خربشات حول ملابسات إنقلاب الفريق عبود
بورفيسور مهدي أمين التوم
20 January, 2023
20 January, 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
لا تزال ملابسات إنقلاب 17 نوفمبر 1958م الذي قاده الفريق ابراهيم عبود ، بالأصالة أو بالوكالة ، لا تزال تشغل بال و فِكر الذين عاصروه ، و كذلك الذين سمعوا عنه لاحقاً كواقعة تاريخية هَزَّت كَيان السودان ، بعد إستقلال لم يك قد أكمل عندئذٍ عامه الثالث . كان حدثاً قبيحاً أنهى فرحة أهل السودان بالإستقلال ، و مَهَّد الطريق لسلسلة من الإنقلابات العسكرية التي إبتُلي بها الوطن خلال السبع و ستين سنة التي تلت رفع علم البلاد ثلاثي الألوان، إعلاناً بمولد أول دولة إفريقية ديمقراطية مستقلة جنوبي الصحراء. و رغم مرور ما يقرب من سبعة عقود علي تلك الحادثة، لا يزال عالقاً في الأفق سؤال حول طبيعتها ، و هل كانت بالفعل إنقلاباً عسكرياً كامل الدسم ، أم كانت عملية تَسْلِيم و تَسَلُّم ،أم تراها كانت خيانة عسكرية لشريك مدني ، طغت فيها الخيانة العسكرية علي الدهاء المدني !!!
إن الذي أهاج فيَّ الذكرى و الملابسات التي اكتنفت ذلك الإنقلاب ، هو كُتَيِّبٌ قليل الصفحات ، دسم المحتوى ، مثير للتساؤلات، وحافز للتأمل ،أعده و نشره العام الماضي ،٢٠٢٢م ، القانوني و المؤرخ الدكتور فيصل عبدالرحمن علي طه ،بعنوان :(( الظروف و الأحداث التي سبقت إنقلاب ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م في السودان]]...
جاء الكتاب أو الكتيب في خمس و سبعين صفحة ، في طباعة دقيقة و إخراج أنيق خالٍ تقريباً من الأخطاء الطباعية و اللغوية ، كعادة دكتور فيصل في سائر مطبوعاته الكثيرة السابقة.
الكتاب في مجمله يضع أمام القارئ صورة بانورامية لما كان يحدث في السودان و حوله خلال خمسينيات القرن الماضي، و ما كان يجري في أروقة السياسة البريطانية و المصرية ، و ما كان يشغل بال الديبلوماسية العالمية حول السودان كدولة و كموقع..كذلك يقدم الكتاب سياحة حول ما كان يجري عندئذٍ في الخرطوم و في أقاليم السودان المختلفة ، و ما كان يدور في أضابير السياسة السودانية من تطلعات، و تخبط، و بحث دون هدى و دون خبرة حقيقية في الحُكم، و في إدارة الدولة ، و دون هضم مجتمعي و سياسي لازم لمتطلبات التعايش في الأجواء الديمقراطية. و اعتقد أن العرض المقدم ، رغم محدودية صفحات الكتاب ، يعطي صورة شبه متكاملة للبيئة السياسية و الإجتماعية التي كانت سائدة قُبَيل قفز عبود و رهطه للحكم ، كما يسرد الكثير من الأحداث التي كانت تسود أجواء البلاد السياسية ، سائرة في خطوط متوازية أحياناً، و في خطوط متقابلة و متناقضة في أحيان أخرى. و جدير بالذكر هنا أن عرض المؤلف للأحداث يزيح الستار عن الكثير مما لم يك واضحاً في حينه من علاقات و تصرفات ، و من إرتباطات و تفاهمات لم يك متاحاً فهمها عندئذٍ للكثيرين.
بجانب هذا و ذاك فإن الكتاب من وجهة نظري يحتوي علي قنابل سياسية ، ويشير لمواقف ربما يعتبر البعض إبرازها ، أو التعرض لها ، من المُحَرَّمات..لكني رأيت ضرورة الإشارة لبعضها و لهذا اخترت كلمة ( خربشات) في صدر عنوان مقالتي المتواضعة هذه.
فكمعاصر لتلك الحقبة من تاريخ السودان ، و متابع لأحداثها ، فلقد شهدت المعارضة القوية لإنقلاب عبود و التي كان يتزعمها علناً ،و بشجاعة فائقة ، السيد الصديق المهدي .
كانت معارضته علنية و شرسة و بدأت من أول يوم للإنقلاب ، و استمرت قوية و علنية ، لم ترهبه التهديدات ، و لم تلن قناته حتى بعد إعتقال نظام عبود لكل قيادات المعارضة من حزب الأمة و الحزب الإتحادي و الحزب الشيوعي ، و حبسهم في معسكر للجيش في جنوب السودان. نعم أشهد أنه لم يوقف الجهر بمعارضته ، و لم تَلِن قناته، و لم تكسره حادثة المولد البشعة التي قُتِل فيها العديد من أنصاره، و استمر معارضاً بقوة لحكم عبود العسكري إلى لحظة وفاته ،رحمه الله ، إثر نوبة قلبية مفاجئة.
لكن يورد الكتاب مفاجأة صادمة إذ يشير في بعض صفحاته إلى أن السيد الصديق المهدي قد إلتقى قبل الإنقلاب بفترة طويلة بالفريق عبود ، بصفته قائداً للجيش ، و تحدث معه عن الأوضاع السياسية و عن الحاجة للتصحيح !!! لكن تلك اللقاءات لم تستمر ، و تمَّ صرف النظر عنها نهائياً من جانب السيد الصديق ،فالتقط القفاز السيد عبدالله خليل و خطط ثنائياً مع الفريق عبود للأحداث التي فاجأت أهل السودان في فجر السابع عشر من شهر نوفمبر عام ثمان و خمسين و تسعمائة و الف ميلادية، لتبدأ منذ ذلك الحين معضلة أهل السودان مع العسكر و الحكم الديكتاتوري الشمولي .
من زاوية أخرى يتعرض الكتاب لموضوع علاقة حزب الأمة المؤسسية بإنقلاب الفريق عبود و يشير إلى مقابلة تلفزيونية أُجرِيَت مع السيد الصادق المهدي برأ فيها حزب الأمة ، كمؤسسة ، من تهمة الوقوف خلف ذلك الإنقلاب ، و أكَّد فيها أن السيد عبدالله خليل تورط في ذلك الإنقلاب بصفته الشخصية ، و بتقديرات تخصه و لم يك للحزب قرار بتأييدها مسبقاً أو لاحقاً..و يثبت الكتاب إعتراف السيد الصادق بأن السيد عبدالله خليل تقدم في إحدى جلسات مجلس إدارة حزب الأمة بتقييم عام للموقف أتبعه بإقتراح تسليم السلطة مؤقتاً للعسكريين...لكن ذلك الإقتراح تم رفضه بأغلبية ساحقة إذ أيده إثنان فقط بينما عارضه ثلاثة عشر من جملة أعضاء مجلس إدارة الحزب الخمسة عشر.
يتشكك الدكتور فيصل في صحة هذه الرواية لعدم إبراز الحزب أو نشره رسمياً لوثيقة تثبت هذه الرواية أو هذا الإدعاء . لكني سمعت هذه الرواية ،كما وردت أعلاه ، من والدي أمين التوم ، رحمه الله ، منذ أيام الإنقلاب الأولي ..لقد كان وزيراً في حكومة عبدالله خليل قُبيل الإنقلاب. فلقد أكد لي واقعة التصويت في مجلس إدارة الحزب ، و حقيقة أن إثنين فقط ايدوا الاقتراح بينما عارضه الثلاثة عشر الباقين في مجلس الإدارة ، رفضاً لمبدأ الإعتداء علي الديمقراطية الوليدة .. و تقرر ، بعد تقييمٍ للظروف الحرجة التي كانت سائدة آنئذٍ ، أن يتقدم وزراء حزب الامة في حكومة عبدالله خليل بإستقالاتهم لإتاحة الفرصة له لتكوين حكومة جديدة بالطريقة التي يراها مناسبة لمواجهة ما كان يستشعره وقتها من مخاطر علي البلاد ، و من تحركات مصرية و إتحادية كانت تستهدف إسقاط حكومته عبر آليات برلمانية و تحالفات مضادة إمتلأت الأجواء بتسريبات قوية حولها..و أذكر جيداً أن والدي ، الذي كان عندئذ وزيراً في حكومة عبدالله خليل ، جاء يوماً من مكتبه حاملاً بيديه و بشكل غير معتاد ،عدداً ملفتاً من الملفات و الأوراق . سألته بعفوية عن السبب فقال لي أننا سَلَّمنا إستقالاتنا لرئيس الوزراء بقرار من الحزب ليقوم بتكوين حكومة جديدة تناسب المستجدات ، و لهذا رتبت المكتب للوزير القادم ، و حملت للبيت أوراقي و ملفاتي الخاصة . و كان ذلك قبل أيام قليلة جداً من تنفيذ الفريق عبود لإنقلابه المشؤوم .
لذلك أعتقد أن تبرئة السيد الصادق المهدي لمؤسسة حزب الأمة في ما يتعلق بالتخطيط لإنقلاب عبود صحيحة رغم تشكك دكتور فيصل المبني علي عدم وجود وثيقة رسمية تثبت تصويت مجلس إدارة حزب الأمة ضد إقتراح تسليم السلطة للجيش ، بشكل مؤقت أو دائم .. و في ظني أن غياب الوثيقة المفتقدة قد يعود لحقيقة أن الإنقلابيين قد هجموا صباح يوم الإنقلاب علي مكاتب رئاسة حزب الامة و صادروا كل الوثائق المحفوظة في خزائن و مكاتب الحزب و التي من بينها كل وقائع جلسات مجلس الإدارة.. و حتى يوم الناس هذا ، لا أحد يدري أين ذهبت تلك الوثائق !!! لهذا فإن قرار رفض الحزب للإنقلاب ،حتى و لو كان مدوناً في وقائع رسمية ، فإنه قد ضاع إثر ما تم من عبث و مصادرات لكل ما كان محفوظاً في مكاتب و خزائن رئاسة الحزب و بشكل عشوائي و متوحش !!!
هذه الملابسات تجعل مسألة توريط أو تبرئة ، حزب الأمة ،كمؤسسة ، من وِزْر ذلك الإنقلاب ،أمر يحتاج مزيد بحث و تمحيص .
لكن من زاوية أخرى ، ربما تكون أكثر حساسية ، ففي تقديري الشخصي ، و وفقاً لقراءتي لما أورده دكتور فيصل في كتابه الحالي من وقائع ، و ما عايشته شخصياً في تلك الحِقبة من الزمان ، و كنت حينها في نهايات المرحلة الثانوية ، فإن الإمام عبدالرحمن المهدي ، في شخصه ، كان علي عِلم مُسبَق بموضوع الإنقلاب و يبدو أنه كان موافقاً عليه ،أو تمَّ بشكل أو آخر إقناعه به أو تزيينه له !!! . و أجد مؤشرات لذلك في ثلاثة مواقف كان محورها كلها الإمام عبدالرحمن و ليس حزب الأمة. فلقد أصدر الإمام عبد الرحمن خطاباً عاماً قوياً تأييداً للإنقلاب ..صدر خطاب التأييد بإسم الإمام عبد الرحمن و ليس بإسم حزب الأمة ، و تمت إذاعته بسرعة ملفتة من إذاعة أمدرمان الرسمية بعد ساعات قليلة من شروق شمس يوم الإنقلاب، و كأنه كان مُعَدَّاً و جاهزاً و منتظراً لساعة الصفر . و أكثر من ذلك ، قرأ الخطاب في الإذاعة السيد عبدالرحمن علي طه الذي كان من أقرب المقربين و المستشارين للإمام عبد الرحمن . و لا أزال أتذكر، و أتعجب للحماس الشديد الذي ألقى به الخطاب في الإذاعة تأييداً لحركة عسكرية ضربت الديمقراطية و الحُكم المدني في مقتل ، و بإسم مَن نعتبره أبو الإستقلال و أكبر دعاة الحرية و الديمقراطية !!!
موقف آخر يؤيد فرضية معرفة الإمام عبدالرحمن المسبقة و تأييده المطلق للإنقلاب ، هو دعوته و مخاطبته لنواب حزب الأمة في البرلمان بعد ساعات قليلة من نجاح الإنقلاب و إصدار قرار حل البرلمان. لقد تحدث للنواب بإفاضة و حماس تأييداً للإنقلاب و الإنقلابيين ، و قال لهم إنه كان ضرورة ، و إنه لم يك هناك بديل عنه لإنقاذ البلاد مما يحيط بها من تآمر خارجي و داخلي . كل هذا القول و أكثر منه ورد في خطاب الإمام عبدالرحمن الذي أورد دكتور فيصل فقرات كثيرة منه في الكتاب ، تؤكد حماس و تأييد الإمام لما حدث ، و تثبط أي محاولات من النواب لمواجهة الإنقلاب و الإنقلابيين ، كما طلب من النواب العودة بهدوء لدوائرهم و لمناطقهم إنتظاراً لتعليمات لاحقة ستصلهم !!!
إن كل ذلك يوحي بأن الإمام عبد الرحمن لم يفاجأ بالإنقلاب ، إذ لو كان الأمر مفاجئاً لما تَعَجَّل بتأييده علناً و بخطاب قوي ، و لما أخذ مبادرة سريعة بجمع النواب البرلمانيين ليطمئنهم ، و ليعودوا لدوائرهم و أقاليمهم لتهدئة و تطمين مواطنيهم لإتاحة الفرصة للعسكريين ألإنقلابيين لتوطيد حكمهم في أجواء هادئة.
أما ثالثة الأثافي المكملة للتأييد الإذاعي و التطمين النوابي ، فقد كانت في شكل طلب تقدم به السيد عبدالله خليل لمجلس قيادة الثورة لتنصيب الإمام عبد الرحمن رأساً للدولة ..كان ذلك بعد أن وطَّد الإنقلابيون أركان حكمهم بالتعاون مع عدد محدود من المدنيين..يبدو ان ذلك الطلب كان يمثل إتفاقاً مسبقاً مقابل ما سيتم من تأييد للإنقلابيين..و هذا ايضاً يشتم منه رائحة ترتيبات سبقت تنفيذ الإنقلاب، و ثمناً بخساً لتأييد فعل إنقلابي منكر ما كنت أظن أن رجلاً في قامة الإمام عبد الرحمن يرضى أن يُطرَح في حضرته ، دعك من أن يشارك شخصياَ في توطيده..لكن يبدو أن وجود بعض الاعداء التقليدين للإمام من المدنيين ، أمثال السيد احمد خير المحامي ، حالت دون تنفيذ ذلك تنكراً من الإنقلابيين لوعد سابق بينهم و بين السيد عبد الله خليل ، و هو أمر يبدو في ثنايا أقوال مَن إستجوبتهم لجنة التحقيق و أثبتته في تقريرها الرسمي عن إنقلاب الفريق عبود ، ذلك التقرير الذي ضاعت قيمته ، بعد ثورة أكتوبر المجيدة بسبب إتفاق غريب رضي به السياسيون قضى بالعفو عن الفريق عبود و رهطه ، و كان ذلك خطأ فادحاً شَجَّع النميري و البشير و البرهان علي تكرار جريمة الإنقلاب علي الديمقراطيات القصيرة التي أعقبت ثورات أكتوبر ١٩٦٤ ، و ابريل ١٩٨٥ ، و ديسمبر ٢٠١٨م !!!
و جانب آخر أثارني في كتاب دكتور فيصل ، هو إثباته أن أحد وزراء حزب الأمة في حكومة عبدالله خليل كان ضمن الطاقم القانوني الذي أعد المراسيم الدستورية التي بموجبها إستمد الإنقلابيون سلطاتهم ، و أنهوا بها حقبة مدنية/ ديمقراطية ، لم تكمل عامها الثالث بعد إعلان الإستقلال..لقد كان ذلك الرجل هو السيد زيادة أرباب المحامي الذي يبين الكتاب أنه تعاون مع أحمد خير المحامي في إعداد المراسيم الدستورية للإنقلابيين، و بخاصة المرسوم الدستوري الخاص بحل البرلمان ، أي بحل الهيئة التشريعية الدستورية التي تكونت إثر إنتخابات شعبية حرة لم يطعن أحد في نزاهتها أو في تمثيلها الشرعي لأهل السودان. فهل يا تٌرى كان إنخراط السيد زيادة أرباب في تلك الجريمة ذاتياً أم مدفوعاً !!! و لمصلحة مَن أو بدفع مَن كان إستمرار تعاونه العلني مع الإنقلابيين !!!
و أخيراً ثمةأمر مطروح في الكتاب لم أجد له إجابة أو تفسيراً و هو يتعلق بدور مجلس السيادة في تلك الأحداث المؤسفة..إن مجلس السيادة ،حسب دستور السودان ، هو بمثابة القائد الأعلى للجيش ، و عليه فإن علي قائد الجيش و هيئة أركانه أن يأتمروا بأمر المجلس ، كما علي المجلس أن يكون متابعاً بشكل مباشر و غير مباشر لما يجري في رحاب الجيش..
لكن يبدو أن كلهم كانوا في غفلة ، فانقض العسكر علي الحُكم بفعل فاعل مدني، و بدأت بذلك سلسلة الإنقلابات العسكرية التي آستمرت ، و لا تزال ، تعبث بالبلاد و العباد .
و عموماً فإن كتاب الدكتور فيصل رغم صغر حجمه ، فإنه يمثل خلاصة مجهود بحثي و توثيقي كبير ، و يبرز للسطح أسئلة لا تزال تشغل البال حول ملابسات و نتائج إنقلاب ، أو حركة ، الفريق إبراهيم عبود في فجر السابع عشر من شهر نوفمبر عام ثمان و خمسين و تسعمائة و الف من الميلاد.
و لك الله يا وطني.
بروفيسور
مهدي أمين التوم
19 يناير 2023 م
--
mahditom1941@yahoo.com
لا تزال ملابسات إنقلاب 17 نوفمبر 1958م الذي قاده الفريق ابراهيم عبود ، بالأصالة أو بالوكالة ، لا تزال تشغل بال و فِكر الذين عاصروه ، و كذلك الذين سمعوا عنه لاحقاً كواقعة تاريخية هَزَّت كَيان السودان ، بعد إستقلال لم يك قد أكمل عندئذٍ عامه الثالث . كان حدثاً قبيحاً أنهى فرحة أهل السودان بالإستقلال ، و مَهَّد الطريق لسلسلة من الإنقلابات العسكرية التي إبتُلي بها الوطن خلال السبع و ستين سنة التي تلت رفع علم البلاد ثلاثي الألوان، إعلاناً بمولد أول دولة إفريقية ديمقراطية مستقلة جنوبي الصحراء. و رغم مرور ما يقرب من سبعة عقود علي تلك الحادثة، لا يزال عالقاً في الأفق سؤال حول طبيعتها ، و هل كانت بالفعل إنقلاباً عسكرياً كامل الدسم ، أم كانت عملية تَسْلِيم و تَسَلُّم ،أم تراها كانت خيانة عسكرية لشريك مدني ، طغت فيها الخيانة العسكرية علي الدهاء المدني !!!
إن الذي أهاج فيَّ الذكرى و الملابسات التي اكتنفت ذلك الإنقلاب ، هو كُتَيِّبٌ قليل الصفحات ، دسم المحتوى ، مثير للتساؤلات، وحافز للتأمل ،أعده و نشره العام الماضي ،٢٠٢٢م ، القانوني و المؤرخ الدكتور فيصل عبدالرحمن علي طه ،بعنوان :(( الظروف و الأحداث التي سبقت إنقلاب ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م في السودان]]...
جاء الكتاب أو الكتيب في خمس و سبعين صفحة ، في طباعة دقيقة و إخراج أنيق خالٍ تقريباً من الأخطاء الطباعية و اللغوية ، كعادة دكتور فيصل في سائر مطبوعاته الكثيرة السابقة.
الكتاب في مجمله يضع أمام القارئ صورة بانورامية لما كان يحدث في السودان و حوله خلال خمسينيات القرن الماضي، و ما كان يجري في أروقة السياسة البريطانية و المصرية ، و ما كان يشغل بال الديبلوماسية العالمية حول السودان كدولة و كموقع..كذلك يقدم الكتاب سياحة حول ما كان يجري عندئذٍ في الخرطوم و في أقاليم السودان المختلفة ، و ما كان يدور في أضابير السياسة السودانية من تطلعات، و تخبط، و بحث دون هدى و دون خبرة حقيقية في الحُكم، و في إدارة الدولة ، و دون هضم مجتمعي و سياسي لازم لمتطلبات التعايش في الأجواء الديمقراطية. و اعتقد أن العرض المقدم ، رغم محدودية صفحات الكتاب ، يعطي صورة شبه متكاملة للبيئة السياسية و الإجتماعية التي كانت سائدة قُبَيل قفز عبود و رهطه للحكم ، كما يسرد الكثير من الأحداث التي كانت تسود أجواء البلاد السياسية ، سائرة في خطوط متوازية أحياناً، و في خطوط متقابلة و متناقضة في أحيان أخرى. و جدير بالذكر هنا أن عرض المؤلف للأحداث يزيح الستار عن الكثير مما لم يك واضحاً في حينه من علاقات و تصرفات ، و من إرتباطات و تفاهمات لم يك متاحاً فهمها عندئذٍ للكثيرين.
بجانب هذا و ذاك فإن الكتاب من وجهة نظري يحتوي علي قنابل سياسية ، ويشير لمواقف ربما يعتبر البعض إبرازها ، أو التعرض لها ، من المُحَرَّمات..لكني رأيت ضرورة الإشارة لبعضها و لهذا اخترت كلمة ( خربشات) في صدر عنوان مقالتي المتواضعة هذه.
فكمعاصر لتلك الحقبة من تاريخ السودان ، و متابع لأحداثها ، فلقد شهدت المعارضة القوية لإنقلاب عبود و التي كان يتزعمها علناً ،و بشجاعة فائقة ، السيد الصديق المهدي .
كانت معارضته علنية و شرسة و بدأت من أول يوم للإنقلاب ، و استمرت قوية و علنية ، لم ترهبه التهديدات ، و لم تلن قناته حتى بعد إعتقال نظام عبود لكل قيادات المعارضة من حزب الأمة و الحزب الإتحادي و الحزب الشيوعي ، و حبسهم في معسكر للجيش في جنوب السودان. نعم أشهد أنه لم يوقف الجهر بمعارضته ، و لم تَلِن قناته، و لم تكسره حادثة المولد البشعة التي قُتِل فيها العديد من أنصاره، و استمر معارضاً بقوة لحكم عبود العسكري إلى لحظة وفاته ،رحمه الله ، إثر نوبة قلبية مفاجئة.
لكن يورد الكتاب مفاجأة صادمة إذ يشير في بعض صفحاته إلى أن السيد الصديق المهدي قد إلتقى قبل الإنقلاب بفترة طويلة بالفريق عبود ، بصفته قائداً للجيش ، و تحدث معه عن الأوضاع السياسية و عن الحاجة للتصحيح !!! لكن تلك اللقاءات لم تستمر ، و تمَّ صرف النظر عنها نهائياً من جانب السيد الصديق ،فالتقط القفاز السيد عبدالله خليل و خطط ثنائياً مع الفريق عبود للأحداث التي فاجأت أهل السودان في فجر السابع عشر من شهر نوفمبر عام ثمان و خمسين و تسعمائة و الف ميلادية، لتبدأ منذ ذلك الحين معضلة أهل السودان مع العسكر و الحكم الديكتاتوري الشمولي .
من زاوية أخرى يتعرض الكتاب لموضوع علاقة حزب الأمة المؤسسية بإنقلاب الفريق عبود و يشير إلى مقابلة تلفزيونية أُجرِيَت مع السيد الصادق المهدي برأ فيها حزب الأمة ، كمؤسسة ، من تهمة الوقوف خلف ذلك الإنقلاب ، و أكَّد فيها أن السيد عبدالله خليل تورط في ذلك الإنقلاب بصفته الشخصية ، و بتقديرات تخصه و لم يك للحزب قرار بتأييدها مسبقاً أو لاحقاً..و يثبت الكتاب إعتراف السيد الصادق بأن السيد عبدالله خليل تقدم في إحدى جلسات مجلس إدارة حزب الأمة بتقييم عام للموقف أتبعه بإقتراح تسليم السلطة مؤقتاً للعسكريين...لكن ذلك الإقتراح تم رفضه بأغلبية ساحقة إذ أيده إثنان فقط بينما عارضه ثلاثة عشر من جملة أعضاء مجلس إدارة الحزب الخمسة عشر.
يتشكك الدكتور فيصل في صحة هذه الرواية لعدم إبراز الحزب أو نشره رسمياً لوثيقة تثبت هذه الرواية أو هذا الإدعاء . لكني سمعت هذه الرواية ،كما وردت أعلاه ، من والدي أمين التوم ، رحمه الله ، منذ أيام الإنقلاب الأولي ..لقد كان وزيراً في حكومة عبدالله خليل قُبيل الإنقلاب. فلقد أكد لي واقعة التصويت في مجلس إدارة الحزب ، و حقيقة أن إثنين فقط ايدوا الاقتراح بينما عارضه الثلاثة عشر الباقين في مجلس الإدارة ، رفضاً لمبدأ الإعتداء علي الديمقراطية الوليدة .. و تقرر ، بعد تقييمٍ للظروف الحرجة التي كانت سائدة آنئذٍ ، أن يتقدم وزراء حزب الامة في حكومة عبدالله خليل بإستقالاتهم لإتاحة الفرصة له لتكوين حكومة جديدة بالطريقة التي يراها مناسبة لمواجهة ما كان يستشعره وقتها من مخاطر علي البلاد ، و من تحركات مصرية و إتحادية كانت تستهدف إسقاط حكومته عبر آليات برلمانية و تحالفات مضادة إمتلأت الأجواء بتسريبات قوية حولها..و أذكر جيداً أن والدي ، الذي كان عندئذ وزيراً في حكومة عبدالله خليل ، جاء يوماً من مكتبه حاملاً بيديه و بشكل غير معتاد ،عدداً ملفتاً من الملفات و الأوراق . سألته بعفوية عن السبب فقال لي أننا سَلَّمنا إستقالاتنا لرئيس الوزراء بقرار من الحزب ليقوم بتكوين حكومة جديدة تناسب المستجدات ، و لهذا رتبت المكتب للوزير القادم ، و حملت للبيت أوراقي و ملفاتي الخاصة . و كان ذلك قبل أيام قليلة جداً من تنفيذ الفريق عبود لإنقلابه المشؤوم .
لذلك أعتقد أن تبرئة السيد الصادق المهدي لمؤسسة حزب الأمة في ما يتعلق بالتخطيط لإنقلاب عبود صحيحة رغم تشكك دكتور فيصل المبني علي عدم وجود وثيقة رسمية تثبت تصويت مجلس إدارة حزب الأمة ضد إقتراح تسليم السلطة للجيش ، بشكل مؤقت أو دائم .. و في ظني أن غياب الوثيقة المفتقدة قد يعود لحقيقة أن الإنقلابيين قد هجموا صباح يوم الإنقلاب علي مكاتب رئاسة حزب الامة و صادروا كل الوثائق المحفوظة في خزائن و مكاتب الحزب و التي من بينها كل وقائع جلسات مجلس الإدارة.. و حتى يوم الناس هذا ، لا أحد يدري أين ذهبت تلك الوثائق !!! لهذا فإن قرار رفض الحزب للإنقلاب ،حتى و لو كان مدوناً في وقائع رسمية ، فإنه قد ضاع إثر ما تم من عبث و مصادرات لكل ما كان محفوظاً في مكاتب و خزائن رئاسة الحزب و بشكل عشوائي و متوحش !!!
هذه الملابسات تجعل مسألة توريط أو تبرئة ، حزب الأمة ،كمؤسسة ، من وِزْر ذلك الإنقلاب ،أمر يحتاج مزيد بحث و تمحيص .
لكن من زاوية أخرى ، ربما تكون أكثر حساسية ، ففي تقديري الشخصي ، و وفقاً لقراءتي لما أورده دكتور فيصل في كتابه الحالي من وقائع ، و ما عايشته شخصياً في تلك الحِقبة من الزمان ، و كنت حينها في نهايات المرحلة الثانوية ، فإن الإمام عبدالرحمن المهدي ، في شخصه ، كان علي عِلم مُسبَق بموضوع الإنقلاب و يبدو أنه كان موافقاً عليه ،أو تمَّ بشكل أو آخر إقناعه به أو تزيينه له !!! . و أجد مؤشرات لذلك في ثلاثة مواقف كان محورها كلها الإمام عبدالرحمن و ليس حزب الأمة. فلقد أصدر الإمام عبد الرحمن خطاباً عاماً قوياً تأييداً للإنقلاب ..صدر خطاب التأييد بإسم الإمام عبد الرحمن و ليس بإسم حزب الأمة ، و تمت إذاعته بسرعة ملفتة من إذاعة أمدرمان الرسمية بعد ساعات قليلة من شروق شمس يوم الإنقلاب، و كأنه كان مُعَدَّاً و جاهزاً و منتظراً لساعة الصفر . و أكثر من ذلك ، قرأ الخطاب في الإذاعة السيد عبدالرحمن علي طه الذي كان من أقرب المقربين و المستشارين للإمام عبد الرحمن . و لا أزال أتذكر، و أتعجب للحماس الشديد الذي ألقى به الخطاب في الإذاعة تأييداً لحركة عسكرية ضربت الديمقراطية و الحُكم المدني في مقتل ، و بإسم مَن نعتبره أبو الإستقلال و أكبر دعاة الحرية و الديمقراطية !!!
موقف آخر يؤيد فرضية معرفة الإمام عبدالرحمن المسبقة و تأييده المطلق للإنقلاب ، هو دعوته و مخاطبته لنواب حزب الأمة في البرلمان بعد ساعات قليلة من نجاح الإنقلاب و إصدار قرار حل البرلمان. لقد تحدث للنواب بإفاضة و حماس تأييداً للإنقلاب و الإنقلابيين ، و قال لهم إنه كان ضرورة ، و إنه لم يك هناك بديل عنه لإنقاذ البلاد مما يحيط بها من تآمر خارجي و داخلي . كل هذا القول و أكثر منه ورد في خطاب الإمام عبدالرحمن الذي أورد دكتور فيصل فقرات كثيرة منه في الكتاب ، تؤكد حماس و تأييد الإمام لما حدث ، و تثبط أي محاولات من النواب لمواجهة الإنقلاب و الإنقلابيين ، كما طلب من النواب العودة بهدوء لدوائرهم و لمناطقهم إنتظاراً لتعليمات لاحقة ستصلهم !!!
إن كل ذلك يوحي بأن الإمام عبد الرحمن لم يفاجأ بالإنقلاب ، إذ لو كان الأمر مفاجئاً لما تَعَجَّل بتأييده علناً و بخطاب قوي ، و لما أخذ مبادرة سريعة بجمع النواب البرلمانيين ليطمئنهم ، و ليعودوا لدوائرهم و أقاليمهم لتهدئة و تطمين مواطنيهم لإتاحة الفرصة للعسكريين ألإنقلابيين لتوطيد حكمهم في أجواء هادئة.
أما ثالثة الأثافي المكملة للتأييد الإذاعي و التطمين النوابي ، فقد كانت في شكل طلب تقدم به السيد عبدالله خليل لمجلس قيادة الثورة لتنصيب الإمام عبد الرحمن رأساً للدولة ..كان ذلك بعد أن وطَّد الإنقلابيون أركان حكمهم بالتعاون مع عدد محدود من المدنيين..يبدو ان ذلك الطلب كان يمثل إتفاقاً مسبقاً مقابل ما سيتم من تأييد للإنقلابيين..و هذا ايضاً يشتم منه رائحة ترتيبات سبقت تنفيذ الإنقلاب، و ثمناً بخساً لتأييد فعل إنقلابي منكر ما كنت أظن أن رجلاً في قامة الإمام عبد الرحمن يرضى أن يُطرَح في حضرته ، دعك من أن يشارك شخصياَ في توطيده..لكن يبدو أن وجود بعض الاعداء التقليدين للإمام من المدنيين ، أمثال السيد احمد خير المحامي ، حالت دون تنفيذ ذلك تنكراً من الإنقلابيين لوعد سابق بينهم و بين السيد عبد الله خليل ، و هو أمر يبدو في ثنايا أقوال مَن إستجوبتهم لجنة التحقيق و أثبتته في تقريرها الرسمي عن إنقلاب الفريق عبود ، ذلك التقرير الذي ضاعت قيمته ، بعد ثورة أكتوبر المجيدة بسبب إتفاق غريب رضي به السياسيون قضى بالعفو عن الفريق عبود و رهطه ، و كان ذلك خطأ فادحاً شَجَّع النميري و البشير و البرهان علي تكرار جريمة الإنقلاب علي الديمقراطيات القصيرة التي أعقبت ثورات أكتوبر ١٩٦٤ ، و ابريل ١٩٨٥ ، و ديسمبر ٢٠١٨م !!!
و جانب آخر أثارني في كتاب دكتور فيصل ، هو إثباته أن أحد وزراء حزب الأمة في حكومة عبدالله خليل كان ضمن الطاقم القانوني الذي أعد المراسيم الدستورية التي بموجبها إستمد الإنقلابيون سلطاتهم ، و أنهوا بها حقبة مدنية/ ديمقراطية ، لم تكمل عامها الثالث بعد إعلان الإستقلال..لقد كان ذلك الرجل هو السيد زيادة أرباب المحامي الذي يبين الكتاب أنه تعاون مع أحمد خير المحامي في إعداد المراسيم الدستورية للإنقلابيين، و بخاصة المرسوم الدستوري الخاص بحل البرلمان ، أي بحل الهيئة التشريعية الدستورية التي تكونت إثر إنتخابات شعبية حرة لم يطعن أحد في نزاهتها أو في تمثيلها الشرعي لأهل السودان. فهل يا تٌرى كان إنخراط السيد زيادة أرباب في تلك الجريمة ذاتياً أم مدفوعاً !!! و لمصلحة مَن أو بدفع مَن كان إستمرار تعاونه العلني مع الإنقلابيين !!!
و أخيراً ثمةأمر مطروح في الكتاب لم أجد له إجابة أو تفسيراً و هو يتعلق بدور مجلس السيادة في تلك الأحداث المؤسفة..إن مجلس السيادة ،حسب دستور السودان ، هو بمثابة القائد الأعلى للجيش ، و عليه فإن علي قائد الجيش و هيئة أركانه أن يأتمروا بأمر المجلس ، كما علي المجلس أن يكون متابعاً بشكل مباشر و غير مباشر لما يجري في رحاب الجيش..
لكن يبدو أن كلهم كانوا في غفلة ، فانقض العسكر علي الحُكم بفعل فاعل مدني، و بدأت بذلك سلسلة الإنقلابات العسكرية التي آستمرت ، و لا تزال ، تعبث بالبلاد و العباد .
و عموماً فإن كتاب الدكتور فيصل رغم صغر حجمه ، فإنه يمثل خلاصة مجهود بحثي و توثيقي كبير ، و يبرز للسطح أسئلة لا تزال تشغل البال حول ملابسات و نتائج إنقلاب ، أو حركة ، الفريق إبراهيم عبود في فجر السابع عشر من شهر نوفمبر عام ثمان و خمسين و تسعمائة و الف من الميلاد.
و لك الله يا وطني.
بروفيسور
مهدي أمين التوم
19 يناير 2023 م
--
mahditom1941@yahoo.com