الأسباب الحقيقية لغياب الشرطة
حسن دفع الله عبد القادر
12 July, 2023
12 July, 2023
المتأمل لحال الشرطة بعد وقوع الحرب لا بد أن يُصاب بالدهشة والذهول لما آلت إليه أوضاعها العامة ، منذ إندلاع الحرب ومقر وزارة الداخلية ورئاسة الشرطة يقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع ، أقسام ونقاط الشرطة بولاية الخرطوم مغلقة بالكامل وكذلك الحال بالنسبة للمنشآت الخدمية الأخرى من مرور وترخيص وجوازات وغيرها ، ولا وجود لشرطي واحد في شوارع العاصمة وأحيائها وضواحيها .
من المعلوم أنه في حالة النزاعات العسكرية والحروب على مستوى العالم تلجأ أجهزة الشرطة لتكثيف وجودها في مناطق النزاعات لحفظ الأمن وللإشراف على إسعاف الجرحى والمصابين وتقديم الخدمات الإغاثية للمتأثرين بالعمليات القتالية وغير ذلك من الأعمال والمهام المصاحبة لحالات الطوارئ ، ولكن الناظر الآن إلى وضع الشرطة بولاية الخرطوم يجد أنها قد سجلت ظاهرة غير مسبوقة حيث إختفت قوات الشرطة وغابت بصورة فجائية عن أنظار المجتمع الذي ينتظر خدماتها التى لا غنى عنها في مثل هذه الظروف .
الحديث عن غياب الشرطة عن تأدية مهامها وواجباتها المنصوص عليها في الدستور والقانون ، والنظر إليها كمشكلة تستوجب الحل يتطلب الذهاب إلى جذور المشكلة وليس النظر إليها كظاهرة مصاحبة للحرب التي إندلعت بين الجيش وإحدى المليشيات التي صنعتها الدولة ورعتها وشرعنت وجودها خلال حقبة الإنقاذ المشئومة .
قصور الشرطة كمشكلة هي ليست وليدة اليوم وإنما تعود إلى بداية نظام الإنقاذ والذي قام بأدلجة عقيدة الشرطة وتدجينها وتحويلها إلى موسسة حزبية تأتمر بأمر قادة التنظيم الإسلاموي .
منذ إستيلاء نظام الإنقاذ على السلطة قبل أكثر من ثلاثة عقود لم تعد معايير الكفاءة هي التي تحكم أداء جهاز الشرطة وإنما ظل أمرها مرهونا بهوى ومزاج قادة النظام وأهدافهم المتمثلة تحديدا فيما يسمى بأسلمة مؤسسات الدولة ومن بينها جهاز الشرطة ، ومنذ ذلك التاريخ لم نشهد أداءً شرطيا إحترافيا ولا قادة حقيقيين للشرطة وإنما كانوا مجرد أراجوزات تحركهم أيادي خفية تتبع للتنظيم الحاكم .
ولا يمكن النظر إلى مشكلة قيادة الشرطة وتماهيها مع النظام بأنها ظاهرة مصاحبة للأنظمة الشمولية لأن حقبة الحكم المايوي وبرغم أنها حقبة ديكتاتورية أيضا فقد شهدت قيادات شرطية رفيعة المستوى ولم يتأثر أدائها كثيرا بتوجه النظام الحاكم وأهدافه السياسية .
وإذا ما تجاوزنا أداء الشرطة الهزيل خلال سنوات حكم الإنقاذ وصولا إلى إسقاط النظام وحلول عهد جديد بعد ثورة ديسمبر فقد كان أمر الشرطة أسوأ وأضل سبيلا ، فبرغم أن الوثيقة الدستورية قد نصت على قومية الشرطة ومدنيتها كجهاز نظامي إلا أن جهاز الشرطة وبكل مشكلاته وتشوهاته وضعف أدائه تم إحالته للجنة الأمنية لنظام الإنقاذ كعملية (تسليم وتسلم) ودون أن تطال القوات أي إجراءات فعالة لإعادة هيكلتها وإصلاحها كما ورد بنصوص الوثيقة الدستورية .
بعد إندلاع ثورة ديسمبر وعوضاً عن إعادة هيكلة قوات الشرطة وإصلاحها فقد إنحدرت الشرطة إلى أسوأ وضع تشهده خلال تاريخها الماضي والحاضر ويمكن إيجاز ذلك الوضع في النقاط التالية :
# فقدت الشرطة إستقلاليتها وحيادها بالكامل وباتت أحد أذرع نظام اللجنة الأمنية بل وتابع ذليل لأعضاء مجلس السيادة وبلغ من هوان الشرطة أن أمرها سُلم بالكامل لأحد اعضاء مجلس السيادة ، يأمر فيطاع أمره حرفيا في أمور ومسائل حيوية متعلقة بأمن المجتمع واستقراره وطمأنينته ومن نافلة القول أن المذكور لم يكن يهمه من أمر المجتمع سوى فرض هيمنة اللجنة على مجريات الأمور بالبلاد .
# عسكرة قوات الشرطة وإستخدامها كأداة لتأمين هيمنة العسكر وترجيح كفتهم على الحكومة المدنية ، وإستخدام القوات كأداة لقمع جماهير الثورة واجهاض الحراك الشعبي المطالب بتحقيق أهداف الثورة وما صاحب ذلك من قتل أعداد كبيرة من المتظاهرين .
# فقدان الشرطة لثقة المجتمع بأكمله بعد تحولها لأداة طيِّعة في يد العسكر ، علما بأن ثقة المجتمع في الشرطة بدأت في التلاشي منذ بدايات نظام الإنقاذ إلا أن هذه الثقة زالت بصورة نهائية بعد إنخراط الشرطة فى تنفيذ الأجندة السياسية والأمنية لنظام اللجنة الأمنية .
# تنامي ظاهرة الفساد المالي والإداري بين قوات الشرطة وللدرجة التي أصبح فيها قضاء أمر من الأمور أو خدمة من الخدمات بأقسام الشرطة المختلفة أشبه بالمستحيلات وذلك مالم يذعن طالب الخدمة لمطالب وابتزازات وتهديد القائمين على أمر تلك الخدمات .
كل هذه العوامل المشار إليها وغيرها من أمور جوهرية أو ثانوية قضت تماما على الشرطة كمؤسسة وطنية وباتت قوات الشرطة مصنفة بموجبها كعدو للمواطنين وليس خادما لهم ، ثم جاءت بعدها أشنع أخطاء العسكر بالزج بالشرطة في أتون المعارك الحربية ضد قوات الدعم السريع وبحيث أضحى كل شرطي في معسكر أو قسم من أقسام شرطة الولاية بمثابة هدف مشروع لتلك القوات .
وبناءً على ما سبق ذكره فإن دراسة موضوع غياب الشرطة عن تأدية مهامها وواجباتها أثناء دوران عجلة الحرب يبقى أمر لا طائل من ورائه ما لم يتم بحث الأمر من جذوره العميقة مع الوضع في الإعتبار أن الوصول إلى حلول عملية الآن هو أمر في غاية الصعوبة ، ولكي يتوصل القائمين على أمر الشرطة إلى حلول فعالة لهذه الأوضاع المؤسفة فهم في حاجة لتوقف الحرب أولاً ، ومن بعدها ولأجل أن تعود الأمور إلى نصابها فلا بد من إطلاق ثورة إصلاح شاملة تستند إلى أهداف ثورة ديسمبر للإصلاح الأمني والعسكري وبما يضمن عودة الشرطة إلى سابق عهدها .
والله ولي التوفيق
melsayigh@gmail.com
من المعلوم أنه في حالة النزاعات العسكرية والحروب على مستوى العالم تلجأ أجهزة الشرطة لتكثيف وجودها في مناطق النزاعات لحفظ الأمن وللإشراف على إسعاف الجرحى والمصابين وتقديم الخدمات الإغاثية للمتأثرين بالعمليات القتالية وغير ذلك من الأعمال والمهام المصاحبة لحالات الطوارئ ، ولكن الناظر الآن إلى وضع الشرطة بولاية الخرطوم يجد أنها قد سجلت ظاهرة غير مسبوقة حيث إختفت قوات الشرطة وغابت بصورة فجائية عن أنظار المجتمع الذي ينتظر خدماتها التى لا غنى عنها في مثل هذه الظروف .
الحديث عن غياب الشرطة عن تأدية مهامها وواجباتها المنصوص عليها في الدستور والقانون ، والنظر إليها كمشكلة تستوجب الحل يتطلب الذهاب إلى جذور المشكلة وليس النظر إليها كظاهرة مصاحبة للحرب التي إندلعت بين الجيش وإحدى المليشيات التي صنعتها الدولة ورعتها وشرعنت وجودها خلال حقبة الإنقاذ المشئومة .
قصور الشرطة كمشكلة هي ليست وليدة اليوم وإنما تعود إلى بداية نظام الإنقاذ والذي قام بأدلجة عقيدة الشرطة وتدجينها وتحويلها إلى موسسة حزبية تأتمر بأمر قادة التنظيم الإسلاموي .
منذ إستيلاء نظام الإنقاذ على السلطة قبل أكثر من ثلاثة عقود لم تعد معايير الكفاءة هي التي تحكم أداء جهاز الشرطة وإنما ظل أمرها مرهونا بهوى ومزاج قادة النظام وأهدافهم المتمثلة تحديدا فيما يسمى بأسلمة مؤسسات الدولة ومن بينها جهاز الشرطة ، ومنذ ذلك التاريخ لم نشهد أداءً شرطيا إحترافيا ولا قادة حقيقيين للشرطة وإنما كانوا مجرد أراجوزات تحركهم أيادي خفية تتبع للتنظيم الحاكم .
ولا يمكن النظر إلى مشكلة قيادة الشرطة وتماهيها مع النظام بأنها ظاهرة مصاحبة للأنظمة الشمولية لأن حقبة الحكم المايوي وبرغم أنها حقبة ديكتاتورية أيضا فقد شهدت قيادات شرطية رفيعة المستوى ولم يتأثر أدائها كثيرا بتوجه النظام الحاكم وأهدافه السياسية .
وإذا ما تجاوزنا أداء الشرطة الهزيل خلال سنوات حكم الإنقاذ وصولا إلى إسقاط النظام وحلول عهد جديد بعد ثورة ديسمبر فقد كان أمر الشرطة أسوأ وأضل سبيلا ، فبرغم أن الوثيقة الدستورية قد نصت على قومية الشرطة ومدنيتها كجهاز نظامي إلا أن جهاز الشرطة وبكل مشكلاته وتشوهاته وضعف أدائه تم إحالته للجنة الأمنية لنظام الإنقاذ كعملية (تسليم وتسلم) ودون أن تطال القوات أي إجراءات فعالة لإعادة هيكلتها وإصلاحها كما ورد بنصوص الوثيقة الدستورية .
بعد إندلاع ثورة ديسمبر وعوضاً عن إعادة هيكلة قوات الشرطة وإصلاحها فقد إنحدرت الشرطة إلى أسوأ وضع تشهده خلال تاريخها الماضي والحاضر ويمكن إيجاز ذلك الوضع في النقاط التالية :
# فقدت الشرطة إستقلاليتها وحيادها بالكامل وباتت أحد أذرع نظام اللجنة الأمنية بل وتابع ذليل لأعضاء مجلس السيادة وبلغ من هوان الشرطة أن أمرها سُلم بالكامل لأحد اعضاء مجلس السيادة ، يأمر فيطاع أمره حرفيا في أمور ومسائل حيوية متعلقة بأمن المجتمع واستقراره وطمأنينته ومن نافلة القول أن المذكور لم يكن يهمه من أمر المجتمع سوى فرض هيمنة اللجنة على مجريات الأمور بالبلاد .
# عسكرة قوات الشرطة وإستخدامها كأداة لتأمين هيمنة العسكر وترجيح كفتهم على الحكومة المدنية ، وإستخدام القوات كأداة لقمع جماهير الثورة واجهاض الحراك الشعبي المطالب بتحقيق أهداف الثورة وما صاحب ذلك من قتل أعداد كبيرة من المتظاهرين .
# فقدان الشرطة لثقة المجتمع بأكمله بعد تحولها لأداة طيِّعة في يد العسكر ، علما بأن ثقة المجتمع في الشرطة بدأت في التلاشي منذ بدايات نظام الإنقاذ إلا أن هذه الثقة زالت بصورة نهائية بعد إنخراط الشرطة فى تنفيذ الأجندة السياسية والأمنية لنظام اللجنة الأمنية .
# تنامي ظاهرة الفساد المالي والإداري بين قوات الشرطة وللدرجة التي أصبح فيها قضاء أمر من الأمور أو خدمة من الخدمات بأقسام الشرطة المختلفة أشبه بالمستحيلات وذلك مالم يذعن طالب الخدمة لمطالب وابتزازات وتهديد القائمين على أمر تلك الخدمات .
كل هذه العوامل المشار إليها وغيرها من أمور جوهرية أو ثانوية قضت تماما على الشرطة كمؤسسة وطنية وباتت قوات الشرطة مصنفة بموجبها كعدو للمواطنين وليس خادما لهم ، ثم جاءت بعدها أشنع أخطاء العسكر بالزج بالشرطة في أتون المعارك الحربية ضد قوات الدعم السريع وبحيث أضحى كل شرطي في معسكر أو قسم من أقسام شرطة الولاية بمثابة هدف مشروع لتلك القوات .
وبناءً على ما سبق ذكره فإن دراسة موضوع غياب الشرطة عن تأدية مهامها وواجباتها أثناء دوران عجلة الحرب يبقى أمر لا طائل من ورائه ما لم يتم بحث الأمر من جذوره العميقة مع الوضع في الإعتبار أن الوصول إلى حلول عملية الآن هو أمر في غاية الصعوبة ، ولكي يتوصل القائمين على أمر الشرطة إلى حلول فعالة لهذه الأوضاع المؤسفة فهم في حاجة لتوقف الحرب أولاً ، ومن بعدها ولأجل أن تعود الأمور إلى نصابها فلا بد من إطلاق ثورة إصلاح شاملة تستند إلى أهداف ثورة ديسمبر للإصلاح الأمني والعسكري وبما يضمن عودة الشرطة إلى سابق عهدها .
والله ولي التوفيق
melsayigh@gmail.com