السودانيون النوبيون والسد العالي: استعراض كتاب حسن دفع الله: “هجرة النوبيين”
بدر الدين حامد الهاشمي
2 March, 2023
2 March, 2023
السودانيون النوبيون والسد العالي: استعراض كتاب حسن دفع الله: "هجرة النوبيين"
لورنس. بي. كيروان L. P. Kirwan
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لاستعراض قصير لكتاب الأستاذ حسن دفع الله المعنون "هجرة النوبيين"، بقلم عالم الآثار والجغرافيا البريطاني لورنس. بي. كيروان (1907 – 1999م) الذي عرف بمساهماته العديدة في مجال دراسة الحضارة والآثار النوبية في مصر والسودان، والآثار في جنوب السعودية وشرق أفريقيا. نُشِرَ الاستعراض عام 1976م في الصفحات 137 – 139 من العدد الأول من المجلد رقم 142 من "المجلة الجغرافية The Geographical Journal".
عمل لورنس كيروان في مجال آثار النوبة بمصر والسودان بين عامي 1929 – 1934م، ثم عمل بالتدريس والبحث بجامعة أدنبرا بإسكتلندا. يمكن الاطلاع على نعي صحيفة الجارديان لكيروان في هذا الرابط: https://www.theguardian.com/news/1999/apr/21/guardianobituaries2
والأستاذ حسن دفع الله (1924 – 1974م) هو من خريجي كلية غردون التذكارية، وعمل إدارياً في "الحكومات المحلية". أُسْنِدَتْ إليه مهمة الإشراف على إعادة توطين الحلفاويين في منطقة "خشم القربة" بعد قيام السد العالي في مصر. وسجل المؤلف تفاصيل تلك العملية في كتاب نُشِرَ عام 1975م باللغة الإنجليزية عنوانه "The Nubian Exodus هجرة النوبيين"، ترجمته للعربية الأستاذة سمية عبد المجيد محمد عام 2002م، وترجمه أيضاً الأستاذ عبد الله حميدة في كتاب صدر عام 2003م.
المترجم
****** ****** ****** ******
عندما تقدمت، قبل نحو خمسة عشر عاماً، حملات الآثار الأولى عبر نهر النيل لإنقاذ آثار النوبة ومواقعها من الغرق نتيجةً لقيام "السد العالي"، احتل السودان مكانةً بارزةً في الصحافة العالمية لأول مرة منذ الحملة النوبية التي قادها كتشنر ضد حكم المهدية. غير أنه، ومع كل تلك الشهرة الإعلامية في الأدبيات التي كُتبت وقُيلت عن تلك الحملة العالمية، إلا أن مصير النوبيين أنفسهم لم يجد نسبياً إلا القليل من الاهتمام. لقد كان من الواجب أيضاً إنقاذهم وإعادة توطينهم؛ بلغ عددهم 100.000 نسمة، نصفهم من النوبة المصرية، ونصفهم الآخر من السودان، عبر "حدود المساحين surveyor’s frontier" غير المفهومة التي قسمت أرضاً متجانسة جغرافياً.
ويدور موضوع هذا الكتاب القيم، الذي ألفه المسؤول الإداري في منطقة وادي حلفا آنذاك، والذي تم تعيينه مفوضاً لإعادة توطين النوبيين السودانيين وللإشراف على تهجيرهم من منطقة تمتد لمائة وخمسين كيلومتراً من وادي النيل جنوب هذه الحدود، حول المشاكل المستعصية التي صاحبت إعادة توطينهم. واعتمد المؤلف في كتابه على التقارير الرسمية ومحاضر الاجتماعات، وعلى مذكراته اليومية الخاصة، وأعتقد – مبلغ علمي – أن هذا الكتاب هو أول عمل جاد من نوعه. ولم تكن فترة الستينيات هي المرة الأولى التي يقع فيها النوبيون (وهم شعب ودود ومسالم، يهتمون في الأساس بحقولهم الصغيرة وقطعان بهائمهم الهزيلة) ضحايا لقيام سد تم تشييده لمصلحة مصر. فقد تم بناء سد في أسوان في بدايات القرن الماضي (تحديداً في الفترة ما بين عامي 1899 و1906م. المترجم)، وتمت تعليته في عام 1912م، وتعليته مرة أخرى في عام 1934م. وغير بناء ذلك السد بالفعل الكثير من النوبة المصرية؛ حيث حول المناظر الطبيعية التي تنتشر فيها قرى مغسولة بالبياض تجمعت في ظلال مزارع صغيرة ولكنها مورقة، إلى أرض قاحلة تكسوها الصخور والرمال.
غير أن النوبيين المصريين كانوا قد شيدوا بيوتهم في مكان عالٍ سفوح التلال، وتمكنوا – بطريقة ما – من التشبث بأرضهم الحبيبة. وفي المقابل. وأحس النوبيون في السودان عندما سمعوا بقرب قيام "السد العالي" بأنه في مقدورهم فعل ذات الشيء. وكانت إحدى المهمات غير السعيدة التي أُسْنِدَتْ إلي مؤلف هذا الكتاب هي تخليصهم من تصديق إمكانية حدوث مثل ذلك الاحتمال. وكان عليه إقناعهم بأنه ليس أمامهم من مناص سوى إخلائهم لمنطقتهم هذه المرة، وهجرهم لأرض كانت ملكهم منذ العهد الفرعوني. ولا أزال أذكر مدى القنوط الذي خيم على السكان النوبيين السودانيين، خاصة العُجُز منهم. ثم اسْتَحالَ قنوطهم إلى غضب عارم عندما ظهر السؤال حول الموقع الذي سيعاد توطينهم فيه (اُنْظُرْ ترجمة مقال أ.د. إسماعيل حسين عبد الله عن هذه المسألة في الرابط: https://tinyurl.com/4hjvdxyf). وتتطلب ذلك الأمر استخدام حسن دفع الله لكل ما عنده من لباقة وتعامل متعاطف. وساعده في ذلك ما قام به الرئيس عبود من تدخل حميد جاء في وقته المناسب تماماً من أجل نزع فتيل الموقف المتوتر (؟! المترجم). بينما لم يجد حسن دفع الله في ذلك الموقف أي عون من موظفي الهاتف (الترنك) في وادي حلفا، الذين دأبوا على نشر كل أنواع الشائعات الجامحة في مختلف مناطق مصر والسودان.
وخلافا لما قامت به الحكومة المصرية، التي قررت بمفردها- ودون أخذ مشورة النوبة المصريين أو غيرهم – أن تنقل المتأثرين بقيام السد العالي إلى منطقة "كوم أمبو" في صعيد مصر، بذل السودانيون ما في وسعهم لاختبار الرأي العام حول الموقع الأصلح لإعادة توطين النوبة السودانيين. غير أن ذلك لم ينجح، إلى حد كبير وذلك لأنه تبين أن اللجان المحلية المختارة لم تكن تمثل السكان حقاً. وبذا كان من واجب المسؤولين الحكوميين أن يتولوا بأنفسهم اختيار الموقع (الأصلح) لإعادة التوطين. وكان اختيارهم مثار خلاف وجدال بين النوبيين. ورغم أن خيارات مواقع إعادة التوطين المقترحة كانت قد شملت - على الورق - خمس مناطق، إلا أن موقعين فقط (وادي الخوىّ في منطقة دنقلا، وخشم القربة على نهر أتبرا) كانا هما الأكثر عمليةً من باقي المناطق المقترحة. وأقر مؤلف الكتاب بأن وادي الخوىّ كان خياراً جاذباً، إلا أنه لم يكن خياراً مفضلا من وجهة النظر النوبية. ويقع ذلك الوادي جنوب الشلال الثالث، في منطقة النوبيين من الناحيتين البيئية والتاريخية؛ وفي منطقة صحراوية تكاد تنعدم فيها الأمطار، ولا تبعد كثيراً عن موقع عاصمة النوبة المسيحية في العصور الوسطى. وكانت تربتها مناسبة تماماً للزراعة النوبية بدورات محاصيلها المختلفة. ومن مزاياها الأخرى أن تلك المنطقة كانت ستسمح للنوبيين بمواصلة زراعة النخيل، التي لطالما وفرت لهم اقتصاد كفاف subsistence economy خالٍ من المتاعب بشكل ملحوظ. غير أنه كانت هناك العديد من العيوب الخطيرة في منطقة وادي الخوىّ في نظر الذين ينظرون إلى المستقبل (ومنهم حكومة السودان)، وليس إلى الماضي؛ وفي نظر الذين يؤمنون بأنه من ناحية قومية، فمن الخير أن يتم جلب النوبيين أكثر إلى الحياة السودانية السائدة. ومن عيوب منطقة وادي الخوىّ الأخرى أنها منطقة بعيدة، والوصول إليها عسير نسبياً. وسيكون إنشاء مسار يربطها بخط سكة حديد حلفا - الخرطوم عبر الصحراء مكلفاً للغاية. وستكون هناك حاجة ماسة لأعمال ضخمة من أجل تحسين 400 كيلومتر من "الطرق" الضرورية لتصدير التمور إلى مصر. وكان اختيار وادي الخوىّ منطقةً لإعادة توطين النوبيين سيطيل، بلا شك، من أمد عزلتهم.
أما الخيار الآخر، في خشم القربة، فهو خيار مختلف جداً. ويصح القول بأنه خيار يَعِدُ بكل المزايا الاقتصادية التي تفتقر إليها منطقة وادي الخوىّ؛ فخشم القربة بها مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة؛ وتتصل بشبكة خطوط حديدية مركزية؛ وبها سد للري بالقنوات، ولإنتاج كهرباء لم تعرفها من قبل القرى النوبية. ولكن من ناحية أخرى، يمثل ترحيل النوبيين إلى خشم القربة اضطرابا بيئيا واختلالا اجتماعيا شديد العمق. فهو يعني انتقالهم من بيئة صحراوية (شحيحة المطر) إلى منطقة تهطل فيها الكثير الأمطار، مما يضطرهم لهجر مبانيهم التقليدية المبنية بالطوب الطيني المجفف بحرارة الشمس. وسيَرْحَلْون لمنطقة تقع على نهر أتبرا، الذي يختلف عن نهر النيل، إذ أنه يجري خلال ممر ضيق، ويجف في نصف شهور السنة. ولا توجد بخشم القربة أشجار نخيل. وفيما عدا القمح، لا يمكن للنوبيين أن يزرعوا بها نفس المحاصيل التي كانوا يزرعونها في دورات بمنطقتهم الأصلية، مثل العدس والحمص والترمس والفول والبازلاء. وفوق كل ذلك، سوف يحدث تهجير النوبيون إلى خشم القربة تغييرات أساسية أخرى. فمثلما سيفقد النوبيون دخلهم السهل من التمور، فإنهم سيخسرون كذلك المال الذي يكسبه معظم رجالهم من العمل خارج منطقتهم، غالباً في مجال الخدمة المنزلية في القاهرة أو الخرطوم. وظل عملهم هذا يمثل مصدر دخل لأجيال من النوبيين. وكانت النساء والشيوخ والأطفال في النوبة يقومون على رعاية حقولهم الصغيرة وبهائمهم القليلة. غير أنه بعد إعادة توطينهم في خشم القربة، سيجب على شبابهم البقاء في منطقتهم الجديدة للعمل، ليس بحسبانهم مزارعين يعملون لحسابهم الخاص، بل كمزارعين مستأجرين tenant farmers يعملون في نظام معقد من التعاونيات في الحواشات الكبيرة التي خصصت لهم، حيث يجب عليهم أيضاً التعامل مع آلات الفلاحة الحديثة.
وتم في نهاية المطاف اختيار خشم القربة كمكان لإعادة توطين النوبيين. وربما لم يكن اختيار ذلك الموقع عند شبابهم اختياراً سيئا على كل حال، فالمكان موعود بأنه سيكون حضرياً، أقل عزلةً وله مستقبل أكثر ازدهارا. غير أن كبار السن كانوا – ولا يزالون بلا ريب – في حالة حيرة وفزع من احتمال تَضاؤُل استخدام لغتهم القديمة (التي تُنْطَقُ ولكن لم تكتب منذ العصور الوسطى)، مع شيوع استخدام اللغة العربية عند النوبيين، وكانوا يخشون أيضاً من أن تختفي كذلك – بعد ضياع لغتهم الأصلية - أخلاقياتهم وقيمهم وعاداتهم القديمة.
لقد قدم مؤلف الكتاب رصداً متوازنا يثير الاعجاب لكل أحداث عملية تهجير النوبيين وما سبقها وما تلاها. وتطرق لما اِعْتَراها من خلافات ونقاشات واحتجاجات قبل الوصول أخيراً للقرار النهائي، الذي كان بمثابة معضلة جغرافية حقيقية. وتناول الكاتب أيضاً عملية التهجير نفسها، وسجل بعض التعليقات الحكيمة والقيمة حول خصائص وعادات النوبيين. وقدم المؤلف أيضاً صورة تنبض بالحياة لأيام حلفا الأخيرة، والارتفاع البطيء الذي لا يرحم لمياه النيل، شعرت به المنطقة لأول مرة في سبتمبر 1964م من خلال التَقَوُّض التدريجي للمباني وانهيارها بما في ذلك المنازل ذات الشرفات الشبكية التي يعود تاريخها إلى العصر العثماني. وفي حديقة حسن دفع الله الخاصة، انتعشت الورود التي زرعتها زوجة أحد اسلافه البريطانيين لفترة وجيزة مع ارتفاع منسوب المياه. وعندما انهارت المنازل، انطلقت الجرذان حاملة صغارها في أفواهها، متجهةً صوب الأراضي المرتفعة، بينما واصل البعوض في التكاثر لفترة أطول. وحتى أواخر عام 1966م، كان من الممكن رؤية مئذنة مسجد الحسين الجميلة في حلفا دغيم، الذي غمر بالماء الآن، وهي ترتفع فوق النيل.
شمل الكتاب أيضاً عرضاً مختصراً لـ "نبش / استخراج التاريخ"، ليس فقط عن طريق بعثات الآثار، بل بقلم المؤلف نفسه، وهو من كانت قد أسندت إليه مهمة نقل رفات بطلين من أبطال المهدية من وادي حلفا إلى منطقة أكثر أمانا (يمكن النظر في مقال لحسن دفع الله تُرْجِمَ بعنوان: "السجناء السياسيون في وادي حلفا" تجده هنا https://tinyurl.com/yckpd7fe). عجبت لما رواه مؤلف الكتاب عما اكتشفته بعثة آثار نرويجية من مقبرة أثرية قديمة كانت فيما يبدو تقع تحت مقبرة "فكي" مبجل اسمه الشيخ عويس (القرني. المترجم). ولم يوافق مريدوه النوبيون على السماح بإزالة قبر ذلك "الفكي" إلا بعد معارضة وتأبٍ. غير أن مريديه أصيبوا لاحقاً بالدهشة عندما اكتشفوا أن الرجل ليس مسلماً (إذ كان الصليب قد وجد حول رقبته!)، ولعله كان أحد قساوسة النوبة في العصور الوسطى.
وينبغي أن أذكر في الختام أن الكتاب لا يخلو من بعض الأخطاء الآثارية القليلة. ويجد القارئ بالكتاب بعض الخلط في أرقام الشلالات، فقد أتى (في صفحة 204 مثلاً) على ذكر الشلال الثالث والصحيح أنه الشلال الرابع، وذلك في وصفه المثير للرحلة التاريخية التي قامت بها الباخرة (الثريا) عبر الشلالات إلى الخرطوم. كذلك غاب "نهر أتبرا" من الخريطة العامة التي أوردها المؤلف صفحة xvi . غير أن هذه وغيرها لا تعدو أن تكون هنات يسيرة في كتاب تولي نشره المعهد النرويجي للدراسات الإفريقية، وقام بكتابة مقدمته البروفيسور إيان كينسون (ولعله عمل أيضاً على تحريره)؛ فلهم جميعا التهنئة على هذا العمل العظيم. ومما أسفت له حقاً أن مؤلف هذا الكتاب، وهو رجل إنساني وإداري متمكن، قد توفي وعمره لم يتجاوز الخمسين عاما.
alibadreldin@hotmail.com
لورنس. بي. كيروان L. P. Kirwan
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لاستعراض قصير لكتاب الأستاذ حسن دفع الله المعنون "هجرة النوبيين"، بقلم عالم الآثار والجغرافيا البريطاني لورنس. بي. كيروان (1907 – 1999م) الذي عرف بمساهماته العديدة في مجال دراسة الحضارة والآثار النوبية في مصر والسودان، والآثار في جنوب السعودية وشرق أفريقيا. نُشِرَ الاستعراض عام 1976م في الصفحات 137 – 139 من العدد الأول من المجلد رقم 142 من "المجلة الجغرافية The Geographical Journal".
عمل لورنس كيروان في مجال آثار النوبة بمصر والسودان بين عامي 1929 – 1934م، ثم عمل بالتدريس والبحث بجامعة أدنبرا بإسكتلندا. يمكن الاطلاع على نعي صحيفة الجارديان لكيروان في هذا الرابط: https://www.theguardian.com/news/1999/apr/21/guardianobituaries2
والأستاذ حسن دفع الله (1924 – 1974م) هو من خريجي كلية غردون التذكارية، وعمل إدارياً في "الحكومات المحلية". أُسْنِدَتْ إليه مهمة الإشراف على إعادة توطين الحلفاويين في منطقة "خشم القربة" بعد قيام السد العالي في مصر. وسجل المؤلف تفاصيل تلك العملية في كتاب نُشِرَ عام 1975م باللغة الإنجليزية عنوانه "The Nubian Exodus هجرة النوبيين"، ترجمته للعربية الأستاذة سمية عبد المجيد محمد عام 2002م، وترجمه أيضاً الأستاذ عبد الله حميدة في كتاب صدر عام 2003م.
المترجم
****** ****** ****** ******
عندما تقدمت، قبل نحو خمسة عشر عاماً، حملات الآثار الأولى عبر نهر النيل لإنقاذ آثار النوبة ومواقعها من الغرق نتيجةً لقيام "السد العالي"، احتل السودان مكانةً بارزةً في الصحافة العالمية لأول مرة منذ الحملة النوبية التي قادها كتشنر ضد حكم المهدية. غير أنه، ومع كل تلك الشهرة الإعلامية في الأدبيات التي كُتبت وقُيلت عن تلك الحملة العالمية، إلا أن مصير النوبيين أنفسهم لم يجد نسبياً إلا القليل من الاهتمام. لقد كان من الواجب أيضاً إنقاذهم وإعادة توطينهم؛ بلغ عددهم 100.000 نسمة، نصفهم من النوبة المصرية، ونصفهم الآخر من السودان، عبر "حدود المساحين surveyor’s frontier" غير المفهومة التي قسمت أرضاً متجانسة جغرافياً.
ويدور موضوع هذا الكتاب القيم، الذي ألفه المسؤول الإداري في منطقة وادي حلفا آنذاك، والذي تم تعيينه مفوضاً لإعادة توطين النوبيين السودانيين وللإشراف على تهجيرهم من منطقة تمتد لمائة وخمسين كيلومتراً من وادي النيل جنوب هذه الحدود، حول المشاكل المستعصية التي صاحبت إعادة توطينهم. واعتمد المؤلف في كتابه على التقارير الرسمية ومحاضر الاجتماعات، وعلى مذكراته اليومية الخاصة، وأعتقد – مبلغ علمي – أن هذا الكتاب هو أول عمل جاد من نوعه. ولم تكن فترة الستينيات هي المرة الأولى التي يقع فيها النوبيون (وهم شعب ودود ومسالم، يهتمون في الأساس بحقولهم الصغيرة وقطعان بهائمهم الهزيلة) ضحايا لقيام سد تم تشييده لمصلحة مصر. فقد تم بناء سد في أسوان في بدايات القرن الماضي (تحديداً في الفترة ما بين عامي 1899 و1906م. المترجم)، وتمت تعليته في عام 1912م، وتعليته مرة أخرى في عام 1934م. وغير بناء ذلك السد بالفعل الكثير من النوبة المصرية؛ حيث حول المناظر الطبيعية التي تنتشر فيها قرى مغسولة بالبياض تجمعت في ظلال مزارع صغيرة ولكنها مورقة، إلى أرض قاحلة تكسوها الصخور والرمال.
غير أن النوبيين المصريين كانوا قد شيدوا بيوتهم في مكان عالٍ سفوح التلال، وتمكنوا – بطريقة ما – من التشبث بأرضهم الحبيبة. وفي المقابل. وأحس النوبيون في السودان عندما سمعوا بقرب قيام "السد العالي" بأنه في مقدورهم فعل ذات الشيء. وكانت إحدى المهمات غير السعيدة التي أُسْنِدَتْ إلي مؤلف هذا الكتاب هي تخليصهم من تصديق إمكانية حدوث مثل ذلك الاحتمال. وكان عليه إقناعهم بأنه ليس أمامهم من مناص سوى إخلائهم لمنطقتهم هذه المرة، وهجرهم لأرض كانت ملكهم منذ العهد الفرعوني. ولا أزال أذكر مدى القنوط الذي خيم على السكان النوبيين السودانيين، خاصة العُجُز منهم. ثم اسْتَحالَ قنوطهم إلى غضب عارم عندما ظهر السؤال حول الموقع الذي سيعاد توطينهم فيه (اُنْظُرْ ترجمة مقال أ.د. إسماعيل حسين عبد الله عن هذه المسألة في الرابط: https://tinyurl.com/4hjvdxyf). وتتطلب ذلك الأمر استخدام حسن دفع الله لكل ما عنده من لباقة وتعامل متعاطف. وساعده في ذلك ما قام به الرئيس عبود من تدخل حميد جاء في وقته المناسب تماماً من أجل نزع فتيل الموقف المتوتر (؟! المترجم). بينما لم يجد حسن دفع الله في ذلك الموقف أي عون من موظفي الهاتف (الترنك) في وادي حلفا، الذين دأبوا على نشر كل أنواع الشائعات الجامحة في مختلف مناطق مصر والسودان.
وخلافا لما قامت به الحكومة المصرية، التي قررت بمفردها- ودون أخذ مشورة النوبة المصريين أو غيرهم – أن تنقل المتأثرين بقيام السد العالي إلى منطقة "كوم أمبو" في صعيد مصر، بذل السودانيون ما في وسعهم لاختبار الرأي العام حول الموقع الأصلح لإعادة توطين النوبة السودانيين. غير أن ذلك لم ينجح، إلى حد كبير وذلك لأنه تبين أن اللجان المحلية المختارة لم تكن تمثل السكان حقاً. وبذا كان من واجب المسؤولين الحكوميين أن يتولوا بأنفسهم اختيار الموقع (الأصلح) لإعادة التوطين. وكان اختيارهم مثار خلاف وجدال بين النوبيين. ورغم أن خيارات مواقع إعادة التوطين المقترحة كانت قد شملت - على الورق - خمس مناطق، إلا أن موقعين فقط (وادي الخوىّ في منطقة دنقلا، وخشم القربة على نهر أتبرا) كانا هما الأكثر عمليةً من باقي المناطق المقترحة. وأقر مؤلف الكتاب بأن وادي الخوىّ كان خياراً جاذباً، إلا أنه لم يكن خياراً مفضلا من وجهة النظر النوبية. ويقع ذلك الوادي جنوب الشلال الثالث، في منطقة النوبيين من الناحيتين البيئية والتاريخية؛ وفي منطقة صحراوية تكاد تنعدم فيها الأمطار، ولا تبعد كثيراً عن موقع عاصمة النوبة المسيحية في العصور الوسطى. وكانت تربتها مناسبة تماماً للزراعة النوبية بدورات محاصيلها المختلفة. ومن مزاياها الأخرى أن تلك المنطقة كانت ستسمح للنوبيين بمواصلة زراعة النخيل، التي لطالما وفرت لهم اقتصاد كفاف subsistence economy خالٍ من المتاعب بشكل ملحوظ. غير أنه كانت هناك العديد من العيوب الخطيرة في منطقة وادي الخوىّ في نظر الذين ينظرون إلى المستقبل (ومنهم حكومة السودان)، وليس إلى الماضي؛ وفي نظر الذين يؤمنون بأنه من ناحية قومية، فمن الخير أن يتم جلب النوبيين أكثر إلى الحياة السودانية السائدة. ومن عيوب منطقة وادي الخوىّ الأخرى أنها منطقة بعيدة، والوصول إليها عسير نسبياً. وسيكون إنشاء مسار يربطها بخط سكة حديد حلفا - الخرطوم عبر الصحراء مكلفاً للغاية. وستكون هناك حاجة ماسة لأعمال ضخمة من أجل تحسين 400 كيلومتر من "الطرق" الضرورية لتصدير التمور إلى مصر. وكان اختيار وادي الخوىّ منطقةً لإعادة توطين النوبيين سيطيل، بلا شك، من أمد عزلتهم.
أما الخيار الآخر، في خشم القربة، فهو خيار مختلف جداً. ويصح القول بأنه خيار يَعِدُ بكل المزايا الاقتصادية التي تفتقر إليها منطقة وادي الخوىّ؛ فخشم القربة بها مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة؛ وتتصل بشبكة خطوط حديدية مركزية؛ وبها سد للري بالقنوات، ولإنتاج كهرباء لم تعرفها من قبل القرى النوبية. ولكن من ناحية أخرى، يمثل ترحيل النوبيين إلى خشم القربة اضطرابا بيئيا واختلالا اجتماعيا شديد العمق. فهو يعني انتقالهم من بيئة صحراوية (شحيحة المطر) إلى منطقة تهطل فيها الكثير الأمطار، مما يضطرهم لهجر مبانيهم التقليدية المبنية بالطوب الطيني المجفف بحرارة الشمس. وسيَرْحَلْون لمنطقة تقع على نهر أتبرا، الذي يختلف عن نهر النيل، إذ أنه يجري خلال ممر ضيق، ويجف في نصف شهور السنة. ولا توجد بخشم القربة أشجار نخيل. وفيما عدا القمح، لا يمكن للنوبيين أن يزرعوا بها نفس المحاصيل التي كانوا يزرعونها في دورات بمنطقتهم الأصلية، مثل العدس والحمص والترمس والفول والبازلاء. وفوق كل ذلك، سوف يحدث تهجير النوبيون إلى خشم القربة تغييرات أساسية أخرى. فمثلما سيفقد النوبيون دخلهم السهل من التمور، فإنهم سيخسرون كذلك المال الذي يكسبه معظم رجالهم من العمل خارج منطقتهم، غالباً في مجال الخدمة المنزلية في القاهرة أو الخرطوم. وظل عملهم هذا يمثل مصدر دخل لأجيال من النوبيين. وكانت النساء والشيوخ والأطفال في النوبة يقومون على رعاية حقولهم الصغيرة وبهائمهم القليلة. غير أنه بعد إعادة توطينهم في خشم القربة، سيجب على شبابهم البقاء في منطقتهم الجديدة للعمل، ليس بحسبانهم مزارعين يعملون لحسابهم الخاص، بل كمزارعين مستأجرين tenant farmers يعملون في نظام معقد من التعاونيات في الحواشات الكبيرة التي خصصت لهم، حيث يجب عليهم أيضاً التعامل مع آلات الفلاحة الحديثة.
وتم في نهاية المطاف اختيار خشم القربة كمكان لإعادة توطين النوبيين. وربما لم يكن اختيار ذلك الموقع عند شبابهم اختياراً سيئا على كل حال، فالمكان موعود بأنه سيكون حضرياً، أقل عزلةً وله مستقبل أكثر ازدهارا. غير أن كبار السن كانوا – ولا يزالون بلا ريب – في حالة حيرة وفزع من احتمال تَضاؤُل استخدام لغتهم القديمة (التي تُنْطَقُ ولكن لم تكتب منذ العصور الوسطى)، مع شيوع استخدام اللغة العربية عند النوبيين، وكانوا يخشون أيضاً من أن تختفي كذلك – بعد ضياع لغتهم الأصلية - أخلاقياتهم وقيمهم وعاداتهم القديمة.
لقد قدم مؤلف الكتاب رصداً متوازنا يثير الاعجاب لكل أحداث عملية تهجير النوبيين وما سبقها وما تلاها. وتطرق لما اِعْتَراها من خلافات ونقاشات واحتجاجات قبل الوصول أخيراً للقرار النهائي، الذي كان بمثابة معضلة جغرافية حقيقية. وتناول الكاتب أيضاً عملية التهجير نفسها، وسجل بعض التعليقات الحكيمة والقيمة حول خصائص وعادات النوبيين. وقدم المؤلف أيضاً صورة تنبض بالحياة لأيام حلفا الأخيرة، والارتفاع البطيء الذي لا يرحم لمياه النيل، شعرت به المنطقة لأول مرة في سبتمبر 1964م من خلال التَقَوُّض التدريجي للمباني وانهيارها بما في ذلك المنازل ذات الشرفات الشبكية التي يعود تاريخها إلى العصر العثماني. وفي حديقة حسن دفع الله الخاصة، انتعشت الورود التي زرعتها زوجة أحد اسلافه البريطانيين لفترة وجيزة مع ارتفاع منسوب المياه. وعندما انهارت المنازل، انطلقت الجرذان حاملة صغارها في أفواهها، متجهةً صوب الأراضي المرتفعة، بينما واصل البعوض في التكاثر لفترة أطول. وحتى أواخر عام 1966م، كان من الممكن رؤية مئذنة مسجد الحسين الجميلة في حلفا دغيم، الذي غمر بالماء الآن، وهي ترتفع فوق النيل.
شمل الكتاب أيضاً عرضاً مختصراً لـ "نبش / استخراج التاريخ"، ليس فقط عن طريق بعثات الآثار، بل بقلم المؤلف نفسه، وهو من كانت قد أسندت إليه مهمة نقل رفات بطلين من أبطال المهدية من وادي حلفا إلى منطقة أكثر أمانا (يمكن النظر في مقال لحسن دفع الله تُرْجِمَ بعنوان: "السجناء السياسيون في وادي حلفا" تجده هنا https://tinyurl.com/yckpd7fe). عجبت لما رواه مؤلف الكتاب عما اكتشفته بعثة آثار نرويجية من مقبرة أثرية قديمة كانت فيما يبدو تقع تحت مقبرة "فكي" مبجل اسمه الشيخ عويس (القرني. المترجم). ولم يوافق مريدوه النوبيون على السماح بإزالة قبر ذلك "الفكي" إلا بعد معارضة وتأبٍ. غير أن مريديه أصيبوا لاحقاً بالدهشة عندما اكتشفوا أن الرجل ليس مسلماً (إذ كان الصليب قد وجد حول رقبته!)، ولعله كان أحد قساوسة النوبة في العصور الوسطى.
وينبغي أن أذكر في الختام أن الكتاب لا يخلو من بعض الأخطاء الآثارية القليلة. ويجد القارئ بالكتاب بعض الخلط في أرقام الشلالات، فقد أتى (في صفحة 204 مثلاً) على ذكر الشلال الثالث والصحيح أنه الشلال الرابع، وذلك في وصفه المثير للرحلة التاريخية التي قامت بها الباخرة (الثريا) عبر الشلالات إلى الخرطوم. كذلك غاب "نهر أتبرا" من الخريطة العامة التي أوردها المؤلف صفحة xvi . غير أن هذه وغيرها لا تعدو أن تكون هنات يسيرة في كتاب تولي نشره المعهد النرويجي للدراسات الإفريقية، وقام بكتابة مقدمته البروفيسور إيان كينسون (ولعله عمل أيضاً على تحريره)؛ فلهم جميعا التهنئة على هذا العمل العظيم. ومما أسفت له حقاً أن مؤلف هذا الكتاب، وهو رجل إنساني وإداري متمكن، قد توفي وعمره لم يتجاوز الخمسين عاما.
alibadreldin@hotmail.com