النزوح: رمز لمأساة إنسانية مؤلمة

 


 

 

يسعني التحدث هنا عن الانزياح العاطفي والوجداني الذي يحدثه ذاك الحسي والفزيائي. فليست الحرب مجرد صراع عسكري، بل هي تجربة إنسانية تعيد تشكيل العواطف والمشاعر في العمق. يمكن أن تؤدي الحروب إلى شعور الأفراد بفقدان الهوية والانتماء، حيث تتعرض القيم الثقافية والاجتماعية للتحديات. كما يمكن أن تتسبب الحرب في تنامي المشاعر الوطنية والانتماء الجماعي، وقد هذا يكون مصحوبًا بنزعات كراهية أو تمييز ضد الآخر. في مواجهة المعاناة، يمكن أن يتجه البعض إلى الإبداع كوسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار، مما قد يؤدي إلى إنتاج أدبي وفني يعكس تجاربهم. وقد يتجه البعض الآخر إلى الإسفاف ومحاولة اجتثاث القيمة من خلال الاستهداف للرمز.
عندما كنت أجوب البوادي والحضر، عند بداية القرن، محذراً من خطورة اختطاف القبائل العربية وتوظيفها لحملة الإبادة الجماعية التي كانت تنظمها الاستخبارات العسكرية، كانت قيادات الإنقاذ تحرّض على قتل الزرقة في دارفور وتتعمّد إزاحتهم عن أراضيهم، بل وتترصُد بنيهم في شتى نواحي القُطر. لذا أجدني في غاية العجب من وصف الكيزان لي "بالجنجويدي". يحدث هذا فيما يظل القاتل الحقيقي متخفياً هذا الأيام وراء أكمة الشرف والكرامة والوطنية. والأعجب من ذلك كله تحالف كوبي (جبريل) وأولاد دقين (مني) مع الجلاد التاريخي الذي لم يرع في مؤمنٍ إلّاً ولا ذمة ودرج على خلط الأوراق علّه يسود الساحة متسلحاً بذات النهج الذي أتبعه طيلة العقود الماضية. أحار في شأن الأقليات التي تندرج في جيش وتتحمس للدفاع عن "دولة الفصل العنصري" التي ما فتئت تمارس فعل الاستضعاف حتى أحالت جل السودانيين إلى معوزين ومشردين.

دارت حوارات بيني وبين الشيخ موسى هلال في السابق فكان يقول لي بأن "الجلابة" هم الحليف الاستراتيجي للعرب، وكنت أقول له أن الجلابة هم إخواننا في الملة والوطن، أمّا الزرقة فهم الحليف الاستراتيجي لنا من واقع الجغرافيا والتاريخ، وعليه فيلزم أن نرعى العهود والمواثيق التي أبرمها آباؤنا الأولون من منطلق المروءة والدين. جيرت الإنقاذ إرادة القبائل العرب من خلال انتدابها لقيادات مستعدة للتضحية بمصلحة أهلها في سبيل تحقيق مصالحها الشخصية، كما انتدبت آخرين يعانون من وعي زائف وآخرين تمّ ابتزازهم بفضائح مالية وأخري أخلاقية. ومن أعجزهم تحييده أو استمالته فلم يتوانوا في المحاولة لاغتياله حسياً أو معنوياً. كما فعلوا مع ذويهم وسائر أعضاء تنظيمهم الإجرامي. تساعدهم في ذلك الغوغاء التي تردد ما يعلو في الأصداء (eco chamber) وأخرى تخشى تبدل السردية التاريخية التي جعلت الأغلبية السائبة في خدمة الأقلية المحتكرة.

لا يُسعدني مطلقاً القتال الدائر حالياً في الفاشر، فأولئك الشباب كان من المفترض أن توجه جهودهم وبسالتهم للتنمية والاعمار لكنّها إرادة المستوطن الذي أراد أن يستبقيهم عبيداً في حديقته الخلفية يستورد منها الخدّامين والمزارعين والمقاتلين. تتبنى الاستخبارات "إستراتيجية شدّ الأطراف" هذه الأيام وذلك بمحاولتها تحويل الحرب إلى دارفور وتبنيها فكرة تحول الصراع العسكري بين المشتركة والدعم السريع إلى صراع بين الزغاوة والعرب كما فعلوا في دار المساليت إذ نجحوا في تحويل الصراع العسكري بين الجيش والدعم السريع إلى صراع بين المساليت والعرب. الأمر الذي سيكون له عواقب وخيمة بالنظر إلى واقع الزغاوة المعيشي الذي استدعى تنقلهم في ديار عديدة تأثراً بالتصحر الذي ضرب بأطنابه شمال دارفور في الثمانينات.
أهلنا الزغاوة يعيشون وسط البرقد ووسط القمر ووسط البرتي ووسط الرزيقات وقد يتسبب تبدل الميزان العسكري في تحرش بعض المجموعات المُغْرِضة بهم نسبة لقرابتهم بمني وجبريل وقديماً قيل "نار المجرم بتحرق الجيران". هذا ما أخشاه وأحذر من حدوثه فالمساءلة ستطول كل من أزهق نفساً بغير حق أو ارتكب جريمة جنائية طال الزمن أم قصر.

المكونات الدارفورية ليس لها مصلحة على الإطلاق في المساس بواقع التساكن الأهلي وإذا كانت هناك ثمة إشكالات فحلها لن يكون بالاقتتال، إنما بالتفاهم الأخوي والتفاكر العلمي الذي ينقل دارفور من خانة القرون الوسطي إلى ساحة القرن الواحد وعشرين. هنا أود أن أحيل القارئ إلى كتابي "دارفور .. المستوطنة الأخيرة" الذي يتبنى رؤية جديدة لمفهوم الحاكورة التقليدي الذي عطّل إمكانية إحداث نهضة زراعية حقيقية وتنموية تنشد الاستدامة في دارفور. يكفي دارفور ما يطالها من طيران يستهدف البشر والمرافق الحيوية والقطعان وما تعانيه من حصار اقتصادي القصد منه إخضاع المواطنين لإرادة المستوطنين ودفعهم نحو الاعتراف بالدولة التي لم تقدم فعلاً واحدا يشفع لها عند المواطن ولم تفعل ما من شأنه أن يقنن شرعيتها، بل على النقيض كانت كافة أفعالها الإجرامية منذ أن استولت عليها العصابة الإنقاذية تقوّض مشروعيتها السياسية والأخلاقية.

يَمْثُل السودان اليوم واحداً من أكبر أزمات النزوح في العالم وفقاً لتقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إذ يقدر عدد النازحين داخل السودان وخارجه بحوالي 10 مليون لاجئ، ممّا يعكس حجم المعاناة الإنسانية التي يعيشها الشعب السوداني. كل نازح ولاجئ يحمل قصة فقدان، وآلام وأحلام محطمة. هؤلاء الناس اضطروا لترك منازلهم وهاموا على وجوههم يبحثون عن لقمة العيش في ظروف قاسية ولحظات مليئة بالخوف والقلق على مستقبل أبنائهم وبناتهم. بيد أنني أود أن أذكر بأن النزوح لم يبدأ في 15 أبريل 2023 فقد تعرض السودان لأزمات متتالية أدّت إلى نزوح أعدادٍ كبيرةٍ من الناس في الخمسة عقود الماضية نتيجة الحروب والمجاعات التي أخفقت نخب المركز في التعاطي معها بصورة موضوعية وإنسانية.

وإذ يبرز النازحون كرمز لمأساة إنسانية مؤلمة وعميقة، فإن المطلوب منا أكثر من التعاطف هو أن نكون صوتاً لهؤلاء الناس وأن نستمر في العمل من اجل تحقيق العدالة والكرامة لكل السودانيين. ولن نستطيع ان نفعل ذلك إلا إذا قاومنا الأهواء الشخصية وتجردنا من النوازع الذاتية وعمِلنا سوياً لخلق مبادرات سياسية ومجتمعية تتجاوز أفق المتقاتلين وتسعى لفهم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها المرأة الفوراوية او المسلاتية التي أُحرقت قريتها، قُتل زوجها، وشُرّد أطفالها وهي ما فتئت منذ عشرين عام تبحث عن ملاذ أمن في دارفور حتى فجعتها الحرب الأخيرة وألجأتها إلى تشاد أو إلى يوغندا أو جنوب السودان.

كما يجب علينا أن نسعى لفهم التحديات التي تواجهها أسرة خرطومية أو أخرى أم درمانية لجأت منذ عام ونصف للعيش في حي فيصل أو حي الأهرام بالقاهرة. فالتشرد هو التشرد ولا يمكن، بل لا يفترض أن نقيم مفاضلة بين معاناة المجموعات الإنسانية بناءً على العرق أو اللون أو الطبقة الاجتماعية. للأسف، هذا ما ظلت تفعله " الكلاب الضآلة" (صحفيو وصحفيات جهاز الأمن) التي لم تتبرم طيلة العقود الماضية ممّا ظل يطال الشعوب السودانية من حيف وظلم، بل كانوا يبررون فِعال الطغمة الإنقاذية، وهم عندما يتكلمون دوماً عن "الشعب السوداني" إنما يقصدون الفئة المتنفذة من الإسلاميين الذين تنحدر أصولهم من "الشريط النيلي" منطلقين من مساحة اللاوعي والتي لا ترى حقاً لغير السلالات النقية والتي هبط أسلافها من السماء!

ما لم نتفكر في الإشكالات الهيكلية والبنيوية التي أوصلت البلاد إلى هذه الورطة فإنا سنظل حبيسي بنيتنا المعرفية (cognitive structure) التي تبرر لنا فعل ما يلزم لقمع وقهر الشعوب التي انتفضت مطالبة بحقها في الحياة. رغم قتامة المشهد الملبّد بالآلام وتحطم الأحلام فإن النزاع المحتدم اليوم يمكن أن يفتح نوافذاً كثيرة ويظهر مهارات عديدة للتفكير في إشكالياتنا بصورة مختلفة. هذا الأمر يعتمد أولاً وأخيراً على صدقنا ومقدرتنا للتوحد لا سيما أن كثيرا منّا قد وقع في مصيدة الاستقطاب التي حاكتها قوى البغي وغزتها رغبة الفاعلين الأساسيين في استعادة سلطتهم واسترجاع مجدهم الآفل مناهضين بذلك منطق التاريخ وضرورات التفاعل بين الأجيال بدافع التنازل الطوعي والتلقائي تمليكاً للحكمة وليس توريثاً للطغيان.
كلا الفريقين، الكيزان والدعم السريع، يظنان أنهما سيخرجان من هذه المعركة أكثر قوة، علماً بأن الأول كان بمقدوره كسب المعركة السياسية لولا تعدي جنده على حقوق المواطنين، أمّا الآخر فقد أقدم على مغامرة عسكرية خسر بموجبها أي فرصة للإسهام في المستقبل السياسي للسودان. وهم، أي الكيزان المفسدين، إنما يستثمرون محنة الشعب السوداني اليوم متوشحين بلباس القومية ومتدثرين بدثار المؤسسية تعينهم القوى السياسية الليبرالية التي اختارت التواطؤ والاصطفاف إلى جانب مجموعتها العرقية علّها تتفادى محاولات الإصلاح التي ستحرمها فرصة الاستقواء بالمؤسسة العسكرية في وجه الأغلبية التي انعتقت من الخرافة بشقيها الطائفي والأيديولوجي. لا يهاب الديمقراطية من لديه الأغلبية وامسك بزمام البندقية حارسة وليس مصممة لبرنامجه الانتخابي. هيهات هيهات، فقد حان وقت الخلاص من الوصاية.

ختاماً، إنني أعجب من نخب الريف (خاصة نخب الشرق والغرب) ونخب المركز (تلك التي لم يستميلها العويل) التي آثرت السلامة وفضّلت انتظار النتيجة من هذه المعركة العبثية التي لن تستحيل إلى معركة مصيرية إلّا إذا ائتلفت النخب السياسية والاجتماعية وعملت على تطويق كلا الفريقين وسوقهما سوقاً نحو الامتثال لإرادة الجماهير العازمة على استكمال مشروع الثورة الذي لم تزل جذوته متقدة في قلوب الشباب. إن انتصار الجيش بعقليته العنصرية المافيوية يعني استمرار مشروع الإبادة الجماعية الذي سيشمل القبائل العربية هذه المرة. أمّا انتصار الدعم السريع الذي خرج من رحم ذات المجموعة فيعني الفوضى العارمة. عليه، فيجب على النخب السودانية أن تعي بأن خصوصية الحالة السودانية لا تعني اختلافها وتفردها فكثيراً من دول إفريقيا أو أمريكا اللاتينية التي قد واجهت تحديات ومعضلات فترة ما بعد الاستعمار استطاعت التغلب عليها بالحكمة المطلوبة والعزيمة التي تنشد خلق مستقبل أفضل لقادم لأجيال.

 

auwaab@gmail.com

 

آراء