ذكري لن تموت

 


 

شوقي أبوالريش
13 February, 2023

 

كيف أبدأ الحديث عن أخي وصديقي أبوبكر سيد أحمد أبو دقن وها تمر علينا ذكراه السنوية الثانية...؟ ترددت مليا رغم أن الحديث عن أبوبكر له شجون وحديث لا يكمل ولا يمل.. هو السهل الممتنع.. ناجيت نفسي لماذا أعيد للأهل والصحاب وكل من عرفه ذكري أليمة !! .. لماذا أفتح جرحا عميقا لم يندمل بعد لتكون بداية رحلة أحزان من جديد.؟ لماذا أعيد دموع الحزن والأسي إلي المآقي..؟ ومن أين يكون الحديث.. ؟ هل من البدايات أم من النهايات أم من نهاية النهايات؟ فكل من خلق علي هذه البسيطة، له نهايتان، نهاية دوره فى الحياة ثم نهاية حياته نفسها طالت أم قصرت – (وكما قال الشاعر المناضل صلاح أحمد إبراهيم في فلسفة الردي : آخر العمر.. قصير أم طويل... كفن من طرف السوق.. وشبر في المقابر... وإذا متنا سنحيا في بنينا)- ليصبح بعدها ذكري متقدة أو يكون نسيا منسيا..
منذ أن رحل أبوبكر عن دنيانا في 25 يناير 2021 تمر علينا ذكراه كل يوم بل كل دقيقة، سواء في ما نتداوله من أحاديث بيننا عنه أو ما يكتب في سيرته في كل يوم جديد أو دعواتنا له دبر كل صلاة أو زيارته في مرقده في دبي أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي أو عبر إجترار ما خطه هو للأجيال،..فذكري أبوبكر هي ذكري أبدية.. ذكري لن تموت أبدا ، فشخص مثل أبوبكر ليس له مثيل ولن نجد له بديل.. إنسان جميل يتمتع بكل الصفات الجميلة فى الكون.. حسن الخلق وطيب المعشر والصدق، صاحب الجود والكرم والنصح والجدية والإيثار والعلم والثقافة.. لقد كان موسوعة متحركة..إذا جلست معه لحظة أو يوما كاملا فأنت قطعا المستفيد، فهو الذي يمسك بناصية الحديث المفيد لأنه يعلم ما لا تعلم ولا يبخل عليك بما يعلم، فهو كبائع المسك يعطيك ما ينفع ويفيد وكان كالغيث أينما وقع نفع... إنه أبوبكر.
مرحلة البديات..نحن جيل واحد من منطقة واحدة هي وادي حلفا في أقصى شمال السودان، لكن لم ألتق بالأخ أبوبكر هناك لإختلاف الأمكنة، فقد نشأ هو في قرية "عمكة" جنوب المدينة وشخصي الضعيف نشأ في قرية "دبيره" التى تبعد عنها حوالي خمسون كيلومتر شمالا في إتجاه حدود السودان مع الشقيقة مصر، وثمة سبب آخر، فعندما أتينا إلي المدينة هو درس المرحلة المتوسطة في مدرسة وادي حلفا الأميرية وأنا درست في وادي حلفا الأهلية. لذلك لم نلتقي ولم نعرف بعض في هذه المرحلة من الحياة.
المرحلة الثانية.. كان أول لقاء لنا في عام 1965 في مدرسة وادي سيدنا الثانوية التي تقع في ضواحي مدينة أمدرمان العريقة قريبة من قري الشهيناب والسروراب. كنا دفعة كبيرة، من مختلف مناطق وادي حلفا، قبلت في مدرسة وادي سيدنا الثانوية حسب التوزيع الجغرافي للمدارس آنذاك..تعرفت علي أبوبكر لأول مره في تلك المدرسة العريقة، التي كانت بوتقة إنصهار للطلاب القادمين من عدة قبائل و مناطق في السودان الشاسع والمترامي الأطراف. يبدو أنه كان صغيرا سنا وحجما ولذلك كانت إهتماماته مختلفة...لم يشغل نفسه مثلنا باللعب وبالكرة والسياسة بل كرس كل وقته وجهده للعلم والتحصيل والإطلاع وإكتشاف قدراته الذهنية المتقدمة منذ تلك المرحلة العمرية المبكرة. كان يشابهه في الحجم والعلم والذكاء صديقه الزميل الدكتور سيد أحمد مختار الخطيب إلا أن سيد أحمد كان يختلف عنه بإهتمامه بألنشاط الرياضي والفني أكثر من تحصيل الدروس والمزاكرة.. لم يبق أبوبكر معنا كثيرا فبعد الإجازة السنوية الأولي لم يعد إلي الوادي..وعلمنا بعد فترة أنه إنتقل إلي مدرسة عطبرة الثانوية برغبة والده حتي يكون تحت رعاية قريبه الأستاذ والمعلم القدير المرحوم محمد عبد المجيد طلسم، طيب الله ثراه، وكان هو ناظر مدرسة عطبرة الثانوية آنذاك. وأظنه منذ ذلك الوقت الباكر كان أبوبكر يفكر في تقنية "الفيسبوك" و"الوتساب" ووسائل التواصل الإجتماعي المختلفة حيث كان يرسل لنا يوميا من عطبرة في أولي أيامه رسائل قصيرة ورسومات معمارية وكاركاتيرية تعبر عن مدي شوقه للوادي وطلابها ومدي حزنه علي مفارقتها دون إرادته..ثم إنقطعت أخباره عنا إلا أننا في طريقنا بقطار الإكسبرس من الخرطوم إلي وادي حلفا، في الإجازات المدرسية، كنا نمر بمحطة سكك حديد مدينة عطبرة، وما أن يقف القطار في المحطة كنا نتذكر زميلنا أبوبكر و ننظر في وجوه المسافرين والمودعين في المحطة لعلنا نلمح وجه أبوبكر بينهم مسافرا معنا أو مودعا إلي أن أرسل لنا ذات مره رسالة من رسائله القصيرة أنه لا يسافر إلي وادي حلفا لأنه أصبح من العرب الرحل.. بقصد أن والده كان كثير الترحال داخل البلاد شأن منتسبي السكة حديد. وهكذا أفقدنا الأمل في مقابلته مرة أخري وبذا إنتهت تلك الحقبة القصيرة معه.
المرحلة الثالثة.. كما قال قيس بن الملوح : " قد يجمع الله الشتيتين بعد أن يظنان كل الظن ألا تلاقيا" تدور الأيام والسنين ونلتقي مرة أخري في رحاب الجامعة، هو في كلية هندسة المعمار وأنا في كلية الإقتصاد.. كان ما زال صغيرا سنا وحجما لدرجة كنا نشفق عليه لأنه كان دائما يحمل فوق ظهره أدوات الهندسة المعمارية من مساطر أطول منه وأطقم مثلثات أرسطو وبراجل أكبر منه ودفاتر الرسم وأقلام كثيرة فيها كل ألوان الطيف..في كثير من الأحيان تأخذه الونسة معنا في قهوة النشاط ثم فجأة يجري شاقا الميدان الغربي برجليه، بكل ذلك الحمل الثقيل، حتي لا تفوته المحاضرة..وقد كان دائم الإنشغال في كلية المعمار لطبيعة الدراسة فيها. وفي الجامعة كان أبوبكر قريب الصلة بمجموعتين من الطلاب والطالبات، مجموعة أهله وبلدياته ومجموعة زملاءه وأصدقاءه فى هندسة المعمار و أذكر منهم الباشمهندس صلاح الجاك والباشمهندس صلاح جار الله، رحمه ألله، والباشمهندس منيرة حمد النيل ضيف الله والباشمهندس فايز لويس.
لقاءآتنا في الجامعة كانت علي قلتها مفيدة وممتعة.. كنت ألتقيه أحيانا في قهوة النشاط حيث الشاي والونسة و أحيانا في مباريات الجامعة في كرة السلة و في الندوات السياسية في نادي الطلبة أو في سينما النيل الأزرق أو الحفلات الغنائية الساهرة في الجامعة. وِ من ضمن الأنشطة إشتركنا سويا في تدريبات وفعاليات مهرجان الفنون الشعبية في مارس 1968 والمعروفة "بليلة العجكو" والتي أقيمت في قاعة الإمتحانات آنذاك... و حدس ما حدس...ليقف دليلا علي التاريخ الإرهابي الأسود لجماعة التيار الإسلامي في الجامعة.
المرحلة الرابعة..بعد التخرج مباشرة ذهب كل منا إلي حاله وأخذتنا مشاغل الحياة ومعايشها، أبوبكر عمل مهندسا معماريا في الحكومة حيث كان مسؤولا عن تخطيط وتنفيذ مباني الشرطة قبالة السوق الشعبى القديم، و كنت أعمل موظفا في ديوان شؤون الخدمة. إبان حكم المرحوم جعفر نميري أحيل أبوبكر وعدد من زملاءه المهندسين إلي المعاش للصالح العام بعد أن تقدموا بمطالب نقابية لتحسين شروط خدمتهم. وفى نهاية السبعينات تركنا السودان الحبيب وإغتربنا إلي الأمارات العربية المتحدة. هو إتخذ دبي مستقرا له وأنا في أبوظبي، علي أن نعود إلي الوطن بعد تحسين أوضاعنا في دول النفط إلا أن الغربة تمددت، بقدرة قادر، إلي يومنا هذا وتمضي.
المرحلة الخامسة..هذه الفترة كانت من أجمل الفترات وأميزها فقد كثرت فيها لقاءاتنا وكان أبوبكر هو قبلتنا في مدينة دبي، نمر أولا علي منزل الباشمهندس صالح فقير، أطال الله عمره، حيث كان يسكن في مدخل مدينة دبي ثم نتقدم لنحط الرحال عند منزل أبوبكر، الذي كان منزلنا، لنرتاح ونسمع منه كل جديد ثم نسير بهديه وإرشاداته في أسواق المدينة. كان حينها عازبا مشغولا بإستكشاف تطبيقات الكومبيوتر وشغوفا بالأطفال، ولذلك كنا نترك أطفالنا، إبنتي عزه وعمر إبن مولانا المرحوم صالح وهبي ببزازاتهم معه في المنزل لنتجول براحتنا في أسواق دبي الشعبية (مثل سوق مرشد وسوق الغنم وسوق نايف وسوق البهارات وسوق الدهب وسوق الكرامة ..إلخ.. وكان مول الغرير، القريب من منزل أبوبكر، هو أكبر مول في دبي آنذاك) الساعات الطوال لنعود منتصف الليل ونجده في إنتظارنا علي العشاء لنكمل الونسات.
في فترة ما إنتقل أبوبكر من دبي إلي أبوظبي للعمل مشرفا علي مشروع معماري كبير وبالتالي كانت لقاءاتنا أكثر، أحيانا في منزله أو في منزل شقيقته عائشة و زوجها معتصم، زميلى في العمل، أو في منزلي. لكن بمجرد أن إكتمل المشروع عاد أدراجه إلي دبي المدينة التي أحبها حتي النخاع ولم يفارقها إلا للشديد القوي كما يقولون. في مدينة دبي إلتحق بالعمل مهندسا مشرفا في شركة "إعمار" التي كانت في بداياتها آنذاك.
المرحلة السادسة..كبر أبوبكر حجما وسنا و تزوج من قريبتنا مدام ساميه في يوليو عام 1983 و بذا إنضم إلي نادينا رسميا وأصبحت لديه أسرة وصار وقته موزعا بين أسرته وحاسوبه وإعمار، وما بينها يسترق الوقت لوسائل التواصل الاجتماعي و الشبكة العنكبوتية و إهتماماته بالتراث النوبي ورسائله الإسفيرية اليومية ذات المعاني و التي كان يختمها ب "اون منقا آوا". و رغم إنشغاله وضيق وقته فقد برز في كل تلك المجالات، فما تراه العين اليوم في مدينة دبي من تطور عمراني فاق الخيال ، أبرزها برج خليفة وبرج العرب ونخلة جميرا و دبي مارينا و أبراج الإمارات و دبي مول و مركاتو مول.. الخ، تجد فيها يصمات ولمسات الباشمهندس أبوبكر الذي كان المهندس الإستشاري لمشاريع إعمار وكان ضمن الفريق الهندسي المصمم والمنفذ لكل تلك المشاريع و التي بسببها صارت دبي حديث العالم و وجهته المفضلة.
لقد أفني أبوبكر جزءا كبيرا من شبابه في البحث والتنقيب عن التراث النوبي وإبرازه للعالم وقد كان مرجعا للكثير من بعثات التنقيب و الآثار العالمية والباحثون في التراث النوبي، وقد عمل مع المرحوم الدكتور عبد القادر شلبي في مدينة العين في كتابة وتوثيق التراث النوبي كما ساهم معه في صناعة الحروف النوبية التي صارت تكتب بها الآن. لقد كان أبوبكر تاريخا لحضارة النوبة وعاداتها وتقاليدها وثقافتها وأنسابها.
أما علي نطاق الأسرة فقد كان أبوبكر شخصا "بيتوتيا" راحته في بيته، حتي عندما كان عزوبيا، أمام حاسوبه وأجهزته الإلكترونية وهواتفه الموزعة في غرفة جلوسه..لقد كان متصلا بالعالم الخارجي علي مدار الساعة ولذلك إذا إحتجت إليه في أي وقت، نهارا كان أم ليلا ، يرد طلبك في الحال. رزقه الله بأنجال نوابغ ماشاء الله، وقد إهتم بتعليمهم أيما إهتمام، بناته مها ورشا، درستا في الجامعات الماليزية حتي حضرتا درجة الماجستير، أما إبنه ضياء فقد درس في الإمارات وأيضا حضر درجة الماجستير.
في مجال الحاسوب والشبكة العنكبوتية والإتصالات يكفي أنه كان من أوائل من طرقوا هذا المجال في الثمانينات من القرن الماضي قبل أن يصبح مشاعا كما الآن و أنشأ أول معهد لتدريب الحاسوب في الإمارات وتبحر في هذا المجال وأصبح خبيرا فيه وخاصة في "الاوتوكاد" الذي رسم وصمم به معظم المشاريع الهندسية في مدينة دبي. أما في مجال التواصل الاجتماعي فقد كان أكثر الناس وجودا في كل وسائل الإتصال وأكثر الناس نشرا للمعلومات المفيدة عن أفريقيا وعن الدول والحضارات وعن السياسة و الإقتصاد و الأدب فقد كان كثير الإطلاع و المعرفة ويعتبر موسوعة معرفية في زمن كان العم "قوقل" لم يخلق حتي في رحم أمه.
كان الباشمهندس أبوبكر طموحا في حياته وحاول أن ينفك من قيود الوظيفة مستغلا معلوماته الوافرة و ذهنه المتقد، وكانت لديه أفكار تجارية ذكية كثيرة جرب منها البعض. وقد لا يعلم الكثيرون أنه غامر ودخل في مجال تجارة النفط في فترة ما وقطع فيه شوطا بعيدا إلا أن تلاعب سماسرة النفط وعدم وجود الضمانات لم يشجعه علي الإستمرارية.
مرحلة النهايات.. في يونيو عام 1996 غادرت دولة الإمارات إلي دولة قطر، مواصلة لرحلة الغربة، وتركت الباشمهندس أبوبكر مشغولا مع محبوبته دبي وتركت أيضا في دبي إبنتي عزه، تحت رعايته، لكن هذه المره كانت تعمل طبيبة في مستشفي المكتوم..
في هذه المرحلة بعدنا عن بعض حيث صار كل منا في بلد آخر إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي جعلتنا علي صلة يوميه وفي كل الأوقات بل أكثر من ذي قبل عندما كنا نقيم في بلده واحدة. كنت أتابع بإستمرار ما يكتبه كل يوم ونتبادل الآراء و التعليقات، وكان هو أيضا يقوم بنشر مقالتي علي صفحته الخاصة حتي تنتشر علي أوسع نطاق لكثرة قراء صفحته. وهكذا مرت الأيام والسنوات ونحن علي إتصال عبر كل الوسائل والعمر يمضي إلي أن ظهرت جائحة كوفيد 19 قبل ثلاث سنوات والتي كادت أن تقضي علي العالم وتوقف الحياة فيه. أصاب هذا الفيروس عدد كبير من الأصدقاء والزملاء والأهل وكان سببا في رحيلهم عن الدنيا. وكنا نتحدث مع بعضنا عن هذه الجائحة وكيفة الوقاية؟ ومتي الخلاص؟ ونواسي بعضنا كلما توفي زميل أو صديق أو قريب بسببه..لكن لم يخطر علي بالنا أن هذا الفيروس اللعين سوف ينتقل إلي أبوبكر وهو الحريص بطبعه.
وها تمر علينا الذكري السنوية الثانية لتلبية أبوبكر نداء ربه ونحن ما زلنا لا نستوعب دبي بل الدنيا بدونه.. لا نصدق أننا عشنا سنتين من دون أبوبكر.. من دون أن نسمع أو نقرأ كلماته.. من دون نصائحه..من دون تعليقه فيما نكتب ولسؤاله "اوون منقا آووا"، اللهم لا إعتراض علي حكمك لكن الفقد كبير فوق إحتمال نفوسنا الضعيفة..فيا أبوبكر، إن كنت تسمعنا، لا نبكيك إعتراضا، فكل نفس ذائقة الموت، لكن نبكيك فقدا وإشتياقا.
اللهم أرحم أبوبكر و إجعل مسكنه في أعلي منازل جناتك..أللهم أنزل الصبر والسكينة في قلوبنا وقلوب زوجته وأنجاله ووالدته وإخوته وإخوانه وأصدقاءه ومعارفه وقراءه الكثر في كل مكان..اللهم أعفو عنا إن أخطأنا فإنك عفو كريم.
لله ما أعطي ولله ما أخذ...
شوقي أبوالريش
10 فبراير 2023

reeshs@hotmail.com

 

آراء