قبل الجلوس إلى الطاولة

 


 

 

لا يجوز لأحد بعد اليوم أن يتحدث عن المؤامرة والمتآمرين.
فلم يعد ثمة من أحد يتآمر متخفياً.
هو "صراع" مكشوف، والكل – بلا أقنعة – يسعى فيه للنصر، وتحقيق أهدافه، والفوز بالغنيمة المثخنة بالجراح.
والغنيمة هي السودان: أرضاً وسماء وشعباً.

2
في ظل هذه الفوضى التي تحيط بكامل المشهد، كيف تبدو الملامح الحقيقية للقوى المنخرطة/ المتورطة في مستنقعه الضبابي ؟.
قيادة العسكر، لجنة البشير الأمنية ؟.
في ضباب المشهد أعلنوا زهدهم في الحكم وانسحابهم إلى الثكنات، وبعد تلكؤ وقعوا الوثيقة الإطارية ؟.
يا للغفلة ؟.
صدقتهم "المركزية" و"الجذرية" ثم انخرطا في جدال عدائي "غشيم" حول هذه "الوريقة".
ما كان لأحد أن يطلب منهم حدس نوايا العسكر، وما كان لهم أن يطلعوا على غيب ما تخفي الصدور، ولكن كان عليهم (وبإمكانهم) قراءة الأفعال، عملاً بشعار سلطة نوفمبر الانقلابية: "أحكموا علينا بأعمالنا".
فـ"الأعمال بالنيات" كما نقول في اللسان السوداني.
والأعمال هي الكتاب الذي تقرأ فيه بوضوح النوايا وما تكنه القلوب.
فهل أنتم من الغفلة والسذاجة بحيث تصدقون هذ الهراء الذي يسوقونه لكم، وتروِّجه بينكم منصات أجنبيه، اقليمية ودولية ؟!!.

3
إذن:
- هل زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي والتقاءه البرهان دون علم ولا مشاركة لنائبه حميدتي تدل على ما أعلن من نيَّة ؟!.
- أليس من المستغرب أن تأتي هذه الزيارة والحديث عن التطبيع متزامنة مع انطلاق جلسات جماعة الموز الداعمة للانقلاب في القاهرة ؟!.
- ألم يثر هذا ريبتكم في أن هناك شبهة تنسيق ما بين مصر وإسرائيل من جهة، والبرهان من جهة أخرى، في تحريك دمى "الموز" لإرباك المشهد، واجهاض "وريقة" الإطاري ؟!.
- ألم يراودكم الشك لتسألوا أنفسكم: ما هي مصلحة أمريكا في أن تبارك هذه الخطوة الإسرائيلية، التي قال وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين بأنها تمت بموافقة الولايات المتحدة، وفي هذا التوقيت بالذات ؟!.
اقرأوا هذه التحركات بعناية وحصافة ودِقَّة علكم تتعرفون على النوايا.

4
- ورغم نتائجها الكارثية، والأضرار الأمنية والاقتصادية الكبيرة والفادحة التي تسببت فيها اتفاقية جوبا، بالصورة التي تمت بها، ما دعا الكثير من الثوار والمواطنين إلى المطالبة بضرورة إلغائها، ليس ذلك وحسب، بل إن البعض دعا إلى محاسبة قياداتها على الفساد الذي تورط فيه بعضهم وعلى فشل كثير ممن أسندت إليهم مسؤوليات قومية ألحقت أضراراً كارثية.
- ألا تجدون أنه ورغم وضوح كل ذلك، ما يحيِّر – ولو قليلاً – في موقف الثلاثية والرباعية وأمريكا، والاتحاد الأوربي، ومصر وغيرهم، إصرارهم على هذه الاتفاقية الكارثية كشرط ضروري للانتقال، وكأنها كتاب منزل من السماء ؟!!.
ألا تجدون في هذا ما يثير الفضول – ولا نقول الشك والريبة – لأنكم أنتم ونحن، والقتلى، والمهجرون، والمغتصبات، والعالم كله شهود، ليس على فشل هذه الاتفاقية فحسب، بل وعلى أضرارها الفادحة ؟!!.
- وما يثير الغرابة أكثر أنكم لا تكفون عن استجدائهم للمشاركة، رغم أن صفتهم الحقيقية هي أنهم ليسوا فقط داعمي الانقلاب، بل هم من حرض عليه، ودعا له على رؤوس الأشهاد، وإلى الآن هم دمى يحركها العسكر بأصابع مصر... فلماذا ؟!!.

5
- أتصدقون مزاعمهم بأنهم زاهدون في الحكم، وراغبون في الاتفاق معكم على تسليم السلطة للمدنيين؟. إذن كيف نفسر إرهاب الدولة ضد مواطنيها العزل وهم يحتجون سلميَّاً على الحياة التي استحالت جحيماً ؟.
هل سألتم أنفسكم: لماذا إذن يمعن العسكر في القتل الوحشي، وفي الاعتقال والإخفاء القسري، وتلفيق التهم الغبية على الشباب من الجنسين، طالما هم يرغبون في السلام والعودة إلى ثكناتهم ؟. أم أن هذا نمط جديد من إبداء حسن النيَّة ؟!.
ولماذا بند القتل والتعذيب والاعتقال التعسفي مغيَّب في أجندة الوسطاء ؟!.

6
هل خطر لكم أن تسألوهم:
- كيف امتلأت البلاد بالجيوش المسلحة خارج سلطة الدولة، وفي كل مكان صار هناك جيش بقياداته من الرتب الكبيرة وأركان حربه، دع عنك ولاية دارفور التي لا يستطيع أحد أن يحصي عدد جيوشها، فقد انتشرت العدوى وأصابت حمى التجييش كل البلاد، وصار للشمالية جيشها وللشرق جيشه، وللبطانة جيشها وكلها تحت رعاية شيخ ما من الإدارات الأهلية. وقد قالها "مادبو" بأن حميدتي خط أحمر !!.
فكيف يحدث هذا تحت أبصاركم، وأنتم قادة الجيش المسؤول أولاً عن أمن البلاد؟!.
وكيف يحدث وأنتم من تحكمون البلاد حكماً عسكرياً مطلقاً ؟!.

7
وإذا كان هذا يحدث وأنتم الحاكمون فما جدواكم وما جدوى المؤسسة التي باسمها تحكمون، أليس عدم وجودها خير للبلاد، وأوفر للمال وللنفوس ؟!.
- البلاد تنقص من أطرافها شمالاٍ وجنوباً وشرقاً وغرباً بالاحتلال والسيولة الأمنية، فما هي مسؤوليتكم ؟.
أن تتركوها، لتتفرغ أجهزتكم العسكرية والأمنية والشرطية للفتك بالطلاب الذين يحتجون على ارتفاع الرسوم الدراسية. أو بالمواطنين الذين يحتجون على انعدام الخدمات الأساسية، ويشتكون الجوع وغلاء المعيشة الطاحن. أو لقمع المعلمين الذين يطالبون بزيادة رواتبهم ؟!.
أسألوهم:
أهذا غاية ما عندكم للشعب الذي يدفع لكم معاشكم. وغاية ما أنتم قادرون عليه، مكافأة له ؟!.

8
فاوضوهم إذن، طالما اخترتم الجهاد التفاوضي وسيلة مدنية سلمية للتغيير وتحقيق الأهداف التي دفع الشباب ثمناً ولا أغلى منه من ثمن لتحقيقها، فلا تثريب عليكم. فوسائل الجهاد المدني السلمي كثيرة ومتعددة المداخل.
ولكن عليكم وأنتم تفاوضون أن لا تعطوا الدنيّة في حق شعوبكم.
أعرفوا قدر شعبكم وقدروه حق قدره، فهو الأعلى.
وأعرفوا حجم حقوقه ولا تُنقِصوا مثقال ذرة منها.
وأنتم به أقوى

9
والحمد لله.
لقد اتضح كل شيء واستبانت الرؤية ولم يعُد هناك ما هو خافٍ أو غامض أو معتم.
لقد تبددت الظلمات وانقشع الضباب، وآذن فجر الحرية والخلاص ببزوغ. وبدأت خيوطه المضيئة تغسل بنورها الزوايا المعتمة وتُجلي مقاطع الكلام والحروف والكلمات من صدأ الأكاذيب والمجازات والتأتأة.
الآن تمايزت صفوف المواجهة تحت غبار المعركة، ولم يعد في ساحتها سوى لونين وفسطاطين.


izzeddin9@gmail.com

 

آراء