قراءة نقدية وتقييمية وتقويمية لمكتوب البرّاق النذير الورّاق وتعرية مجمل الخطاب التسووي (الخامسة والأخيرة)
الفاضل الهاشمي
6 September, 2022
6 September, 2022
مزالق وغربة خطاب النخب في سُدَّة المرحلة الإنتقالية
الفاضل الهاشمي
٦ سبتمبر ٢٠٢٢
أيها المارُّون بين الكلمات العابرة
كالغبار المُرّ مرّوا أينما شئتم
ولكنْ لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
فلنا في أرضنا ما نعملُ
ولنا قمح نربِّيه ونسقيه ندى أجسادنا
و لنا ما ليس يرضيكم هنا: حجر... أو حَجَلُ
فخذوا الماضي، إذا شئتم، إلى سوق التحفْ
و أعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، ان شئتم، على صحن خزفْ
فلنا ما ليس يرضيكم: لنا المستقبلُ
محمود درويش
ختام يخص مكتوب البراق:
حسناً ختم البراق مكتوبه الإشكالي بتواضع يفتح آفاقاً للتفكيك والنقد الثوري حين كتب "هذا بيان موجز ومقتضب عما حدث خلال الفترة المشار إليها في بداية هذا التقرير، وهو عمل قابل للإضافة والتصحيح والتفصيل والتحقيق". حيث هناك قضايا "لم تتم الإشارة إليها" عن قصد فكري مفهومي وبراغماتي يتعلق بذمة كاتب النص حمّال الأوجه جميعها كما رأينا. وكانت العترة أنه يأمل ويدعو قحت (دون سواها من مجلس الوزراء وشخصه) أن تعترف "بما وقع وتعتذر عنه بشكل معلن متبعة ذلك بنقد ذاتي جاد وتوبة نصوح عما وقع بقصد أو بغيره ليفيد حاضر ومستقبل بلادنا".
يسود وسط نخب الساسة عندنا بعد الثورة خطاب يضيق بالنقد ويسميه تخويناً ، ويخشي ويختشي من محمول عبارة الإقصاء التي بدونه لن تكون هناك ثورة جذرية تزيل التمكين والفساد المعمّر لذلك يستثمر البراق ذات الفضاء الخطابي بعقلية إعتذارية بقوله "إن الهدف الأسمى مما ورد ليس تجريم أشخاص أو أفراد أو مكونات بعينها...... ولذلك فضّل الكاتب اعتماد نهج أكثر موضوعية ما أمكن ذلك، بعيداً عن الشخصنة ورمى اللوم على طرف وشخص واسم وجهة دون الأخرى، فهذا النهج يمنع بقدر الإمكان تقييد العمل وحصره فيمن فعل وفيمن لم يفعل، كما وأنه يفتح الباب أمام تقييم جاد وكما يسمح بأن توضع المسؤولية على عاتق الجميع". كيف بربكم توضع مسؤولية، فعلتها قحت كما يقول البديهي المذكور من نص البراق، توضع على عاتق الجميع؟ والي ماذا ومن تشير قبائل "الجميع" التي ينوي البراق أن يوزّع دم الشهداء وأنّات الجرحي وأمهات الشهداء بينها، وأن نعلّق عليها محاولات خيانة ثورة ديسمبر؟.
يزعم البراق فى ختام نصه أنه حاول "جعله كمرآة في غرفة واسعة، كل من وقف أمامها، بمن فيهم شخصي، سيرى نفسه أولاً، ومن ثم سيرى الأشخاص والمتعلقات التي خلفه، فمن أراد رؤية عيوبه والاعتراف بها من أجل إصلاحها فله ذلك ومن أشاح عنها فهذا خياره. والوطن ومستقبله من وراء القصد". وضرب لنا مثلا ونسي نفسه أمام تلك المرآة كونه طفي نور الغرفة ولكنه لم يحاول أبدا أن يرى دور مجلس الوزراء ودوره شخصياً، كمستشار صحفي. لذلك يتورّط النص موضوعياً وأخلاقياً كون الشاهد نسي أن يحدّد جميع فاعلي الأدوار.
وثّق البراق في الإفادة المقتبسة أدناه ضيق أفق الحكام الانتقاليين وفساد إدارتهم وعلاقة ذلك بتغريب مشروع التغيير وتصفية ثوريته حين كتب "لم تفسح الحرية والتغيير في الوظائف والنشاطات المتعلقة بأجهزة الانتقال وقيادة الخدمة المدنية لقطاعات الشعب السوداني، بحيث لم تصبح ملكية مشروع التغيير حقاً للسودانيين كافة، بل كانت أغلب المواقع خاصة العليا والوسيطة يتم الترشيح لها وتسنمها عبر التعيين المباشر بذريعة الثقة وبذريعة أن الأكثر ثورية هو الأقدر على الإنجاز والعمل". ولكن البراق يضيّق واسعاً هنا حيث لا يعتني بمعيار مهم وهو أن يكون ذوو الكفاءة العالية ثوريين في المقام الأول حتي يطبقوا مطالب الثورة وأهمها تصفية المنظومة القديمة والدولة العميقة.
كلمة ختامية عامة:
(١) مغبة صناعة وإختراع خطاب التوافق التسووي:
عمل التكنوقراط الذين تصدوا لقيادة المرحلة الانتقالية والثورة فى عامها الثالث من جهة ، والأحزاب التي شارك قادتها تنفيذياً فيها (وضمناً اللجنة الأمنية ومليشياتها والحركات المسلحة من جهة أخري) ، عملوا جميعاً علي إعادة إنتاج و إختراع وصناعة نموذج هش يرضى عنه الشمال الكوني النيولبرالي ولا علاقة له بترسيخ شعارات الثورة وأهمها عدم فصل الاقتصادي من السياسي بإعادة ما نهبته المؤسسات العسكرية والأمنية ومليشيا الدعم السريع ، ثم تصفية وإزالة التمكين ، ثم ترسيخ الديمقراطية والحقوق الأساسية ودولة المواطنة.
أتاحت هذه القوي والمكونات (بقيادة د. حمدوك وقحت والحركات المسلحة لاحقاً) مقدراتها بسخاء وإمتياز لإعادة إحياء رفاة طائر فينيق النادي السياسي القديم الذي تسللت شرائح منه الي مائدة اللصوصية ربيبة مناهج العائد السريع والوجبات السريعة والفنادق والمحاصصات و"خلّص قفاك". غير أن لسان حال ثوار ديسمبر الشباب والكنداكات أكّد أن مستقبلهم المادي والرمزي (شروط التعليم والعمل والصحة) رهين بوقفة صامدة قوية كقوله "وَإِن كُلٌّ لما جَمِيعٌ لدينا مُحْضَرُون" وجلجل صدى الوقفة ومنطلقها وسياقها الثوري والفكري والأخلاقي عبر لاءآت الثوار الثلاثة (لاتفاوض، لا تسوية ، لا شراكة):
تعني لاءآت الثوار بوضوح أن الشعب السوداني لن ينخدع مرة أخرى أمام فكر واطروحات ثقافة دعوات الخنوع والخيانة والسمسرة والتسوية والهبوط الناعم وعلى عفا الله عما سلف وباركوها ياجماعة، كونه قد شرب من تلك الفناطيز ما يكفي ويفضّل من إبادات ومقابر جماعية ونزوح وهجرات وتقطيع أوصال الوطن ونهب موارده علي عينك يا تاجر وجبايات لا مزيد عليها فى حين تتسابق عمارات راس المال العقاري علواً نحو السماء وترسّخ غسيل الأموال والأنفس والثمرات والإدخارات فى الخارج وأسواق المخدرات والامتيازات وكروش الرجال الممتازين.
رغم تلك البداهات الثورية أصر نادي الطفيلية وأرزقية ومرتزقة الحروب وفلول الاسلام السياسي ورجال الأعمال الساسة ، أصروا جميعا وفى مقدمتهم رجالات جودية ما بعد الكولونيالية علي اختراع اتفاقية شراكة الدم والتوازن والتسوية واعقبتها بانقلاب ٢٥ اكتوبر والذي سينفض من حوله البعض خشية إملاقٍ وعري وتعرية.
ثورة ديسمبر نابهةٌ عازمةٌ جازمةٌ كاظمةْ لكونها تخطو نحو عامها الرابع وستكنس مؤسسة رجال الأعمال الساسة اللصوصية من مدنيين وعسكريين ومليشيا. لا بد أن هذا الموضع الفضائحي المخذي يحلم بإعادة إنتاج مخازي شبه الطائفية والراسمالية الطفيلية وخطابات الحذلقة واللعب بالمصالح والأرواح والإبادات. هذه الأجيال من رجال وكنداكات دفعوا دماً وعطالة وخواءً وحسرات من تاريخهم وأتاحت لهم ثورة التقنية والمعلومات بداهات أن الخلاص والتحرر والإنعتاق يتم عبر امتلاك صناعة القرار الاقتصادي والسياسي (مدنيواااا) وعدم فصلهما اطلاقاً ، ولسان حالهم أن: الموت جاك يا ظالم يا تارك الحكمة والانسنة والخلق القويم.
يعلم ثوار ديسمبر مغبة تاريخ الثورات والانتفاضات في السودان ولن يكرروها رغم أوهام الشيوخ ، وهو أنه لم تتم في تلك الثورات محاسبة القتلة أصلا والعدالة الانتقالية للضحايا: الضباط الذين قاموا بإنقلاب عبود ونميري ذهبوا طلقاء ويريد انقلابيو ١٩٨٩ وانقلابيو ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٠ التمتع بذات الحصانات والإفلات من العقاب ومواصلة السحل والاختلاس والرجوع للحكم مرة أخري تحت فوهات البنادق والتعذيب والقتل السريع بذريعة التجهيز لانتخابات دون تنظيف ملاعب العدالة الاجتماعية والعدالة الانتقالية وارجاع مؤسسات القطاع العام المنهوبة وتحقيق شعارات (حرية سلام وعدالة والعسكر للثكنات والجنجويد يتحل). يبدو أن الثورة السودانية تقتفي آثار الثورة الفرنسية كونها علي وشك إنجاز عامها الرابع طفلةً تحبو وصحصحت متيقّنة من آفاقها ومآلاتها وأعدائها والمندسين وأنصاف الثوار.
يعلم الثوار أن خبث وفساد النخب ومن والاهم يبدأ حيث تنتهي الشرعية الثورية، كما يعلمون جيداً مغبة فصل السياسي عن الاقتصادي ومغبات اللبرالية الجديدة التي تقودها نخب الطبقة الوسطي (ذوي الياقات البيضاء) والشريحة التي عملت في المنظمات العالمية والمجتمع المدني وتبنّت حزمة آيدلوجية ومفاهيم ورؤي ومصطلحات العولمة والليبرالية الجديدة والدفاع عن سياساتها في الخصخصة ورفع الدعم وتعويم العملة التي لا علاقة لها بمطالب الثورة في التنمية المتوازنة والتصنيع والسيادة الوطنية ومطالب المواطن الذي تفقره تلك السياسات.
(٢) حول خطاب التيار التسووي ودرقة مصطلح التخوين:
مثلما يستصحب الثوار الإرادة والوعي في معارك النضال السلمي الصبور كذلك أهمية وضرورة النقد الذاتي ونكران الذات ومحاربة حظوظ النفس وتكريب الخطاب الثوري يومياً وشحذ أقلام الفنانين/ات وريشتهم وأوتارهم وقيثاراتهن. وطالما تعاف نخب الطبقة الوسطي التي قادت المرحلة الإنتقالية من تعرية خطاياها وترفض النقد الشافي وتسمي المطالبة به "تخوين" مثلما تميل عقلية البرجوازي الصغير للتأفف والضجر من مواجهة أخطائه وأفكاره وسياساته ونقدها مثلما يصيبه الخدر وهو يكتفي بعقلية رزق اليوم باليوم ويتطلّع نحو إحتمال صعوده الوزاري. من عقبات الثورة الكؤودة سيادة ظاهرة تأجيل النقد والنقد الذاتي ويمارسها في الأدب السياسي السوداني تيار تسووي عريض أو ما سمي بمشروع الهبوط الناعم مع النظام القديم والذي تبنته مجموعة من الأكاديميين والتكنوقراط والساسة من أحزاب سودانية معروفة إبتدره المبعوث الامريكي للسودان، برنستون ليمان، تحت عنوان ”الطريق إلى الحوار الوطني فى السودان“ حوالي ٢٠١٤ بُعيد تنفيذ إتفاقية السلام الشامل. تمخض مشروع الهبوط التسووي الناعم عن عدة مبادرات ضمنها الدعوة لإنتخابات ٢٠٢٠ واجتماعات عديدة فى المدن الأوروبية والأمريكية والأفريقية وآخرها إجتماع الساسة السودانيين فى أديس أبابا عشية ثورة ديسمبر ٢٠١٨، الذين إنفض سامرهم قبل سويعات من إنفجار الشارع السوداني ، ولكنهم سرعان ما غيروا منهجهم وبدّلوا جلابيبهم وياقاتهم السماوية اللون و البيضاء والتحقوا بالثورة بقضهم وقضيضهم واستلموا مكبرات الصوت العالية واللايفات والوسائط الإجتماعية والصحف والمجلات والفضائيات.
أرباب هذا المشروع هم خدم رأس المال الطفيلي المصرفي التجاري الريعي وهو مشروع ذو سمات ومميزات لخطاب سياسي لحمته وسداه تبنّي واستيعاب ووراثة النظام القديم بالتحالف مع أهله وإعادة صياغته اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ودينياً وثقافياً متى تهيأت الشروط المادية والرمزية والذاتية والموضوعية. أما عبارة "التخوين" من أكثر العبارات والمفردات التي يسوّقها دعاة التسوية والهبوط الناعم من أكاديميين وساسة وتكنوقراط بغية إتقاء شر النقد اللاذع لسياساتهم وأفعالهم منذ الدعوة إلى انتخابات ٢٠٢٠ وبُعيد ثورة ديسمبر خاصة في تبرير الشراكة مع العسكر والجنجويد وبقايا النظام المدحور بذريعة أنهم شركاء أساسيون، لكن سرعان ما ابتلعوا تلك الخطيئة التي سنّها د. حمدوك. استمر التمترس بعبارة التخوين كدرقة خطابية أو منصة يوطّدون في فضائها مشروعهم الهابط التسووي. الخيانة تقدّم دعاة التسوية وتبراهم ليس في التغنّي بالشراكة مع الجنرالات رجال الأعمال الساسة حتي غشتهم الغاشية فحسب، وانما في تسليم مفاتيح البلد وإقتسام ونهب مواردها وذهبها وبقلها وقثَّائها وفومِها وعدسها وبصلها ولحومها مع الكيانات والمؤسسات الإقليمية والدولية السياسية والتجارية.
قررت نخب المرحلة الإنتقالية الحاكمة وحاضنتها في البدء ألا إستوزار للحزبيين والنقابيين وعزموا علي تسليم رسن الوزارات إلى مستقلين أكفاء، لكن غلب الطبع الطبقي للبرجوازي الصغير علي التطبّع فهرولوا نحو امتيازات السلطة والمحاصصات حتي غدر بهم رجال الأعمال الساسة الجنرالات. هكذا إستمرأ دعاة التسوية خيانة عهودهم، وهذا يُسمّي في القواميس خيانة وليس تخويناً.
يحلم مشروع التسوية القادم برومانسية عربيدة عنيدة مخادعة بإعادة سيناريو إتفاق حمدوك-البرهان بعد انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ وهو أنهم سيحافظون علي المكتسبات الاقتصادية التي تحققت خلال الفترة الماضية للحكومة الانتقالية، ولحماية ظهر الانقلاب من الحظر الدولي عليهم كمتهمين بالقتل والإبادات قديمها وحديثها ، ثم مواصلة المنح والقروض التي اتضح عالمياً كيفية سرقتها ومعاودة أوهام إتفاقية الهيبك لإعفاء الديون ليستمر اللّغْف الجديد للقروض الجديدة.
خلاصة الخلاصة:
جوهر نجاح السيناريو الثوري هو ترسيخ الديمقراطية والحكم المدني وليس فقط هزيمة الإنقلاب عبر الثوابت التالية:
أولاً: تخلّق التحالف اللصوصي الحاكم في العقود الثلاثة منذ إنقلاب ١٩٨٩ الذي قادته ونفذته حركة الأخوان المسلمين السودانية (بمختلف مسمياتها الحربائية) ، تخلّق في نهايات عهد نميري عبر تدفق راس المال الخليجي (صدقي كبلو) في البنوك الإسلامية التي كانت نواة رأسمالية تجارية ومصرفية ضاربت ورابحت وخزّنت تقريباً حتي عام ٢٠٠٠. ثم أتاح البترول، كسلعة ريعية تقوم علي إنتاجها شركات أجنبية صينية وماليزية وهندية، أموالاً تصب في البدء مباشرة في خزينة الدولة، أتاح للحزب الحاكم الكيزاني تحرراً شبه كامل من القوي المنتجة، نقدية ومعيشية، وتفوقاً سياسياً علي كل منافس سوى من أستعد لتحدي هيمنته بالصراع المسلح (مجدي الجزولي). منذ ٢٠٠٠ تكونت راسمالية طفيلية تابعة للحزب الحاكم واستغلت سطوة الدولة لتنهب جزءاً كبيراً من الريع البترولي الذي لم يودع في خزينة الدولة، وظلت تُقصي وتنهب الراسمالية السودانية القديمة عبر آليات عديدة منها سطوة النظام المصرفي التسليفي و المنظومة القانونية، كما استخدمت آليات خصخصة مشاريع القطاع العام الكبري للثراء الفاحش السريع. الشاهد أن الفضاء السوداني الاقتصادي السياسي السوداني إزاء أزمة كبري تتعلّق بتصفية القطاع العام وموازنته وسيطرة راسمالية الأخوان المسلمين الطفيلية علي القطاع النفطي. لاحظ الآن حماس تيار دعاة انتخابات ٢٠٢٠ (حليف منهج واستراتيجية الهبوط الناعم) لبث سموم أطروحة "إستيعاب" الإسلاميين (اسم دلع الأخوان المسلمين) البائسة مادياً وأخلاقياً وفكرياً. وضعت عبارة إستيعاب بين قوسين علّها تخفف وطء بلاهة العبارة وقاذوراتها المحسوسة. أقول قاذوراتها كون المغالطة في منطق الأشياء وبداهتها وغباء الأطروحة هو: كيف تستوعب قوي الثورة من ثارت ضد ثروته المنهوبة ومن قتل شهدائها وأبادهم!!. كيف يعقل منطقياً أن تستوعب من نهب اكثر من ٨٢٪ من موارد القطاع العام وما انفك جنرالاته ينهبون الموارد ويهربون الذهب والماشية!.
ثانياً: لم تنتبه نخب المرحلة الانتقالية أن العقبة الكؤود امام الديمقراطية والمدنية في السودان هو حدّة الصراع حول السلطة والثروة والتي تكالبت عليهما فلول الأخوان المسلمين، بمختلف مسمياتها وفروعها، والمؤسسة العسكرية والأمنية ومليشيا الجنجويد (والحركات المسلحة الجديدة بعد اتفاق سلام جوبا) بلصوصية دموية. تغافلت وتتغافل نخب (قحت) في السودان هذه الحقيقة الموضوعية وهرولت نحو نموذج الشراكة مع العسكر في كيكة ممحوقة أصلا ومنظومة فاسدة بإطلاق تفصل الاقتصادي عن السياسي، لذلك تصر تلك النخب علي معاودة الشراكة والتفاوض مع الجنرالات للتقرب من السلطة والثروة وتتجدد محاولات التفاوض والتسوية "متي تبدلت قيمة المهور السياسية في بازار التفاوض بدواع باطنية واخري جيوسياسية اقليمية ودولية " (الكس دوال) ، كون مقاومات الشعوب السودانية ظلّلت عبر مكوناتها الرعوية والزراعية والعمالية والمهنية والطلابية والإثنية والنسوية منذ الإستقلال تثور وتقاوم أدوات عنف وقهر ولصوصية ودموية الدولة لإستلاب مواردها البشرية والطبيعية من باطن الأرض وفوقها وإستغلال قوة عملهم وتجبي ضرائبياً ما تبقي من النهب (الكس دوال).
ثالثاً: لا بد من فصل الإقتصادي عن السياسي حتي يتسنّي فك الاختناق الاقتصادي والبراح السياسي الثوري، كون جُل صادرات السودان خارج الميزانية وخارج سيطرة وزارة المالية، وان شركات القطاع العام منهوبة من المؤسسات العسكرية.
رابعاً: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومن ثم ترسيخ مؤسسات العدالة الانتقالية ومحاكمة القتلة منذ ١٩٨٩ وأثناء ثورة ديسمبر المستمرة ، خاصة مرحلة بعد إنقلاب ٢٥ اكتوبر.
خامساً: إيقاف النهب اليومي خارج ما نهب من ٨٢٪ من الموارد وهو تضخيم نصيب تلك المؤسسة العسكرية وجنرالاتها وأمنها من موازنات ثورة ديسمبر العامة (موازنات ٢٠٢٠ و ٢٠٢١ و ٢٠٢٢) من مرتبات ومخصصات وامتيازات يدفعها الشعب من ضرائب غير مباشرة وأتاوات آنية أو من المنح تذهب لتوفير عتاد الأجهزة الأمنية والقمعية من حوافز ورصاص وبمبان. تلك الأعباء اليومية الدموية لم ولن تدفع فواتيرها شركات المؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيات. ما زال جنرالات الإنقلاب والحركات المسلحة يصرفون علي آلات قمعهم اليومية من موارد وزارة المالية و "إحتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي لمواجهة الصرف على الانقلاب وتأمينه وبالتالي أصبح النظام الانقلابي مكشوفا من الناحية الاقتصادية والمالية" كما نبهنا أستاذ الهادي هباني. وسيظل النزيف المالي اليومي لدفع "الالتزامات المترتبة على اتفاق سلام محاصصات جوبا أي الإنفاق علي جبريل وقواته، ومناوي وقواته، وعقار وحجر والهادي إدريس وقواتهم، وأيضا علي السيد التوم هجو كممثل لمسار الوسط الهلامي". هذا هو التحدي العظيم الذي سيواجه دعاة التسوية ولن يسعفهم الكلام المجاني عن الإسراع في عملية الانتخابات. يعلم جنرالات الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة جيداً هذه التحديات القياموية ولذلك يصرون علي زيادة عداد الشهداء ووتائر التعذيب لمزيد من التخويف.
مراجع:
صدقي كبلو، "حول نظرية الثورة السودانية"، مسودة ١٩٩٠ منقول من مقال مجدي الجزولي.
مجدي الجزولي "اليسار في السودان: موارده وتحدياته المعاصرة" من كتاب "خارطة اليسار العربي: تونس- مصر- اليمن- السودان- المغرب – الجزائر ، سبتمبر ٢٠١٢؛ مقتطف الكس دوال.
الهادي هبّاني "إتفاق البرهان حمدوك لتمكين المافيا الاقتصادية وإفقار الشعب" ، الراكوبة، ٢٧ نوفمبر ٢٠٢١.
https://www.alrakoba.net/31649186/اتفاق-البرهان-حمدوك-لتمكين-المافيا-ال/
elsharief@gmail.com
الفاضل الهاشمي
٦ سبتمبر ٢٠٢٢
أيها المارُّون بين الكلمات العابرة
كالغبار المُرّ مرّوا أينما شئتم
ولكنْ لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
فلنا في أرضنا ما نعملُ
ولنا قمح نربِّيه ونسقيه ندى أجسادنا
و لنا ما ليس يرضيكم هنا: حجر... أو حَجَلُ
فخذوا الماضي، إذا شئتم، إلى سوق التحفْ
و أعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، ان شئتم، على صحن خزفْ
فلنا ما ليس يرضيكم: لنا المستقبلُ
محمود درويش
ختام يخص مكتوب البراق:
حسناً ختم البراق مكتوبه الإشكالي بتواضع يفتح آفاقاً للتفكيك والنقد الثوري حين كتب "هذا بيان موجز ومقتضب عما حدث خلال الفترة المشار إليها في بداية هذا التقرير، وهو عمل قابل للإضافة والتصحيح والتفصيل والتحقيق". حيث هناك قضايا "لم تتم الإشارة إليها" عن قصد فكري مفهومي وبراغماتي يتعلق بذمة كاتب النص حمّال الأوجه جميعها كما رأينا. وكانت العترة أنه يأمل ويدعو قحت (دون سواها من مجلس الوزراء وشخصه) أن تعترف "بما وقع وتعتذر عنه بشكل معلن متبعة ذلك بنقد ذاتي جاد وتوبة نصوح عما وقع بقصد أو بغيره ليفيد حاضر ومستقبل بلادنا".
يسود وسط نخب الساسة عندنا بعد الثورة خطاب يضيق بالنقد ويسميه تخويناً ، ويخشي ويختشي من محمول عبارة الإقصاء التي بدونه لن تكون هناك ثورة جذرية تزيل التمكين والفساد المعمّر لذلك يستثمر البراق ذات الفضاء الخطابي بعقلية إعتذارية بقوله "إن الهدف الأسمى مما ورد ليس تجريم أشخاص أو أفراد أو مكونات بعينها...... ولذلك فضّل الكاتب اعتماد نهج أكثر موضوعية ما أمكن ذلك، بعيداً عن الشخصنة ورمى اللوم على طرف وشخص واسم وجهة دون الأخرى، فهذا النهج يمنع بقدر الإمكان تقييد العمل وحصره فيمن فعل وفيمن لم يفعل، كما وأنه يفتح الباب أمام تقييم جاد وكما يسمح بأن توضع المسؤولية على عاتق الجميع". كيف بربكم توضع مسؤولية، فعلتها قحت كما يقول البديهي المذكور من نص البراق، توضع على عاتق الجميع؟ والي ماذا ومن تشير قبائل "الجميع" التي ينوي البراق أن يوزّع دم الشهداء وأنّات الجرحي وأمهات الشهداء بينها، وأن نعلّق عليها محاولات خيانة ثورة ديسمبر؟.
يزعم البراق فى ختام نصه أنه حاول "جعله كمرآة في غرفة واسعة، كل من وقف أمامها، بمن فيهم شخصي، سيرى نفسه أولاً، ومن ثم سيرى الأشخاص والمتعلقات التي خلفه، فمن أراد رؤية عيوبه والاعتراف بها من أجل إصلاحها فله ذلك ومن أشاح عنها فهذا خياره. والوطن ومستقبله من وراء القصد". وضرب لنا مثلا ونسي نفسه أمام تلك المرآة كونه طفي نور الغرفة ولكنه لم يحاول أبدا أن يرى دور مجلس الوزراء ودوره شخصياً، كمستشار صحفي. لذلك يتورّط النص موضوعياً وأخلاقياً كون الشاهد نسي أن يحدّد جميع فاعلي الأدوار.
وثّق البراق في الإفادة المقتبسة أدناه ضيق أفق الحكام الانتقاليين وفساد إدارتهم وعلاقة ذلك بتغريب مشروع التغيير وتصفية ثوريته حين كتب "لم تفسح الحرية والتغيير في الوظائف والنشاطات المتعلقة بأجهزة الانتقال وقيادة الخدمة المدنية لقطاعات الشعب السوداني، بحيث لم تصبح ملكية مشروع التغيير حقاً للسودانيين كافة، بل كانت أغلب المواقع خاصة العليا والوسيطة يتم الترشيح لها وتسنمها عبر التعيين المباشر بذريعة الثقة وبذريعة أن الأكثر ثورية هو الأقدر على الإنجاز والعمل". ولكن البراق يضيّق واسعاً هنا حيث لا يعتني بمعيار مهم وهو أن يكون ذوو الكفاءة العالية ثوريين في المقام الأول حتي يطبقوا مطالب الثورة وأهمها تصفية المنظومة القديمة والدولة العميقة.
كلمة ختامية عامة:
(١) مغبة صناعة وإختراع خطاب التوافق التسووي:
عمل التكنوقراط الذين تصدوا لقيادة المرحلة الانتقالية والثورة فى عامها الثالث من جهة ، والأحزاب التي شارك قادتها تنفيذياً فيها (وضمناً اللجنة الأمنية ومليشياتها والحركات المسلحة من جهة أخري) ، عملوا جميعاً علي إعادة إنتاج و إختراع وصناعة نموذج هش يرضى عنه الشمال الكوني النيولبرالي ولا علاقة له بترسيخ شعارات الثورة وأهمها عدم فصل الاقتصادي من السياسي بإعادة ما نهبته المؤسسات العسكرية والأمنية ومليشيا الدعم السريع ، ثم تصفية وإزالة التمكين ، ثم ترسيخ الديمقراطية والحقوق الأساسية ودولة المواطنة.
أتاحت هذه القوي والمكونات (بقيادة د. حمدوك وقحت والحركات المسلحة لاحقاً) مقدراتها بسخاء وإمتياز لإعادة إحياء رفاة طائر فينيق النادي السياسي القديم الذي تسللت شرائح منه الي مائدة اللصوصية ربيبة مناهج العائد السريع والوجبات السريعة والفنادق والمحاصصات و"خلّص قفاك". غير أن لسان حال ثوار ديسمبر الشباب والكنداكات أكّد أن مستقبلهم المادي والرمزي (شروط التعليم والعمل والصحة) رهين بوقفة صامدة قوية كقوله "وَإِن كُلٌّ لما جَمِيعٌ لدينا مُحْضَرُون" وجلجل صدى الوقفة ومنطلقها وسياقها الثوري والفكري والأخلاقي عبر لاءآت الثوار الثلاثة (لاتفاوض، لا تسوية ، لا شراكة):
تعني لاءآت الثوار بوضوح أن الشعب السوداني لن ينخدع مرة أخرى أمام فكر واطروحات ثقافة دعوات الخنوع والخيانة والسمسرة والتسوية والهبوط الناعم وعلى عفا الله عما سلف وباركوها ياجماعة، كونه قد شرب من تلك الفناطيز ما يكفي ويفضّل من إبادات ومقابر جماعية ونزوح وهجرات وتقطيع أوصال الوطن ونهب موارده علي عينك يا تاجر وجبايات لا مزيد عليها فى حين تتسابق عمارات راس المال العقاري علواً نحو السماء وترسّخ غسيل الأموال والأنفس والثمرات والإدخارات فى الخارج وأسواق المخدرات والامتيازات وكروش الرجال الممتازين.
رغم تلك البداهات الثورية أصر نادي الطفيلية وأرزقية ومرتزقة الحروب وفلول الاسلام السياسي ورجال الأعمال الساسة ، أصروا جميعا وفى مقدمتهم رجالات جودية ما بعد الكولونيالية علي اختراع اتفاقية شراكة الدم والتوازن والتسوية واعقبتها بانقلاب ٢٥ اكتوبر والذي سينفض من حوله البعض خشية إملاقٍ وعري وتعرية.
ثورة ديسمبر نابهةٌ عازمةٌ جازمةٌ كاظمةْ لكونها تخطو نحو عامها الرابع وستكنس مؤسسة رجال الأعمال الساسة اللصوصية من مدنيين وعسكريين ومليشيا. لا بد أن هذا الموضع الفضائحي المخذي يحلم بإعادة إنتاج مخازي شبه الطائفية والراسمالية الطفيلية وخطابات الحذلقة واللعب بالمصالح والأرواح والإبادات. هذه الأجيال من رجال وكنداكات دفعوا دماً وعطالة وخواءً وحسرات من تاريخهم وأتاحت لهم ثورة التقنية والمعلومات بداهات أن الخلاص والتحرر والإنعتاق يتم عبر امتلاك صناعة القرار الاقتصادي والسياسي (مدنيواااا) وعدم فصلهما اطلاقاً ، ولسان حالهم أن: الموت جاك يا ظالم يا تارك الحكمة والانسنة والخلق القويم.
يعلم ثوار ديسمبر مغبة تاريخ الثورات والانتفاضات في السودان ولن يكرروها رغم أوهام الشيوخ ، وهو أنه لم تتم في تلك الثورات محاسبة القتلة أصلا والعدالة الانتقالية للضحايا: الضباط الذين قاموا بإنقلاب عبود ونميري ذهبوا طلقاء ويريد انقلابيو ١٩٨٩ وانقلابيو ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٠ التمتع بذات الحصانات والإفلات من العقاب ومواصلة السحل والاختلاس والرجوع للحكم مرة أخري تحت فوهات البنادق والتعذيب والقتل السريع بذريعة التجهيز لانتخابات دون تنظيف ملاعب العدالة الاجتماعية والعدالة الانتقالية وارجاع مؤسسات القطاع العام المنهوبة وتحقيق شعارات (حرية سلام وعدالة والعسكر للثكنات والجنجويد يتحل). يبدو أن الثورة السودانية تقتفي آثار الثورة الفرنسية كونها علي وشك إنجاز عامها الرابع طفلةً تحبو وصحصحت متيقّنة من آفاقها ومآلاتها وأعدائها والمندسين وأنصاف الثوار.
يعلم الثوار أن خبث وفساد النخب ومن والاهم يبدأ حيث تنتهي الشرعية الثورية، كما يعلمون جيداً مغبة فصل السياسي عن الاقتصادي ومغبات اللبرالية الجديدة التي تقودها نخب الطبقة الوسطي (ذوي الياقات البيضاء) والشريحة التي عملت في المنظمات العالمية والمجتمع المدني وتبنّت حزمة آيدلوجية ومفاهيم ورؤي ومصطلحات العولمة والليبرالية الجديدة والدفاع عن سياساتها في الخصخصة ورفع الدعم وتعويم العملة التي لا علاقة لها بمطالب الثورة في التنمية المتوازنة والتصنيع والسيادة الوطنية ومطالب المواطن الذي تفقره تلك السياسات.
(٢) حول خطاب التيار التسووي ودرقة مصطلح التخوين:
مثلما يستصحب الثوار الإرادة والوعي في معارك النضال السلمي الصبور كذلك أهمية وضرورة النقد الذاتي ونكران الذات ومحاربة حظوظ النفس وتكريب الخطاب الثوري يومياً وشحذ أقلام الفنانين/ات وريشتهم وأوتارهم وقيثاراتهن. وطالما تعاف نخب الطبقة الوسطي التي قادت المرحلة الإنتقالية من تعرية خطاياها وترفض النقد الشافي وتسمي المطالبة به "تخوين" مثلما تميل عقلية البرجوازي الصغير للتأفف والضجر من مواجهة أخطائه وأفكاره وسياساته ونقدها مثلما يصيبه الخدر وهو يكتفي بعقلية رزق اليوم باليوم ويتطلّع نحو إحتمال صعوده الوزاري. من عقبات الثورة الكؤودة سيادة ظاهرة تأجيل النقد والنقد الذاتي ويمارسها في الأدب السياسي السوداني تيار تسووي عريض أو ما سمي بمشروع الهبوط الناعم مع النظام القديم والذي تبنته مجموعة من الأكاديميين والتكنوقراط والساسة من أحزاب سودانية معروفة إبتدره المبعوث الامريكي للسودان، برنستون ليمان، تحت عنوان ”الطريق إلى الحوار الوطني فى السودان“ حوالي ٢٠١٤ بُعيد تنفيذ إتفاقية السلام الشامل. تمخض مشروع الهبوط التسووي الناعم عن عدة مبادرات ضمنها الدعوة لإنتخابات ٢٠٢٠ واجتماعات عديدة فى المدن الأوروبية والأمريكية والأفريقية وآخرها إجتماع الساسة السودانيين فى أديس أبابا عشية ثورة ديسمبر ٢٠١٨، الذين إنفض سامرهم قبل سويعات من إنفجار الشارع السوداني ، ولكنهم سرعان ما غيروا منهجهم وبدّلوا جلابيبهم وياقاتهم السماوية اللون و البيضاء والتحقوا بالثورة بقضهم وقضيضهم واستلموا مكبرات الصوت العالية واللايفات والوسائط الإجتماعية والصحف والمجلات والفضائيات.
أرباب هذا المشروع هم خدم رأس المال الطفيلي المصرفي التجاري الريعي وهو مشروع ذو سمات ومميزات لخطاب سياسي لحمته وسداه تبنّي واستيعاب ووراثة النظام القديم بالتحالف مع أهله وإعادة صياغته اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ودينياً وثقافياً متى تهيأت الشروط المادية والرمزية والذاتية والموضوعية. أما عبارة "التخوين" من أكثر العبارات والمفردات التي يسوّقها دعاة التسوية والهبوط الناعم من أكاديميين وساسة وتكنوقراط بغية إتقاء شر النقد اللاذع لسياساتهم وأفعالهم منذ الدعوة إلى انتخابات ٢٠٢٠ وبُعيد ثورة ديسمبر خاصة في تبرير الشراكة مع العسكر والجنجويد وبقايا النظام المدحور بذريعة أنهم شركاء أساسيون، لكن سرعان ما ابتلعوا تلك الخطيئة التي سنّها د. حمدوك. استمر التمترس بعبارة التخوين كدرقة خطابية أو منصة يوطّدون في فضائها مشروعهم الهابط التسووي. الخيانة تقدّم دعاة التسوية وتبراهم ليس في التغنّي بالشراكة مع الجنرالات رجال الأعمال الساسة حتي غشتهم الغاشية فحسب، وانما في تسليم مفاتيح البلد وإقتسام ونهب مواردها وذهبها وبقلها وقثَّائها وفومِها وعدسها وبصلها ولحومها مع الكيانات والمؤسسات الإقليمية والدولية السياسية والتجارية.
قررت نخب المرحلة الإنتقالية الحاكمة وحاضنتها في البدء ألا إستوزار للحزبيين والنقابيين وعزموا علي تسليم رسن الوزارات إلى مستقلين أكفاء، لكن غلب الطبع الطبقي للبرجوازي الصغير علي التطبّع فهرولوا نحو امتيازات السلطة والمحاصصات حتي غدر بهم رجال الأعمال الساسة الجنرالات. هكذا إستمرأ دعاة التسوية خيانة عهودهم، وهذا يُسمّي في القواميس خيانة وليس تخويناً.
يحلم مشروع التسوية القادم برومانسية عربيدة عنيدة مخادعة بإعادة سيناريو إتفاق حمدوك-البرهان بعد انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ وهو أنهم سيحافظون علي المكتسبات الاقتصادية التي تحققت خلال الفترة الماضية للحكومة الانتقالية، ولحماية ظهر الانقلاب من الحظر الدولي عليهم كمتهمين بالقتل والإبادات قديمها وحديثها ، ثم مواصلة المنح والقروض التي اتضح عالمياً كيفية سرقتها ومعاودة أوهام إتفاقية الهيبك لإعفاء الديون ليستمر اللّغْف الجديد للقروض الجديدة.
خلاصة الخلاصة:
جوهر نجاح السيناريو الثوري هو ترسيخ الديمقراطية والحكم المدني وليس فقط هزيمة الإنقلاب عبر الثوابت التالية:
أولاً: تخلّق التحالف اللصوصي الحاكم في العقود الثلاثة منذ إنقلاب ١٩٨٩ الذي قادته ونفذته حركة الأخوان المسلمين السودانية (بمختلف مسمياتها الحربائية) ، تخلّق في نهايات عهد نميري عبر تدفق راس المال الخليجي (صدقي كبلو) في البنوك الإسلامية التي كانت نواة رأسمالية تجارية ومصرفية ضاربت ورابحت وخزّنت تقريباً حتي عام ٢٠٠٠. ثم أتاح البترول، كسلعة ريعية تقوم علي إنتاجها شركات أجنبية صينية وماليزية وهندية، أموالاً تصب في البدء مباشرة في خزينة الدولة، أتاح للحزب الحاكم الكيزاني تحرراً شبه كامل من القوي المنتجة، نقدية ومعيشية، وتفوقاً سياسياً علي كل منافس سوى من أستعد لتحدي هيمنته بالصراع المسلح (مجدي الجزولي). منذ ٢٠٠٠ تكونت راسمالية طفيلية تابعة للحزب الحاكم واستغلت سطوة الدولة لتنهب جزءاً كبيراً من الريع البترولي الذي لم يودع في خزينة الدولة، وظلت تُقصي وتنهب الراسمالية السودانية القديمة عبر آليات عديدة منها سطوة النظام المصرفي التسليفي و المنظومة القانونية، كما استخدمت آليات خصخصة مشاريع القطاع العام الكبري للثراء الفاحش السريع. الشاهد أن الفضاء السوداني الاقتصادي السياسي السوداني إزاء أزمة كبري تتعلّق بتصفية القطاع العام وموازنته وسيطرة راسمالية الأخوان المسلمين الطفيلية علي القطاع النفطي. لاحظ الآن حماس تيار دعاة انتخابات ٢٠٢٠ (حليف منهج واستراتيجية الهبوط الناعم) لبث سموم أطروحة "إستيعاب" الإسلاميين (اسم دلع الأخوان المسلمين) البائسة مادياً وأخلاقياً وفكرياً. وضعت عبارة إستيعاب بين قوسين علّها تخفف وطء بلاهة العبارة وقاذوراتها المحسوسة. أقول قاذوراتها كون المغالطة في منطق الأشياء وبداهتها وغباء الأطروحة هو: كيف تستوعب قوي الثورة من ثارت ضد ثروته المنهوبة ومن قتل شهدائها وأبادهم!!. كيف يعقل منطقياً أن تستوعب من نهب اكثر من ٨٢٪ من موارد القطاع العام وما انفك جنرالاته ينهبون الموارد ويهربون الذهب والماشية!.
ثانياً: لم تنتبه نخب المرحلة الانتقالية أن العقبة الكؤود امام الديمقراطية والمدنية في السودان هو حدّة الصراع حول السلطة والثروة والتي تكالبت عليهما فلول الأخوان المسلمين، بمختلف مسمياتها وفروعها، والمؤسسة العسكرية والأمنية ومليشيا الجنجويد (والحركات المسلحة الجديدة بعد اتفاق سلام جوبا) بلصوصية دموية. تغافلت وتتغافل نخب (قحت) في السودان هذه الحقيقة الموضوعية وهرولت نحو نموذج الشراكة مع العسكر في كيكة ممحوقة أصلا ومنظومة فاسدة بإطلاق تفصل الاقتصادي عن السياسي، لذلك تصر تلك النخب علي معاودة الشراكة والتفاوض مع الجنرالات للتقرب من السلطة والثروة وتتجدد محاولات التفاوض والتسوية "متي تبدلت قيمة المهور السياسية في بازار التفاوض بدواع باطنية واخري جيوسياسية اقليمية ودولية " (الكس دوال) ، كون مقاومات الشعوب السودانية ظلّلت عبر مكوناتها الرعوية والزراعية والعمالية والمهنية والطلابية والإثنية والنسوية منذ الإستقلال تثور وتقاوم أدوات عنف وقهر ولصوصية ودموية الدولة لإستلاب مواردها البشرية والطبيعية من باطن الأرض وفوقها وإستغلال قوة عملهم وتجبي ضرائبياً ما تبقي من النهب (الكس دوال).
ثالثاً: لا بد من فصل الإقتصادي عن السياسي حتي يتسنّي فك الاختناق الاقتصادي والبراح السياسي الثوري، كون جُل صادرات السودان خارج الميزانية وخارج سيطرة وزارة المالية، وان شركات القطاع العام منهوبة من المؤسسات العسكرية.
رابعاً: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومن ثم ترسيخ مؤسسات العدالة الانتقالية ومحاكمة القتلة منذ ١٩٨٩ وأثناء ثورة ديسمبر المستمرة ، خاصة مرحلة بعد إنقلاب ٢٥ اكتوبر.
خامساً: إيقاف النهب اليومي خارج ما نهب من ٨٢٪ من الموارد وهو تضخيم نصيب تلك المؤسسة العسكرية وجنرالاتها وأمنها من موازنات ثورة ديسمبر العامة (موازنات ٢٠٢٠ و ٢٠٢١ و ٢٠٢٢) من مرتبات ومخصصات وامتيازات يدفعها الشعب من ضرائب غير مباشرة وأتاوات آنية أو من المنح تذهب لتوفير عتاد الأجهزة الأمنية والقمعية من حوافز ورصاص وبمبان. تلك الأعباء اليومية الدموية لم ولن تدفع فواتيرها شركات المؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيات. ما زال جنرالات الإنقلاب والحركات المسلحة يصرفون علي آلات قمعهم اليومية من موارد وزارة المالية و "إحتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي لمواجهة الصرف على الانقلاب وتأمينه وبالتالي أصبح النظام الانقلابي مكشوفا من الناحية الاقتصادية والمالية" كما نبهنا أستاذ الهادي هباني. وسيظل النزيف المالي اليومي لدفع "الالتزامات المترتبة على اتفاق سلام محاصصات جوبا أي الإنفاق علي جبريل وقواته، ومناوي وقواته، وعقار وحجر والهادي إدريس وقواتهم، وأيضا علي السيد التوم هجو كممثل لمسار الوسط الهلامي". هذا هو التحدي العظيم الذي سيواجه دعاة التسوية ولن يسعفهم الكلام المجاني عن الإسراع في عملية الانتخابات. يعلم جنرالات الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة جيداً هذه التحديات القياموية ولذلك يصرون علي زيادة عداد الشهداء ووتائر التعذيب لمزيد من التخويف.
مراجع:
صدقي كبلو، "حول نظرية الثورة السودانية"، مسودة ١٩٩٠ منقول من مقال مجدي الجزولي.
مجدي الجزولي "اليسار في السودان: موارده وتحدياته المعاصرة" من كتاب "خارطة اليسار العربي: تونس- مصر- اليمن- السودان- المغرب – الجزائر ، سبتمبر ٢٠١٢؛ مقتطف الكس دوال.
الهادي هبّاني "إتفاق البرهان حمدوك لتمكين المافيا الاقتصادية وإفقار الشعب" ، الراكوبة، ٢٧ نوفمبر ٢٠٢١.
https://www.alrakoba.net/31649186/اتفاق-البرهان-حمدوك-لتمكين-المافيا-ال/
elsharief@gmail.com