المسيح المحمدي في الأساطير والأديان القديمة والأديان الكتابية (الحلقة الثالثة)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

الحلقة الثالثة

خالد الحاج عبد المحمود

 

المسيح في الاسلام:

كما رأينا فإن كلمة (مسيح) مأخوذة من اليهودية، وهي تعني: الممسوح بزيت البركة من الكهان والملوك.. وهي تعني المخلص.. وقد سمى الله تعالى عيسى بن مريم في القرآن بالمسيح.. وهذا ما جعل هنالك ربكة كبيرة في أذهان عامة المسلمين بخصوص المسيح.. فمعظم المسلمين ينتظرون عودة المسيح، حسب النصوص التي وردت في الاسلام.. هم ينتظرون أن يعود عيسى بن مريم الناصري، وهذا ما لا يمكن ان يكون، لأن الألوهية لا تكرر نفسها، فالتكرار نقص وعجز.. وعندما يقول الله تعالى: " كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ" فالإعادة هنا ليست تكرارا، هي اشبه باللولب، هنالك دائما نقطة اعلى تشابه النقطة الاسفل لها، ولا تشابهها لأنها اعلى منها.. فالمسيح المنتظر لا يمكن ان يكون عيسى الناصري، وقد نسب لابن عباس، قوله: "عجبت لمن ينتظر عودة عيسى ولا ينتظر عودة محمد!!".. فالمسيح الموعود هو المسيح المحمدي.. وهذا لا يعني انه محمد (صلى الله عليه وسلم) بصورته التي بعث بها نبيا رسولا في القرن السابع الميلادي.. وقد قال المعصوم لجابر بن عبدالله عندما سأله: ما أول ما خلق الله يا رسول الله؟ فقال المعصوم: أول ما خلق الله (نور نبيك يا جابر).. وقد اصطلح على تسمية نور النبي هذا بـ(الحقيقة المحمدية).. فأول ما خلق الله هو الحقيقة المحمدية، وهي بين الله في ذاته وجميع خلقه.. وإليها يشير قوله تعالى: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" يعني في أفضل صورة من الكمال.. ومن أجل ذلك سميت الحقيقة المحمدية بـ (الإنسان الكامل)، إشارة إلى الكمال الوارد في الآية.. فالحقيقة المحمدية هي أول تنزل من الذات، وعلى ذلك هي مقام الاسم (الله).. وحسب مثاني القرآن الواردة في قوله تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ".. (مثاني) يعني ذو معنيين معنيين.. فكلمة (الله) في القرآن لها معنيان.. معنى بعيد عند الذات، وهو ذات الله، وهذا هو الاصل.. فلما كانت الذات مطلقة، فإن كلمة الله تشير اليها اشارة.. والمعنى القريب هو الاسم (الله).. والاسم هو اول تنزل، هو أول الخلق.. معلوم ان القرآن كله تنزل، وهذا يعني ضمنا ان كلمة الله النازلة في القرآن تنزل _ خلق.. فالاسم خلق، والذات هي الخالق.. هذا التمييز الدقيق ضروري جدا، ولا يستقيم التوحيد من دونه.. المعيار الأساسي في التمييز هو: أي تعبير عن الله، فيه نقص، أو محدودية أو عجز، تتعالى عنه ذات الله علوا كبيراً، فهو في حق الاسم، ولا يكون في حق الذات إلا اشارة كما ذكرنا.. فالاسم هو وقاية للذات، يصرف عنها كل نقص او تقصير او محدودية.. ومقام الاسم هو مقام الإنسان لا يتعداه، في المعرفة ، وفي التخلق.. وتظل الذات دائما فوق ما يحقق الانسان، وهذا سرمداً، الى ما لا نهاية.. فلن يأتي يوم يحيط فيه المحدود بالمطلق.. من أجل ذلك السير إلى الله سير سرمدي لا انتهاء له.

السير يتم في دورات، زمانية مكانية.. والدورة التي نتحدث عنها، عندما نتحدث عن المسيح المحمدي، هي دورة (اليوم الآخر).. والإيمان باليوم الآخر هو من أهم عقائد الإسلام.. ولا اظن المسلمين في عموم حالهم، يميزون بين (الآخرة) و (اليوم الآخر).. نحن سنرجع الى الحديث عن اليوم الآخر، ولكن ما يهمنا هنا، هو ان نقرر ان المسيح المحمدي يظهر في اليوم الآخر، ويشكل ظهوره نهاية دورة، وبداية دورة جديدة.. نهاية دورة (الحياة الدنيا)، وبداية دورة (الحياة الاخرى).. والحياة الاخرى هي الغاية من كل السعي في الحياة الدنيا.

المسيح المحمدي، هو تأويل القرآن.. وتأويل تعني رد الشيء الى مصدره، الشيء الذي يؤول اليه.. والقرآن كله، كما هو بين دفتي المصحف، هو في حق الاسم الله.. القرآن هو كلام الله، والله تعالى في ذاته لا يتكلم بجارحة، ولا بلغة.. فالقرآن بين دفتي المصحف هو كلام الله الذي صب في قوالب اللغة العربية، لعلة أن نعقل عن الله.. يقول تعالى: " حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ".. فهو قد جعل عربيا بعد أن لم يكن، ولعلة أن نعقل نحن الذين نعقل عن طريق اللغة.. القرآن حسب التنزل درجات: الكتاب، والقرآن، والفرقان.. وكلها شيء واحد، في درجات.. والقرآن بين دفتي المصحف، هو التنزل الى مرحلة الفرقان، مرحلة التعدد، يقول تعالى: " وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا".. فقد نزل القرآن جملة الى مقام الاسم (الله)، وهذا هو مقام الانسان.. ومن هنا بدأ يتنزل القرآن من مقام الاسم، الى الارض الى الانبياء، عن طريق ملك الوحي جبريل عليه السلام.. ومعلوم أن جبريل لا يلاقي الذات، ومن اجل ذلك وقف في المعراج عند سدرة المنتهى، وقال للمعصوم: (هذا مقامي ولو تقدمت خطوة لاحترقت).. وتم الشهود الذاتي للمعصوم بعد ان زال بينه وبين ذات الله حجاب جبريل.. وقد قال المعصوم: "ليلة عرج بي انتسخ بصري في بصيرتي فرأيت الله"!! فهو لم ير الله الا بعد ان توحد، واصبح وحدة ذاتية، في وحدة مكانية، في وحدة زمانية.. وعن عدم ملاقاة جبريل لذات الله، قال المعصوم: "ان الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الابصار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه".. نزول المسيح الذي نبشر به، به يتم نزول القرآن إلى (نزلة الحياة).. وقد بدأت هذه النزلة في حياة المعصوم ، التي كانت اخلاقه القرآن، وهي ستكتمل بظهور المسيح _ الذات المحمدية، التي كانت في عالم الروح، الملكوت، وتنزل الى عالم الملك، فتصبح مجسدة في حياة، وبها تبدأ الدورة الجديدة كما ذكرنا..

يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ؟".. قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) يعني السلام ويعني الإسلام.. وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ؟) يعني: ما ينتظرون.. وقوله: (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ).. الله هنا لا يمكن أن يكون المقصود به الذات الالهية المطلقة!! فذات الله ليست غائبة حتى تأتي!! وهي لا تأتي (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ)، مهما كان التجسيد لهذه الظلل، فهي تفيد التجسيد.. فلم يبق إلا أن الله هنا، هو الاسم، وليس الذات.. (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) يعني في تجسيد اصله الماء.. فالآية تتحدث عن مجيء المسيح المحمدي _ الحقيقة المحمدية_ الإنسان الكامل_ وهو أكبر إشارة للمطلق، فهو أكبر من تخلق بأخلاق الله، الواردة في قول المعصوم: (تخلقوا بأخلاق الله، ان ربي على صراط مستقيم).. والواردة في قوله تعالى: " كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ".. قوله: (وَالْمَلَائِكَةُ) إشارة الى اعوان المسيح.. وقوله: (وَقُضِيَ الْأَمْر) إشارة الى ساعة مجيئه.. وأما قوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فهو اشارة للكمالات التي تظهر بمجيء المسيح.. وهي الكمالات التي تملأ بها الارض عدلا كما ملئت جورا، كما هي البشارة بظهور المسيح.. هذا المجيء للاسم (الله) هو الذي به تكون نزلة القرآن الى الحياة.. نزلة القرآن ليكون حياة تعاش، مجسدة في اللحم والدم، وهذا هو تأويل القرآن!! التأويل يعني رد الأمر الى مصدره _ الى ما يؤول اليه.. وهو هنا رد القرآن، بين دفتي المصحف، كما هو في اللغة العربية، الى الاسم (الله).. هذا هو تأويل القرآن، وليس له في حق الذات الا الاشارة.. علينا ان نتذكر ان مثاني القرآن تفيد انه عندما يقال (الله)، فالكلمة تشير الى المعنيين: الاسم، والذات المطلقة، في نفس الوقت.. وعن هذا التأويل.. عن كون ان الاسم هو مجال تأويل القرآن المرقوم_ المكتوب باللغة العربية، يجيء قوله تعالى: " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ".. وضمن الذي يفترون انه ليس للقرآن تأويل.. وان تأويله ليس هو (الله في ظلل من الغمام) وما يشير إليه من الذات المطلقة.. هذا عن البشارة بمجيء المسيح في القرآن.. وهي لها صور عديدة في القرآن.. من اهم هذه الصور، الخلافة، خلافة الانسان لله، الواردة في قوله: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً".. هذا الخليفة هو الحقيقة المحمدية، مقام الاسم الله، كما ذكرنا أعلاه.. والخليفة يعني: من سيخلف الله في ذاته في ادارة شؤون الكون وفق مرضاته.. فمن أجل ذلك هو اكبر من يحقق العبودية لله، حتى ان الأمر الإلهي يتنزل من خلاله، دون ان يتعرض لتدخل ارادة غير ارادة الله.. فهو كالبوق تنفخ فيه الذات الالهية، ويوصل امرها الى خلقها دون تشويش.

ومقام الخليفة هذا، هو نفس مقام (الوسيلة) الذي وعد الله به نبيه الكريم.. فقد قال الله تعالى للنبي: " وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا"، وقد قال المعصوم عن هذا المقام انه مقام في الجنة لا ينبغي الا لواحد.. وقد طلب من المسلمين أن يدعوا له به، فمعظم المسلمين، إن لم يكن كلهم، يدعون عقب الآذان (اللهم آت سيدنا محمد الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته).. وهذا المقام للنبي الكريم، يحققه في الجنة، والمقصود جنة الارض، التي سيفتتحها ببلوغ المقام المحمود!!

قال تعالى لنبيه: " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ" هذا المعاد الذي يرد اليه النبي الكريم هو مقام الوسيلة الذي وعد به، وهو سيحققه في (اليوم الآخر)، هنا في هذه الارض، وبه تتحقق جنة الارض.. والى ذلك الاشارة بقوله تعالى: "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ".. قوله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعني في البوق.. يعني في صورة الإنسان المرشح لمقام الوسيلة.. وفي هذا النفخ يصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله.. ثم يكون النفخ الثاني، الذي به يقوم الناس من الصعق.. وقوله" (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) يعني بالمعرفة بالله التي تتم عن طريق مجيء صاحب المقام، وهو المسيح المحمدي كما ذكرنا.. وقوله(وَوُضِعَ الْكِتَابُ)، يعني وضع المصحف موضع التطبيق.. قوله (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ) القامات الروحية الكبيرة التي تعمل مع المسيح المحمدي، او صاحب مقام الوسيلة، على اقامة دولة القرآن، ويتأذن الله تعالى ببعث الاسلام في جميع الارض، بحيث لا يصبح فيها الا مسلما يشهد شهادة (لا اله الا الله، محمد رسول الله)، ويعمل في اتباع المعصوم في مستوى سنته، وبذلك ينتصر الإسلام في جميع الارض حسب وعده تعالى الذي جاء في قوله: " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا".. وفي الرسالة الاولى، الرسالة المحمدية، لم ينتصر الإسلام ويظهر على الأديان كلها فيسود في الأرض.. أما في الرسالة الثانية، الرسالة الاحمدية، موعود الله ان ينتصر الاسلام على الاديان كلها فلا يصبح في الأرض غير مسلم.. فالمسلمون في هذه المرحلة يبدأون من البداية، لكنهم لا يقفون عند درجة الإحسان الدرجة الثالثة التي وقف عندها المؤمنون، وإنما يواصلون في درجات اليقين، ليسلموا الاسلام الاخير.. بهذا تتحقق جنة الارض التي قال عنها تعالى: " وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ".. وجنة الأرض هي نموذج مصغر لجنة المعاد.. هذا كله يتحقق في (اليوم الآخر) وهو آخر أيام الدنيا، وأول أيام الحياة الأخرى، ونحن لنا إليه عودة.

والبشارة بالمسيح المحمدي وردت في أحاديث نبوية عديدة، نذكر منها قوله (صلى الله عليه وسلم): "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم، حكما عدلا، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها".. قوله (ابن مريم)، مريم تعني النفس الطاهرة.. والعبارة تشير الى قوله تعالى: " إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ".. (كلمة الله)، يعني الاسم (الله) ، (ألقاها إلى مريم) يعني ألقاها إلى النفس الطاهرة .. فالمسيح المنتظر هو كلمة الله ، كما سبقت الى ذلك الاشارة.. وبظهوره تفتتح دورة جديدة من دورات الحياة، وتختتم دورة.. تختتم دورة الحياة الدنيا، وتفتتح دورة الحياة العليا، أو الاخرى.

بالنسبة للحديث أعلاه إذا اخذناه بظاهر اللغة، يصبح وكأنه لا معنى له، ولكن معناه في التأويل معنى عميق.. فقوله (يكسر الصليب) يعني يحل التعارض بمستوياته المختلفة، بحل التعارض بين إرادة البشر المتوهمة، وإرادة الله المحققة، وهذا هو التعارض الاساسي.. ويصبح الناس من العلم بحيث تكون إرادتهم من ارادة الله، وبذلك تكون نافذة.. وحل التعارض بين إرادة البشر وإرادة الله، هو التسليم التام لله.. والتعارض الثاني الهام، هو التعارض القائم بين العقل الواعي والعقل الباطن، وبفض هذا التعارض يتم فض الكبت، وتتوحد البنية البشرية، وتكمل الحياة، وتزول اسباب العداوة عند الأفراد بزوال الكبت والخوف، ويحل السلام والمحبة، في النفوس.. والتعارض الثالث هو التعارض بين الفرد وبيئته الطبيعية والاجتماعية، فلا يصبح هنالك تناقض بين الإنسان والطبيعة، ولا بين الفرد والمجتمع.. وبذلك يحل السلام في المجتمع وفي البيئة عموما ..وقوله من الحديث (ويقتل الخنزير) يعني التخلي عن الاثرة والجشع والانانية السفلى، التي يعتبر الخنزير رمزا لها.. والعبارة تعني الانتقال من النفس السفلى التي هي نفس الخنزير، إلى النفس العليا، وهي عند كل إنسان.. وعبارة (ويضع الجزية) يعني يبطل الجهاد بالسيف، ويوقف الحرب.. وقوله: (ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)، تشير إلى الوفرة التي تصحب مجيء المسيح، والتي تعم جميع الارض، كما تشير إلى التحرر من استعباد المال للانسان، وهو أمر لا يتم بسبب الوفرة وحدها، وإنما يتم بسبب العلم بالله والوفرة معا.. أما عبارة (فتصبح السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها)، فتشير الى مقامات القرب من الله، فكما يقول المعصوم : (أقرب ما يكون العبد الى ربه وهو ساجد).. لاحظ الفرق الشاسع جدا بين معاني الحديث، كما يعطيها ظاهر اللغة، وكما يعطيها التأويل، مع ملاحظة ان التأويل لا يتعارض مع اللغة، وانما يذهب من ظاهرها إلى حقيقتها.. وهو عموما يذهب من آيات الآفاق، الى آيات النفوس.. فكل نص قرآني له معناه في آيات الآفاق، وله معناه في آيات النفوس.. وهذا من معاني قوله تعالى: " سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"

الأحاديث الواردة في حق المسيح عديدة، منها مثلا حديث يتناول موضوع الأمن والسلام، الذي يتم بمجيء المسيح، ومما جاء فيه: "تقع الأمنة على الارض، حتى يرتع الأسد مع الابل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الصبيان مع الحيات" .. وفي حديث آخر يقول: "لن يخزي الله أمة أنا أولها، وعيسى بن مريم آخرها" .. وفي حديث آخر يقول: "يكون عيسى بن مريم في أمتي حكما عدلا، وإماما مقسطا، يدق الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يسعى إلى شاه ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتملأ الارض من السلم كما يملأ الاناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها".. واضح جدا التركيز على الأمن والسلام.. وفي الاحاديث مجيء المسيح مرتبط بالدجال، وهو نقيض المسيح.. المسيح تجسيد للخير، والمسيح الدجال هو تجسيد الشر، واللقاء بينهما يمثل الصراع بين الخير والشر، الذي يكون فيه الانتصار النهائي للخير، انتصار المسيح، على المسيح الدجال... ومما جاء في الاحاديث عن الدجال، قول المعصوم: " إنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى علَيْكُم، إنَّ اللَّهَ ليسَ بأَعْوَرَ - وأَشَارَ بيَدِهِ إلى عَيْنِهِ - وإنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ أعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنَى، كَأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ".. (الله) هنا، بالطبع هو الاسم، وليس الذات، لنتذكر الآية: " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ...".. وهنالك دلالات عميقة لعبارة ان المسيح اعور العين اليمنى، والله ليس بأعور، سنتعرض لها لاحقاً..
من المهم جدا ان نلاحظ ان أمر الرسالة الاولى والرسالة الثانية، كله يدور حول المعصوم (صلى الله عليه وسلم).. فالرسالة الاولى هي شريعته لأمته في القرن السابع الميلادي.. والرسالة الثانية هي سنته التي عاشها في خاصة نفسه.. الرسالة الأولى قامت على فروع القرآن، والرسالة الثانية قامت على أصول القرآن.. بالرسالة الأولى ظهرت أمة المؤمنين، وبالرسالة الثانية تظهر امة المسلمين.. وبمحمد ختمت النبوة، وانتهى دور جبريل كرسول بالوحي للأنبياء، فلا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وسلم).. الرسالة الأولى محمدية، والرسالة الثانية احمدية.. الرسالة الثانية جاء محمد بقرآنها – قرآن الاصول، وعاشها في نفسه.. بهذا المعنى هو رسولها.. أما الرسالة الثانية، فالرسول الذي يطبقها هو المسيح المحمدي، وهو الحقيقة المحمدية، صاحب الاسم (الله).. ويتم تطبيقها عندما يبعث محمد الى المقام المحمود الذي وعده به ربه، حيث قال: "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا".. و(البعث) هنا يعني الحياة بعد الموت.. فمحمد أول من يبعث!! جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّع" وفي الصحيحين من حديث أبِي هُريرة (رضي الله عنه) أنه (صلى الله عليه وسلم) قال لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . قال ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، أو في أول من بعث".. وقد جاء عن المقام المحمود قوله: "مقام في الجنة لا ينبغي الا لرجل واحد" والمقصود هنا جنة الارض: " وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ".. فمحمد (صلى الله عليه وسلم) يبعث، وببعثه يتم مقام ( الوسيلة) فتفتتح دورة جديدة من دورات الحياة، هي دورة (الحياة الاخرى).. وبهذه الحياة تجيء مرحلة (الانسانية) وهي تطور على مرحلة (البشرية) التي نعيش نحن اليوم آخر مراحلها.. وتجيء أمة المسلمين، ويسود الاسلام في الارض جميعها، ويتحقق مجتمع الاخوان، اخوان النبي، وبهم ينزع الضغن، وتضع الحرب اوزارها (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).. وتتحقق صور السلام التي اشارت إليها الاحاديث النبوية، وأحاديث التوراة.. وهو سلام يعم البيئة كلها، وليس فقط بين البشر.. اعتقد ان صورة الفرق بين الرسالة الاولى والرسالة الثانية واضحة جدا.. ومحمد في رسالته الثانية أكبر منه في رسالته الاولى.. فالرسالة الاولى كانت لفئة معينة، أما الرسالة الثانية فهي لجميع أهل الارض، حيث لا يصبح في الأرض إلا من هو مسلم، أما الاختلاف بين الرسالتين في البعد الرأسي، فواضح جداً.

بالرسالة الثانية تختم الرسالة، وتختم الولاية.. وختم الولاية لا يعني أنه لن يكون هنالك اولياء، مثل الحالة التي تكون بختم النبوة، فلا نبي بعد محمد.. فختم الولاية يعني تحقيق قمتها، أما الولاية دون ذلك فهي مستمرة سرمداً.. محمد (صلى الله عليه وسلم) هو خاتم الانبياء، وبالرسالة الثانية هو خاتم الرسل والأولياء.. عن محمد في رسالته الاولى جاء قوله تعالى: " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ".. أما عنه في الرسالة الثانية فقد جاء قوله: " إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ"

يتبع

مدينة رفاعة

 

آراء