مقاربة بين الحكم العسكري بقيادة الجيش والضباط المتمردين

 


 

 

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري

يقلل الكثير من السياسيين من أهمية المفارقة بين فترات الحكم العسكري في السودان بحجة أن جميع العسكريين على درجة واحدة من التسلط وتطاول فترة حكمهم وقهرهم للمدنيين. وعلى الرغم من القناعة الثابتة بحتمية ابتعاد العسكريين دون تمييز عن السياسة والحكم، إلا أن هناك ضرورة للوقوف المتأني عند تجربة السودان الطويلة مع الحكم العسكري التي امتدت فتراتها المتعددة لست وخمسين سنة بقصد التدقيق في طبيعة العسكريين الذين حكموا البلاد هذه الفترة الطويلة. ولعل استخلاص العبر من هذه المقاربة الضرورية يساعد على فك شفرة الاحتباس السياسي الذي يعاني منه السودان ويدفعه نحو شفير الهاوية.
تشير الدلائل الموثوقة إلى أن السودان قد شهد منذ استقلاله أكثر من عشرين محاولة لاستلام العسكريين للسلطة عن طريق الانقلاب. بيد أن المحاولات التي نجحت في الاستيلاء على الحكم قد بلغت أربع. وكان الفشل مصير ثمان محاولات بلغت مراحل متقدمة لاستلام السلطة. وتقتضي دقة التحليل الإقرار بأن العسكريين قد تسلموا الحكم في ثلاث مرات نزولاً على رغبة المدنيين. فكانت الأولى دعوة رئيس الوزراء الأسبق عبد الله خليل للفريق إبراهيم عبود لاستلام السلطة عن طريق الانقلاب في نوفمبر 1958. كما تسلم العسكريون السلطة بالانحياز لرغبة المدنيين في أبريل 1985، وفي أبريل 2019.
ولعله من المهم الإشارة إلى أن المرات التي تسلم فيها العسكريون السلطة بالفعل قد بلغت ست، كان الاستلام بواسطة القائد العام للجيش في أربع مرات وهم الفريق إبراهيم عبود في نوفمبر 1958، والمشير عبد الرحمن سوار الدهب في أبريل 1985، والفريق أول عوض أبنعوف قي أبريل 2019، والفريق أول عبد الفتاح البرهان في أكتوبر 2021. كما استلم السلطة عن طريق الانقلاب العسكري ضابطان متمردان على قيادة الجيش هما العقيد جعفر نميري في مايو 1969، والعميد عمر البشير في يونيو 1989.
وتفيد التجربة أن البقاء في السلطة بواسطة قيادة المؤسسة العسكرية قد شهدت أقصر فترات التشبث بالسلطة مقارنة بفترتي الضابطين المتمردين. وذلك على النحو التالي: ست سنوات للفريق إبراهيم عبود، وسنة واحدة للمشير عبد الرحمن سوار الذهب، وبضع ساعات في حالة الفريق عوض أبنعوف، وربما عام واحد في حالة الفريق أول عبد الفتاح البرهان. كما سجل التاريخ أن فترات الحكم العسكري بواسطة قيادة الجيش كانت الأقل تنكيلاً واستبداداً وانتهاكاً لحقوق المدنيين. ففي حالة الفريق إبراهيم عبود كانت المسارعة بالاستقالة نزولاً على رغبة المدنيين، والالتزام بالعهود بعد عام واحد في حالة المشير عبد الرحمن سوار الدهب، والنزول على رغبة الشعب بعد بضع ساعات في حالة الفريق أول عوض أبنعوف، والوعد بتسليم السلطة للمدنيين بعد بضع شهور في حالة الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
أما انقلابا الضابطين المتمردين (العقيد جعفر نميري والعميد عمر البشير) فكانا الأشد طغياناً وقهراً للشعب والأطول بقاءً في السلطة (16 سنة للعقيد جعفر نميري، و30 سنة للعميد عمر البشير). ومن المفيد أيضاً الإشارة إلى أن قائدي انقلابي الرتب الوسيطة المتمردة قد نكلا حتى بالمدنيين الذين دعموهم قبل وخلال استلام السلطة (نميري مع عبد الخالق محجوب والبشير مع حسن الترابي). أما الضباط المتمردون الذين حبطت محاولاتهم لاستلام السلطة فقد صاحب العديد من محاولاتهم الفاشلة خسائر جسيمة في أرواح وممتلكات المدنيين.
ولعل في النماذج الخمسة التي شهدت سيطرة العسكريين على مقاليد الحكم في السودان ما يفيد بأن ممارسة السلطة بواسطة قيادة المؤسسة العسكرية هي الأقصر عمراً مقارنة باستلامها بواسطة صغار الضباط المتمردين. حيث أفادت التجربة أن المدنيين قد تمكنوا من إنهاء حكم قادة الجيش في حالتي الفريق عبود والمشير سوار الدهب بجهد أقل وخلال فترة أقصر لم تتجاوز السبع سنوات في الحالتين. وفي المقابل كلف قضاء المدنيين على حكم الضابطين المتمردين على قيادة الجيش العقيد النميري والعميد البشير آلاف الشهداء، واستغرق أكثر من 46 عاماً في الحالتين.
وترمي هذه المقاربة التاريخية إلى ضرورة استخلاص العبر من فترات الحكم العسكري بواسطة قيادة الجيش أو بقيادة ضباط متمردين. حيث أثبتت التجربة أن الحكم العسكري بواسطة قيادة الجيش يحمل في طياته موازنات موضوعية تفرضها المؤسسة العسكرية بحكم انتمائها العضوي للشعب. أما الحكم العسكري تحت قيادة ضباط متمردين فقد طغت عليه شهوة السلطة والتشبث بها، وأهواء أحزاب صغيرة لا تقوى على الاقتراب من السلطة عن طريق الانتخابات. وبناء على ذلك ينبغي استيعاب الدروس من هذه المقاربة المستندة على تجارب فعلية حول طبيعة الحكم العسكري في السودان بقصد التدبر في فرص نزع فتيل الاحتباس السياسي الحالي.
ويعزز ضرورة انتهاج التعامل المستنير مع قيادة الجيش في ضوء التجربة السابقة للحكم العسكري في السودان تلك الأوضاع الأمنية المتردية والصراعات القبلية الدامية التي يستحيل على المدنيين السيطرة عليها منفردين عن طريق إلحاق الهزيمة المذلة بقيادة الجيش. كما تشير التجارب السابقة مع الحكم العسكري بواسطة قيادة الجيش أن الانتقال المشروع للسلطة للمدنيين يمكن تحقيقه بالتوافق على النأي بالمؤسسة العسكرية وخروجها من العمل السياسي، وإقامة سلطة وحكومة مدنية من الكفاءات الوطنية المستقلة. بيد أن اتخاذ قيادة المدنيين لمواقف صفرية متشددة بناء على افتراضات جزافية لتبرير تجريع قيادة الجيش أذيال الهزيمة النكراء سيثير حفيظة المؤسسة العسكرية، وربما يدفع بعض الضباط المتمردين لتنفيذ انقلاب عسكري أثبتت التجربة السابقة أن القضاء الحتمي عليه بواسطة المقاومة الشعبية الظافرة سيكلف الكثير من الوقت ونزيف الدماء.

melshibly@hotmail.com

 

آراء