تعقيباً على الأستاذ محمد لطيف، التدخل الأجنبي مرة أخرى
جمال عبد الرحيم صالح
29 March, 2024
29 March, 2024
جمال عبد الرحيم صالح
تناول صديقنا العزيز الصحفي اللامع الأستاذ محمد لطيف في تحليله اليومي الشهير بتاريخ 26/3/2023، تناول بالنقد دعوات كاتب هذه السطور للتدخل الدولي كحل للأزمة السودانية الراهنة. على الرغم من ارتياحي الشخصي أن تكون مسألة الدعوة للتدخل الدولي حاضرة في المسرح العام، غض النظر عن موقف الآخرين منها، إلا أن مداخلة الأستاذ محمد لطيف ابتعدت لحد كبير عن تناول جوهر وتفاصيل ما ناديت أنا به.
يبدو أن حماس الأستاذ محمد لطيف لرأي البروفيسور فيصل عبد الرحمن علي طه عن انتهاء عصر الوصاية والانتداب على مستوى القانون الدولي، وهو رأي صحيح في الواقع، أنساه أنني أنادي بتدخل دولي تحت البند السابع في ميثاق الأمم المتحدة، وهو بند قائم ومؤثر ومستخدم، بل أنه أستخدم حتى في بلادنا، حيث شكلت بعثة الأمم المتحدة لدارفور (اليوناميد) تحت مظلته. صحيح أنني ناديت في إحدى مقالاتي بالوصاية الدولية، وليس وصاية الأمم المتحدة التي لم تعد قائمة، باعتبار أن التدخل الدولي، غض النظر عن التسمية، إنما هو نوع من الوصاية في جوهره، يستند في كل الأحوال على فرضية أن الوضع في بلادنا يحتاج لمن يستعدل مساره، من خارج حدودها. في الواقع فإن أمر التدخل الدولي في شؤوننا ليس بالجديد، فقد أصبح أحد معالم فشلنا، وها نحن نرى أمام أعيننا لجوء الفرقاء بالبلاد للمنابر الخارجية المتناسلة بدءاً من جدة وليس انتهاءً بالمنامة والجزائر، والمبعوثون الدوليين تطير وتحط طائراتهم بدون انقطاع، فماذا تبقى غير استخدام القوة العسكرية للجم حَمَلَة السلاح من كل الأطراف، وفقاً لمنظور كاتب هذه السطور؟
مما لا يختلف حوله إلا أحمق أو صاحب غرض، أن ما فعلته الإنقاذ من تدمير ممنهج لجهاز الخدمة العامة بشقيها المدني والعسكري، وتمزيق متعمد للأنسجة المجتمعية، وإفساد مقصود للحياة السياسية، وتعطيل واضح لمسار الحداثة والتطور، وتخريب ذميم لمنظومة العدالة، غير مسبوق ولا يمكن مقارنته لا مع ما ارتكبته الحكومات العسكرية الأخرى ولا مع ما تقاعست عنه الحكومات المدنية. بيد أنه ينبغي الاعتراف بأن أزمة البلاد، وفشل أجهزة دولتها، بدأت في التجلي والحكومة الوطنية الأولى لم تكمل شهرها الثاني حيث وقفت مأساة عنبر جودة نذيراً وشاهداً أول على اختلال موازين العدالة، وغياب المهنية عن القوات النظامية، وضعف حساسية النخب السياسية في التعامل المسئول مع قضايا البلاد الحرجة؛ كما تجدر الإشارة إلى أن الخلل في ثقافة القوات المسلحة وعقيدتها برز للعيان من قبل أن تكمل الدولة الوليدة عامها الثاني، متمثلاً ذلك في محاولة انقلاب الصاغ عبد الرحمن كبيدة في يونيو 1957. إن الدولة السودانية كما وصفها الراحل العظيم جون قرنق بأنها غير قابلة للإصلاح (too deformed to be reformed)، ولا أزيد!
لقد صدرت عن كاتب هذه السطور 6 مقالات مطولة سرد فيها، وباستفاضة، رأيه وحيثياته الداعمة لفكرة حتمية التدخل الدولي (يجد القارئ الكريم قائمة بها عند نهاية هذا المقال) لذا رأينا أن لا نزحم القارئ بإعادة ترديد ما جاء بها من دلائل وحيثيات تؤكد مشروعيتها وتبيِّن شرعيتها؛ بيد أننا نرى أن هناك ثلاثة أسئلة أساسية يتوجب على كل معارض للتدخل السياسي والعسكري الدولي الإجابة عليها، وهي على التوالي: هل من المحتمل أن تسمح القوى المدججة بالسلاح بقيام حكم مدني وإصلاح الدولة؟ هل الحل المرتكز على التدخل الدولي له من النجاعة ما يسمح بمواصلة الحكم المدني؟ ما الذي يتعين على القوى المدنية والديمقراطية فعله حتى يستجيب المجتمع الدولي للتدخل، و ينجح تدخله في تحقيق أهدافه؟
هل من المحتمل أن تسمح القوى المدججة بالسلاح بقيام حكم مدني وإصلاح الدولة؟
هنالك أربعة قوى مسلحة فاعلة في الميدان الآن ولديها عداء عميق ومتأصل للحكم المدني، كما أنها ارتكبت جرائم واسعة النطاق ليس هناك أدنى احتمال في أن تحني رأسها وتقبل بالحكم المدني الديمقراطي حتى ولو مؤقتاً، وهي قيادات الجيش الرسمي، والدعم السريع، وإسلاميي المؤتمر الوطني، و حركات مناوي وجبريل ومن لف لفهم. والمعضلة ليست في احتكارها للسلاح فحسب، وإنما تتجلى في انخفاض سقوفها الأخلاقية والمهنية. لا أظن أننا في معرض الاحتياج لتقديم أدلة إثبات على افتقادها للصدقية والوثوقية، وتمرُّسها في الكذب والغوغائية واللف والدوران واللعب على العقول، فالأمثلة على قفا من يشيل، وقد قدمنا نماذج كثيفة منها في مقالاتنا السابقة الذكر. قد يحتج علينا محتج بأن تصريحات الفريق كباشي الأخيرة بالقضارف ربما تشي بغير ما نقول، بيد أن أقواله وأفعاله هو نفسه، ومنذ ظهوره في حياتنا عقب الإطاحة بالبشير، لن تفيد بغير أن تكون تصريحاته بالقضارف نوع من تبادل الأدوار بين قادة لا أمان لهم، أو تعبيراً عن الضيق من تمدد إسلامويي المؤتمر الوطني على حساب القيادة الرسمية.
إنه وفي غياب كتلة مؤثرة وسط الجماعات الأربعة المسلحة تساند قوى الحرية والتغيير، أو وجود جناح عسكري قوي ومؤثر لهذه القوى، ليس هنالك من مجال لها للإمساك بدفة الحكم وإصلاح المؤسسة الأمنية بكاملها. هذه هي الحقيقة الساطعة، وإن كان ثمة مشكك في حكمنا هذا فليأتينا بما يزيل الغشاوة عن أعيننا الكليلة! أشير هنا إلى حقيقة هامة يجب أن نضعها نصب أعيننا، أن استعادة زخم الشارع صعب للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، بعد أن أصبح السلاح سيداً للموقف، وبعد أن أُنهكت قوى قطاعات واسعة من ذلك الشارع بالتجويع والتدمير والبعثرة في المنافي.
هل الحل المرتكز على التدخل الدولي له من النجاعة ما يسمح بمواصلة الحكم المدني؟
إن تجارب التدخل الدولي افتقدت للكفاءة في معظم الحالات، لأسباب يمكن التعرض لها لاحقاً، وهو ما يشكل أحد المآخذ المسببة لعدم الارتياح لذلك الخيار من قبل معظم القوى المدنية الديمقراطية. كما أن لدى الكثير من تلك القوى تحفظات مشروعة مثل القول بأن الدول المعنية بالتدخل لها أولويات ومصالح أهم لديها من أن تشغل نفسها ببلد تعيس الحظ مثلنا؛ وقد رددنا على ذلك في مقالاتنا السابقة المبذولة. لكن، وأنا أطرح هذا التدخل كعلاج لأزمة بلادنا المستفحلة أضع في تقديراتي الحقائق التالية:
* الوضع في السودان مهدد حقيقي للأمن والسلم الإقليمي والعالمي، وليس لدول الجوار أو الغرب مصلحة في ذلك.
* التدخل الدولي العسكري أثبت نجاعته في ضبط موازين القوى بين المتخاصمين في حالتين ظاهرتين على الأقل، وهنا أشير لما أحدثه ذلك التدخل من لجم لجيش الصرب في الحالة البوسنية ولجيش القذافي في الحالة الليبية، وكلاهما كان قاب قوسين أو أدنى من حسم نتيجة الحرب الأهلية لصالحه، وفي كلا الحالين كان القرار بالتدخل صادراً عن مجلس الأمن الدولي استناداً على البند السابع.
* للسودان تجربته الماثلة في دارفور، حيث تدخلت القوة الدولية المختلطة استناداً على ذات البند. صحيح أن نظام البشير، بتاريخه المتطاول في (اللولوة) وإرشاء كافة الأطراف، المحلية والإفريقية منها، قد حدَّ من فعالية ذلك التدخل، بيد أن الواقع يؤكد أن ذلك التدخل لعب دوراً كبير في إيقاف نزيف الدم وتخفيض معاناة أهل دارفور.
* وجدت ثورة ديسمبر المجيدة تعاطفاً واسعاً على المستوى العالمي، كما وجدت حكومتها الأولى بالذات قبولاً واحتراماً عالياً سواء من الحكومات التي يعنيها أمر هذا التدخل الدولي المرجو، أو منظمات المجتمع المدني الفاعلة بها. في رأينا أن هذا يصنع فرقاً جوهرياً يرجح كفة النجاح في ذلك المسعى، باعتبار وجود كتلة مدنية ديمقراطية بالبلاد، غض النظر عن المسميات، لها المقدرة على إدارة دفة الدولة في حالة لجم حملة السلاح.
* إن تخوف البعض من أن تُقدِّم الدول المعنية بالتدخل الدولي مصالحها على مصالح شعبنا في حال تدخلها، أمر مقدور عليه. فالشارع، بروح الثورة السارية فيه سريان الدم في الشرايين، له المقدرة والإرادة على تقويم أي انحراف لقوات تلك الدول عن مهامها. الإيجابي في الأمر، أن لجم القوى العسكرية سيفتح المجال واسعاً أمام الشعب ليستكمل مهام ثورته، وللشارع أن يستعيد زخمه.
* ولنكن واضحين، يجب أن لا تتوقف مهمة التدخل الأجنبي حد إيقاف الحرب والفصل بين القوات، بل يجب أن تتعداها لتكون ضامناً لفترة انتقالية تؤسس لسودان جديد بجيش وطني جديد.
ما الذي يتعين على القوى المدنية والديمقراطية فعله حتى يستجيب المجتمع الدولي للتدخل، و ينجح تدخله في تحقيق أهدافه؟
* على تقدم، بوصفها أوسع وعاء للقوى المدنية والديمقراطية حالياً، رغم تحفظاتي وتحفظات غيري على بعض شئونها والأخطاء التكوينية التي لازمتها، عليها أن تلتقط الفكرة وتضعها من ضمن الخيارات والبدائل المنطقية.
* عليها أن تصلح من حالها، وتوسع مواعينها، وتُرجِّح تمثيل الشباب فيها، لتصبح ناطقاً حقيقياً باسم الثورة.
* عليها أيضاً فتح المنابر لحوار مسئول وشفاف داخلها حول التوجه المقترح، كما عليها في ذات الوقت، وبما لها من صلات معتبرة، ممارسة الضغط اللازم على الحكومات وجماعات الضغط في الدول المعنية لوضع قضية شعب السودان في صدارة أجندتها وجداول أعمالها.
* الدعوة للتدخل الدولي ليست مجرد بطاقة دعوة (one time event) لحضور مناسبة اجتماعية أو سياسية، بقدر ما هي عملية (process) طويلة ومضنية ومعقدة، تفترض صياغة حيثيات واضحة وكافية وتواصل مستمر مع المعنيين بها.
* إن تسويق فكرة الدعوة للتدخل الدولي والتلويح بها تمثل في ذاتها كرتاً قوياً بيد القوى المدنية الديمقراطية.
أختم مقالي بأن أشير إلى أن التأخير في حل أزمة البلاد ينذر بشر مستطير وقادم في القريب العاجل. وإن كنا نتحدث حتى الآن عن أربعة جيوش، فإن مسار الأحداث سيجعلنا عما قريب تحت رحمة أمراء حرب، سواء من جانب المتطرفين الإسلامويين، أو من جانب القادة الميدانيين للدعم السريع، الذي توسع أفقياً بشكل كثيف، بدون أن يستند هذا التوسع على عقيدة عسكرية راسخة، أو على ولاء لفكرة مركزية ملهمة، مما جعله يحمل بذرة تشققه وانقسامه في داخله.
فيما يلي 6 مقالات أصدرناها من قبل تحتوي على رصد مكثف للحيثيات التي تدعم وجهة نظرنا في سبيل الدعوة للتدخل الأممي (يمكن قوقلتها بالطبع).
1- رسالة في بريد "تقدم": اليوم أنسب من غدٍ!
2- رسالة في بريد "تقدم": دعوة للتفكير خارج الصندوق
3- على "تقدم" أن تطالب المجتمع الدولي بإنقاذ السودان اليوم وليس غداً
4- نعم للوصاية الدولية، وبدون علامة تعجب، يا أستاذ عثمان ميرغني
5- نعم للتدخل الدولي ووصاية الأمم المتحدة كخيار لا بد منه (مقال من جزأين)
6- مستقبل السودان بين خياري الحوار الوطني والتدويل (مقال من جزأين)
gamal.a.salih@gmail.com
تناول صديقنا العزيز الصحفي اللامع الأستاذ محمد لطيف في تحليله اليومي الشهير بتاريخ 26/3/2023، تناول بالنقد دعوات كاتب هذه السطور للتدخل الدولي كحل للأزمة السودانية الراهنة. على الرغم من ارتياحي الشخصي أن تكون مسألة الدعوة للتدخل الدولي حاضرة في المسرح العام، غض النظر عن موقف الآخرين منها، إلا أن مداخلة الأستاذ محمد لطيف ابتعدت لحد كبير عن تناول جوهر وتفاصيل ما ناديت أنا به.
يبدو أن حماس الأستاذ محمد لطيف لرأي البروفيسور فيصل عبد الرحمن علي طه عن انتهاء عصر الوصاية والانتداب على مستوى القانون الدولي، وهو رأي صحيح في الواقع، أنساه أنني أنادي بتدخل دولي تحت البند السابع في ميثاق الأمم المتحدة، وهو بند قائم ومؤثر ومستخدم، بل أنه أستخدم حتى في بلادنا، حيث شكلت بعثة الأمم المتحدة لدارفور (اليوناميد) تحت مظلته. صحيح أنني ناديت في إحدى مقالاتي بالوصاية الدولية، وليس وصاية الأمم المتحدة التي لم تعد قائمة، باعتبار أن التدخل الدولي، غض النظر عن التسمية، إنما هو نوع من الوصاية في جوهره، يستند في كل الأحوال على فرضية أن الوضع في بلادنا يحتاج لمن يستعدل مساره، من خارج حدودها. في الواقع فإن أمر التدخل الدولي في شؤوننا ليس بالجديد، فقد أصبح أحد معالم فشلنا، وها نحن نرى أمام أعيننا لجوء الفرقاء بالبلاد للمنابر الخارجية المتناسلة بدءاً من جدة وليس انتهاءً بالمنامة والجزائر، والمبعوثون الدوليين تطير وتحط طائراتهم بدون انقطاع، فماذا تبقى غير استخدام القوة العسكرية للجم حَمَلَة السلاح من كل الأطراف، وفقاً لمنظور كاتب هذه السطور؟
مما لا يختلف حوله إلا أحمق أو صاحب غرض، أن ما فعلته الإنقاذ من تدمير ممنهج لجهاز الخدمة العامة بشقيها المدني والعسكري، وتمزيق متعمد للأنسجة المجتمعية، وإفساد مقصود للحياة السياسية، وتعطيل واضح لمسار الحداثة والتطور، وتخريب ذميم لمنظومة العدالة، غير مسبوق ولا يمكن مقارنته لا مع ما ارتكبته الحكومات العسكرية الأخرى ولا مع ما تقاعست عنه الحكومات المدنية. بيد أنه ينبغي الاعتراف بأن أزمة البلاد، وفشل أجهزة دولتها، بدأت في التجلي والحكومة الوطنية الأولى لم تكمل شهرها الثاني حيث وقفت مأساة عنبر جودة نذيراً وشاهداً أول على اختلال موازين العدالة، وغياب المهنية عن القوات النظامية، وضعف حساسية النخب السياسية في التعامل المسئول مع قضايا البلاد الحرجة؛ كما تجدر الإشارة إلى أن الخلل في ثقافة القوات المسلحة وعقيدتها برز للعيان من قبل أن تكمل الدولة الوليدة عامها الثاني، متمثلاً ذلك في محاولة انقلاب الصاغ عبد الرحمن كبيدة في يونيو 1957. إن الدولة السودانية كما وصفها الراحل العظيم جون قرنق بأنها غير قابلة للإصلاح (too deformed to be reformed)، ولا أزيد!
لقد صدرت عن كاتب هذه السطور 6 مقالات مطولة سرد فيها، وباستفاضة، رأيه وحيثياته الداعمة لفكرة حتمية التدخل الدولي (يجد القارئ الكريم قائمة بها عند نهاية هذا المقال) لذا رأينا أن لا نزحم القارئ بإعادة ترديد ما جاء بها من دلائل وحيثيات تؤكد مشروعيتها وتبيِّن شرعيتها؛ بيد أننا نرى أن هناك ثلاثة أسئلة أساسية يتوجب على كل معارض للتدخل السياسي والعسكري الدولي الإجابة عليها، وهي على التوالي: هل من المحتمل أن تسمح القوى المدججة بالسلاح بقيام حكم مدني وإصلاح الدولة؟ هل الحل المرتكز على التدخل الدولي له من النجاعة ما يسمح بمواصلة الحكم المدني؟ ما الذي يتعين على القوى المدنية والديمقراطية فعله حتى يستجيب المجتمع الدولي للتدخل، و ينجح تدخله في تحقيق أهدافه؟
هل من المحتمل أن تسمح القوى المدججة بالسلاح بقيام حكم مدني وإصلاح الدولة؟
هنالك أربعة قوى مسلحة فاعلة في الميدان الآن ولديها عداء عميق ومتأصل للحكم المدني، كما أنها ارتكبت جرائم واسعة النطاق ليس هناك أدنى احتمال في أن تحني رأسها وتقبل بالحكم المدني الديمقراطي حتى ولو مؤقتاً، وهي قيادات الجيش الرسمي، والدعم السريع، وإسلاميي المؤتمر الوطني، و حركات مناوي وجبريل ومن لف لفهم. والمعضلة ليست في احتكارها للسلاح فحسب، وإنما تتجلى في انخفاض سقوفها الأخلاقية والمهنية. لا أظن أننا في معرض الاحتياج لتقديم أدلة إثبات على افتقادها للصدقية والوثوقية، وتمرُّسها في الكذب والغوغائية واللف والدوران واللعب على العقول، فالأمثلة على قفا من يشيل، وقد قدمنا نماذج كثيفة منها في مقالاتنا السابقة الذكر. قد يحتج علينا محتج بأن تصريحات الفريق كباشي الأخيرة بالقضارف ربما تشي بغير ما نقول، بيد أن أقواله وأفعاله هو نفسه، ومنذ ظهوره في حياتنا عقب الإطاحة بالبشير، لن تفيد بغير أن تكون تصريحاته بالقضارف نوع من تبادل الأدوار بين قادة لا أمان لهم، أو تعبيراً عن الضيق من تمدد إسلامويي المؤتمر الوطني على حساب القيادة الرسمية.
إنه وفي غياب كتلة مؤثرة وسط الجماعات الأربعة المسلحة تساند قوى الحرية والتغيير، أو وجود جناح عسكري قوي ومؤثر لهذه القوى، ليس هنالك من مجال لها للإمساك بدفة الحكم وإصلاح المؤسسة الأمنية بكاملها. هذه هي الحقيقة الساطعة، وإن كان ثمة مشكك في حكمنا هذا فليأتينا بما يزيل الغشاوة عن أعيننا الكليلة! أشير هنا إلى حقيقة هامة يجب أن نضعها نصب أعيننا، أن استعادة زخم الشارع صعب للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، بعد أن أصبح السلاح سيداً للموقف، وبعد أن أُنهكت قوى قطاعات واسعة من ذلك الشارع بالتجويع والتدمير والبعثرة في المنافي.
هل الحل المرتكز على التدخل الدولي له من النجاعة ما يسمح بمواصلة الحكم المدني؟
إن تجارب التدخل الدولي افتقدت للكفاءة في معظم الحالات، لأسباب يمكن التعرض لها لاحقاً، وهو ما يشكل أحد المآخذ المسببة لعدم الارتياح لذلك الخيار من قبل معظم القوى المدنية الديمقراطية. كما أن لدى الكثير من تلك القوى تحفظات مشروعة مثل القول بأن الدول المعنية بالتدخل لها أولويات ومصالح أهم لديها من أن تشغل نفسها ببلد تعيس الحظ مثلنا؛ وقد رددنا على ذلك في مقالاتنا السابقة المبذولة. لكن، وأنا أطرح هذا التدخل كعلاج لأزمة بلادنا المستفحلة أضع في تقديراتي الحقائق التالية:
* الوضع في السودان مهدد حقيقي للأمن والسلم الإقليمي والعالمي، وليس لدول الجوار أو الغرب مصلحة في ذلك.
* التدخل الدولي العسكري أثبت نجاعته في ضبط موازين القوى بين المتخاصمين في حالتين ظاهرتين على الأقل، وهنا أشير لما أحدثه ذلك التدخل من لجم لجيش الصرب في الحالة البوسنية ولجيش القذافي في الحالة الليبية، وكلاهما كان قاب قوسين أو أدنى من حسم نتيجة الحرب الأهلية لصالحه، وفي كلا الحالين كان القرار بالتدخل صادراً عن مجلس الأمن الدولي استناداً على البند السابع.
* للسودان تجربته الماثلة في دارفور، حيث تدخلت القوة الدولية المختلطة استناداً على ذات البند. صحيح أن نظام البشير، بتاريخه المتطاول في (اللولوة) وإرشاء كافة الأطراف، المحلية والإفريقية منها، قد حدَّ من فعالية ذلك التدخل، بيد أن الواقع يؤكد أن ذلك التدخل لعب دوراً كبير في إيقاف نزيف الدم وتخفيض معاناة أهل دارفور.
* وجدت ثورة ديسمبر المجيدة تعاطفاً واسعاً على المستوى العالمي، كما وجدت حكومتها الأولى بالذات قبولاً واحتراماً عالياً سواء من الحكومات التي يعنيها أمر هذا التدخل الدولي المرجو، أو منظمات المجتمع المدني الفاعلة بها. في رأينا أن هذا يصنع فرقاً جوهرياً يرجح كفة النجاح في ذلك المسعى، باعتبار وجود كتلة مدنية ديمقراطية بالبلاد، غض النظر عن المسميات، لها المقدرة على إدارة دفة الدولة في حالة لجم حملة السلاح.
* إن تخوف البعض من أن تُقدِّم الدول المعنية بالتدخل الدولي مصالحها على مصالح شعبنا في حال تدخلها، أمر مقدور عليه. فالشارع، بروح الثورة السارية فيه سريان الدم في الشرايين، له المقدرة والإرادة على تقويم أي انحراف لقوات تلك الدول عن مهامها. الإيجابي في الأمر، أن لجم القوى العسكرية سيفتح المجال واسعاً أمام الشعب ليستكمل مهام ثورته، وللشارع أن يستعيد زخمه.
* ولنكن واضحين، يجب أن لا تتوقف مهمة التدخل الأجنبي حد إيقاف الحرب والفصل بين القوات، بل يجب أن تتعداها لتكون ضامناً لفترة انتقالية تؤسس لسودان جديد بجيش وطني جديد.
ما الذي يتعين على القوى المدنية والديمقراطية فعله حتى يستجيب المجتمع الدولي للتدخل، و ينجح تدخله في تحقيق أهدافه؟
* على تقدم، بوصفها أوسع وعاء للقوى المدنية والديمقراطية حالياً، رغم تحفظاتي وتحفظات غيري على بعض شئونها والأخطاء التكوينية التي لازمتها، عليها أن تلتقط الفكرة وتضعها من ضمن الخيارات والبدائل المنطقية.
* عليها أن تصلح من حالها، وتوسع مواعينها، وتُرجِّح تمثيل الشباب فيها، لتصبح ناطقاً حقيقياً باسم الثورة.
* عليها أيضاً فتح المنابر لحوار مسئول وشفاف داخلها حول التوجه المقترح، كما عليها في ذات الوقت، وبما لها من صلات معتبرة، ممارسة الضغط اللازم على الحكومات وجماعات الضغط في الدول المعنية لوضع قضية شعب السودان في صدارة أجندتها وجداول أعمالها.
* الدعوة للتدخل الدولي ليست مجرد بطاقة دعوة (one time event) لحضور مناسبة اجتماعية أو سياسية، بقدر ما هي عملية (process) طويلة ومضنية ومعقدة، تفترض صياغة حيثيات واضحة وكافية وتواصل مستمر مع المعنيين بها.
* إن تسويق فكرة الدعوة للتدخل الدولي والتلويح بها تمثل في ذاتها كرتاً قوياً بيد القوى المدنية الديمقراطية.
أختم مقالي بأن أشير إلى أن التأخير في حل أزمة البلاد ينذر بشر مستطير وقادم في القريب العاجل. وإن كنا نتحدث حتى الآن عن أربعة جيوش، فإن مسار الأحداث سيجعلنا عما قريب تحت رحمة أمراء حرب، سواء من جانب المتطرفين الإسلامويين، أو من جانب القادة الميدانيين للدعم السريع، الذي توسع أفقياً بشكل كثيف، بدون أن يستند هذا التوسع على عقيدة عسكرية راسخة، أو على ولاء لفكرة مركزية ملهمة، مما جعله يحمل بذرة تشققه وانقسامه في داخله.
فيما يلي 6 مقالات أصدرناها من قبل تحتوي على رصد مكثف للحيثيات التي تدعم وجهة نظرنا في سبيل الدعوة للتدخل الأممي (يمكن قوقلتها بالطبع).
1- رسالة في بريد "تقدم": اليوم أنسب من غدٍ!
2- رسالة في بريد "تقدم": دعوة للتفكير خارج الصندوق
3- على "تقدم" أن تطالب المجتمع الدولي بإنقاذ السودان اليوم وليس غداً
4- نعم للوصاية الدولية، وبدون علامة تعجب، يا أستاذ عثمان ميرغني
5- نعم للتدخل الدولي ووصاية الأمم المتحدة كخيار لا بد منه (مقال من جزأين)
6- مستقبل السودان بين خياري الحوار الوطني والتدويل (مقال من جزأين)
gamal.a.salih@gmail.com