حساب ما هو استراتيجي مستقبلي ومستدام ؟.
وإذا كان دافع قيادات قوى الحرية والتغيير الذي يجعلهم على تناقض مشين بين تحدثهم بلسان اللجان وقوى الثورة، بينما هم يطؤون في سبيل الوصول إلى فتات حلوى السلطة التي ذاقوا طعمها لماماً.
فإن شهوة الحكم الشمولي أعمت بصيرة قيادة الحزب الشيوعي عن رؤية التغيير الجذري الذي تبشر به، ويغفل المقدمات ليقفز إلى النتيجة.
وما كان أغنى الحرية والتغيير عن هذا التعهر السياسي.
وما كان أغنى الحزب الشيوعي عن فضيحة الكذب والغش والتزوير !.
لقد خسرا معاً هذا السباق العبثي واللامسؤول، بينما خصمهما المشترك يحصد كل يوم المزيد من أرواح الشباب، ويكسب المزيد من الأراضي، ويشتري المزيد من الوقت، ويمد لسان السخرية كل يوم للمجتمع الدولي بكذبة جديدة تمد الحبل وتطيل بقاءه في السلطة.
إنهم العقبة الكأداء أمام زحف الثورة الفتية، بمواقفهم الرمادية التي تعرف لها لوناً ولا تدري مع من هم؟ في أي صف يصطفون؟. يزعمون يومياً بأنهم مع الثورة، ولكنهم يعملون ضدها !.
ومع ذلك لا وجود للديمقراطية التي نتطلع إليها نظاماً للحكم دون أحزاب. وهذا يعني أن مكان كياناتهم هذه محفوظ في ظل الدولة الجديدة التي يستشهد الشباب يومياً لإرساء دعائمها.
ففيم العجلة؟
ولماذا يتم ذلك بكلفة عالية ترهق كاهل مستقبل البلاد/ شبابها وقواها العاملة؟.
كلمة أخيرة
قلتها لكم من قبل (4):
إنكم تتصارعون على فراخٍ لم يفقس بيضها بعد. وستحطمون البيض بصراعكم هذا.
تريثوا قليلاً دعوا الثورة تمضي في مسارها، ريثما يفقس بيضها عن فراخ الدولة الحديثة وساعتها ستتصارعون ديمقراطيا/ سلمياً على إدارتها وفق برامج وخطط مقترحة واضحة.
وإذا كان لكم أن تشاركوا في ملحمة التغيير، ليس عليكم سوى أن تتحدوا مع قوى الثورة الحية على هدف واحد: إسقاط هذا النظام، وإرساء قواعد نظام جديد.
والنظام الجديد لن يضعه أي حزب من أحزابكم تطبيقاً لرؤيته، ولكن سيضعه الشعب صاحب الحق، لأن الدولة دولة الشعب (كله) بكل مكوناته، وليست دولة أي حزب، أياً كانت أيديولوجيته أو رؤيته منفرداً، أو تصوره للدولة وحده.
فالدولة دولة الشعب.
والسلطة سلطة الشعب.
له السيادة على الدولة. لا ينازعه فيها حزب، أو أحد، أو مؤسسة، أو طائفة.
والأحزاب دورها أن تتصارع سلمياً في نظام ديمقراطي لإدارة الدولة بما يخدم ويحقق مصلحة الشعب.
والشعب هو الذي يحكم على أدائها.
فيعطي أمانة الحكم لمن يشاء وينزعها ممن يشاء.
أيها الأحزاب، تريدون السلطة ؟. اخضعوا لإرادة الشعب وسيادته تستحقونها.
من هو الشعب؟.
إنهم هؤلاء الذين يملؤون الشوارع ويفتحون صدورهم ببسالة ونبل لاسترداد دولتهم من مختطفيها.
هوامش ومصادر
(1) نعم للثورة والتغيير الجذري ... ولكن، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ
(2) الفاتح جبرا، إقرار ايجابي، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ، 26 يوليو, 2022.
(3) صحيفة الديمقراطي، انسحاب أجسام جديدة من تحالف التغيير الجذري، بتاريخ 25 يوليو, 2022.
(4) 1/ حتى لا تضلُّ بوصلة اللجان: في استعادة ذكرة الثورة (1/ 3)، نشر في سودانايل يوم 04 - 12 - 2020
2/ في اختبار الشرعية، لم ينجح أحد (2): الحواضن خانت الشارع، وتنازعوا الفراخ قبل أن يفقس البيض، بتاريخ 20 ديسمبر, 2021.
https://sudanile.com/%D9%81%D9%8A-
izzeddin9@gmail.com