خصوصية دارفور ومشروعية إعادة التفاوض
د. حسين أدم الحاج
7 January, 2009
7 January, 2009
خصوصية دارفور ومشروعية إعادة التفاوض
helhag@juno.com <mailto:helhag@juno.com>
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
تمهيد:
أورد الدكتور عبدالله على إبراهيم فى حوار صحفى مع صحيفة الرأى العام منتصف العام الماضى رؤية تحليلية لطبيعة المشكل السودانى وأسباب تفاقمه بناها حول ضرورة إجراء نقد ذاتى عميق للأسس الفكرية والثقافية والإجتماعية لبنية الدولة السودانية الحديثة, كما قدم تحليلاً وافياً لأسباب فشل النخب الحاكمة فى تجربة بناء الدولة وصيانة الوطن وتحديد الهوية, وقد صاغ كل ذلك بمنطق متماسك ونظرة تاريخية فاحصة أوجزها فى دعوته ل "إعادة التفاوض", أو وجوب مراجعة واجبة لإصلاح ما إعوج فى نشأة وتطور البناء الوطنى, والقيام بتشكيل منطقى للدولة السودانية مع ضرورة "إجراء مساومة تاريخية حول الوطن كضرورة حتمية" تستدعى تنازلات عميقة لتستوعب كل مكونات الشعب السودانى, خاصة المناطق الطرفية والمهملة, والتى تعرضت لتجاوزات النخب الحاكمة فى تصوراتهم نحو مكونات المجتمع القومى, وسنعرض فقرات مما جاء فى ذلك الحوار لاحقاً فى هذا المقال. غير أنَّ ما يعنينا اليوم فى المشكلة السودانية يظل متمثلاً فى أزمة دارفور والمجازر البشعة التى يتعرض لها المواطنون هناك دون أدنى محاولة من الدولة لحمايتهم سواء أكانت من جيوشها وطائراتها الحربية أم من مليشياتها الهمجية, بل ولم نسمع يوماً أن أدانت الدولة ما يحدث من تجاوزات الشيئ الذى يمكن فهمه من خلالها موافقتها الضمنية على ذلك, وقد تطورت الأمور فى الأشهر الأخيرة لتتحول إلى كارثة إنسانية حقيقية إلى درجة ألاَّ تغرب شمس أى يوم إلاَّ وتكون عشرات الأنفس قد أُزهقت وجملة من القرى قد أُحرقت وتشردت الألوف ما بين الجبال والوديان والوهاد يهيمون على وجوههم فى محاولة يائسة للفرار من القتل, فمن لم يمت تحت القصف الحكومى العشوائى والموجَّه مات تحت جحافل مليشيات الجنجويد الذين تطوروا من ركوب الخيل والجمال إلى التحرك بالعربات ذات الدفع الرباعى, والذين بعدما دمروا وأحرقوا كل القرى الصغيرة المبعثرة فى أنحاء الإقليم الواسعة توجهوا نحو البلدات الكبيرة مثل تدميرهم بحر الأسبوع الماضى لمحليات طويلة وكورما وتارنى ومن قبلها هجومهم على كبكابية والهجوم الأخير على كتم, بل ويتمركزون اليوم على مقربة من مدينة الفاشر ذاتها إستعداداً للهجوم عليها بالرغم من وجود أكبر قيادة عسكرية بغرب البلاد فيها, كما تمَّ إدخال ممارسات لا إنسانية بشعة فى مسلسل المآسى متمثلةً فى جرائم الحرب كالإغتصاب وإختطاف الأطفال, خاصة البنات فوق سن العاشرة, وقتل الأطفال الذكور, ولذلك فمن لم يمت جراء تلك الهجمات المنظمة والمتواترة هلك نتيجة الجوع والعطش والمرض والمسغبة.
هذا هو الحال فى دارفور اليوم, تخلى الدولة تماماً عن واجباتها المفروضة عليها شرعاً فى حفظ النسل وصيانة النفس والدفاع عن الأرض والعرض, فتحولت نفسها إلى وحش كاسر مفترس, لكن ضد من؟ فهؤلاء القرويون العزل لم يعادوا أحداً ولم يبادروا بالإعتداء على أحد وظلوا كل حياتهم يعيشون هناك بعيداً فى الهامش, بل إنَّ بعضهم لم ير شرطياً أو مسئولاً حكومياً فى حياته, ولم يتوقعوا يوماً أن يهجم عليهم من يروع أمنهم ويبدد شملهم, ولقد صاروا اليوم تحت رحمة ربهم وحده ليس لهم غيره من مجير أو عاصم, وبالرغم من أنَّ ما يجرى من جرائم قد صار حديث العالم ووكالات الأنباء إلاَّ أنَّ مسئولى الحكومة يستنكرون ذلك فى لؤم ويغضبون من سماعها, وتظل وكالاتها وأجهزتها الإعلامية تنتقد ذلك وتحاول تفنيدها بمكر, بل وتتطاول بعجرفة لتطلب من هذه الأجهزة العالمية سحب تصريحاتها وبياناتها بخصوص ما يجرى من كوارث, لكن الحقيقة تظل دوماً ناصعة ويظل الحق دائماً أبلج, والناس فى دارفور يتعلقون بقشة الحياة لحظة بلحظة والمواطنون فى كل أنحاء البلاد وحول العالم يتابعون ما يجرى بقلق مريع, وكذلك المجتمع الدولى, وتظل حكومة جمهورية السودان هى الوحيدة التى تمثل الإستثناء ولكن إلى متى؟
كيف سنبنى وطناً يتعايش فيه الجميع سواسية تحت مثل هذه الأوضاع الشائنة؟ وكيف سيفهم هؤلاء البؤساء الذين نجوا من أن يكونوا مجرد أرقام فى قوائم الموتى أنَّهم مواطنون فى دولة ذات كيان وسيادة؟ وعلى أى أسس من المواطنة والولاء سينشأ هؤلاء الملايين من الأجيال الصاعدة وهم يرون بعيونهم البريئة أنَّ ديارهم تُحرق وتُهد فوق رؤوسهم وأنَّ أهليهم يقتلون ويسحلون بذات قوى الدولة المناط بها حمايتهم والمحافظة على أمنهم فى المقام الأول؟ أوليس ذلك واجبهم ومهنتهم التى يرتزقون منها ويعيشون عليها؟ ولماذا يحدث لهم ذلك بالأصل؟ المهم إنَّ ما يحدث فى دارفور اليوم وما حدث خلال قرابة المائة سنة الماضية يستدعىالمراجعة وضرورة "إعادة التفاوض" لتقويم وضعها ضمن هيكل الدولة السودانية, وهو وضع شائن وبئيس, وإنَّ الأوان قد آن لإعادة ترتيب تلك العلاقة والتى نشأ معوَّجاً, وظلَّ معوَّجاً, ولا يمكن أن يمضى معوَّجاً هكذا إلى الأبد كما يريد بعضهم, وما يحدث اليوم ليس بشيئ عارض بل له جذور وقيعان وقمم وسفوح وواقع معاش وآثار لاحقة وقد حان الوقت لسبر كل ذلك.
خصوصية دارفور:
أهل دارفور هم ملح المجتمع السودانى وغالبية تركيب سكانه, ولا نبالغ كثيراً إن قلنا أنَّهم موجودون فى كل بقاع السودان, لا كعابرى طرق أو مقيمين مؤقتين, بل كسكان أصليين, إكتسبوا حقوق المواطنة الكاملة والإقامة فى مختلف أماكن سكناهم بطرق قانونية ومشروعة سواء أكان ذلك عن طريق الولادة, أو الإقامة, أو العمالة المهنية الدائمة, أو الموالاة الدينية, أو أثناء الهجرة إلى الحج, أو النزوح الإضطرارى, أو عبر القوة العسكرية الطاردة, أو حتى التهجير القسرى بواسطة الإستعمارين التركى والإنجليزى. ولذلك فإنَّ ما يحدث فيها اليوم ليس بشيئ خاص بها أو بمجموعات من قاطنيها وإنما تتراوح صداها بين أكثرية السودانيين لكونها تخاطب مناطق وعى وغير وعى فى وجدانهم الكامن وشعورهم الجمعى فتنعكس فى شكل مفاهيم وردود أفعال متباينة تمثل فى نهاية المطاف دلالات هامة على المستوين الإجتماعى والوطنى وفى مجالات كثيرة, وهى بذلك مجتمعة تتوشح الرداء القومى, وتحتفظ بخصوصيتها فى ذات الوقت, وما يدور فيها اليوم من تطورات ليس بمعزل عن كل ذلك.
وتتجلى خصوصية دارفور فى حقيقة كونها ظلَّت تمثل كياناً ثابتاً طوال تاريخها والتى سبقت ميلاد الدولة السودانية الحديثة بقرون عديدة ولم تصبح جزءاً من دولة السودان إلاَّ بالإحتلال الغاشم والقوة العسكرية المسلَّحة, وقد تمكنت عبر سلسلة من السلطنات التى حكمتها من بناء علاقات ومبادلات بدرجات مختلفة مع كيانات العالم الخارجى الحاكمة آنذاك مثل الحلف الدفاعى العسكرى بينها وبين سلطنة ودَّاى ضد الوجود التركى فى كردفان, والمراسلات مع فرنسا ممثلة فى نابليون بونابرت, والمناكفات مع مصر محمد على باشا, و الموالاة مع الخلافة العثمانية فى الإستانة, والهدايا والعطايا لشريف مكّة الحسين بن عليّ بالحجاز, والصداقة مع الشيخ محمد بن على السنوسى شيخ الطريقة السنوسية بليبيا وغيرها من المداخلات الأخرى مع دول غرب وشمال أفريقيا ووسط السودان النيلى .
بجانب هذه الخصوصيات التاريخية فإنَّ تميز الإقليم بمناخات متدرجة من الصحراء القاحلة فى الشمال إلى السافنا الغنية فى الجنوب وإلى ما يشبه مناخ البحر الأبيض المتوسط على سلسلة هضاب جبل مرة الساحرة جعلت منه منطقة جذب وإستقرار لمختلف القبائل, حيث إستجاب تنوع المناخات لطبيعة حياة كل قبيلة من زراعة أو رعى وإختلط كل ذلك لينعكس فى الثراء القبلى والتراث المتنوع وإنصهرت معظم تلك المجموعات ذات الخلفيات الإثنية المتباينة فى بوتقة المدن والبلدات الكبرى لتنتج نموذجاً فريداً من التلاقح العرقى والثقافى تتميز بها نكهة مجتمعات هذه المدن خصوصاً مدينة الفاشر الحاضرة التاريخية للإقليم.
وتشير حقائق جغرافية أفريقيا القديمة إلى موقع دارفور المفصلى فى حركة القوافل التجارية عبر المحور الأوسط والشمالى من القارة الأفريقية, فدرب الأربعين مثلاً, والذى كان ينطلق من كوبى والفاشر إلى أسيوط فى صعيد مصر ثمَّ يتابع درب النيل إلى القاهرة, قد تم تصنيفه من قبل المؤرخين والرحالة الأجانب كأحد أهمَّ خمس طرق عابرة (Highway) للقوافل فى أفريقيا القديمة ولقد لعب ذلك الطريق دوراً كبيراً فى تطوير علاقات دارفور التجارية والسياسية والعلمية والثقافية مع العديد من دول العالم, وبجانب ذلك تظل دارفور حالياً بالنسبة للدولة السودانية تلعب حلقة الربط ليس فقط بينها وبين ثلاثة دول من جهتها الغربية بل ومع دول غرب القارة الأفريقية إجمالاً, وقد سبق أن تحدث رئيس دولة النيجر فى زيارة له للسودان قبل سنوات قليلة عن إمكانية ربط بلاده المقفولة بحرياً بميناء بورتسودان عبر الطريق القارى الأفريقى العابر من مقديشو إلى داكار, حسب خطة الإتحاد الأفريقى لتنمية أفريقيا, والذى يمثل طريق الإنقاذ الغربى المقترح جزءاً منه.
مشروعية "إعادة التفاوض":
بناءاً على تلك الدلالات وغيرها من خصوصيات دارفور التاريخية والثقافية المتعددة فإنَّ قضية ضمِّها إلى دولة السودان يجب التوقف عندها لدواعى موضوعية ربما يثير بعض تساؤلات مشروعة ذات علاقة بالقانون الدولى وما يتعلق بذلك من مسائل سيادة الدول وإستقلاليتها. لقد ضُمَّت دارفور إلى السودان فى مرحلتين أولاهما إلى دولة الحكم التركى المصرى عام 1874م بواسطة الزبير باشا ودرحمة ولم يمكث الأتراك بها إلا بضع سنوات قلقة حلَّت محلهم دولة المهدية, لكنَّ السلطنة تمكنت من إستعادة إستقلالها عشية إنهيار دولة المهدويين عام 1898م, وثانيهما ضمَّها القسرى إلى دولة الحكم الإنجليزى المصرى عام 1916م بواسطة القائد الإنجليزى هدلستون قبل أن يصدر من بريطانيا قرار ضمها رسمياً إلى دولة السودان الإنجليزى المصرى فى الأول من يناير 1917م ملغية وجودها ككيان مستقل لتصبح المديرية التاسعة فى السودان فيما بعد, هذا الضم القسرى الثانى هو ما يجب الإهتمام به من النواحى القانونية على الأقل, وقد تستدعى الإشارة إلى ذلك من عدة جوانب وما قد يرتبط بها من قضايا مستقبلية, نوجزها فى النقاط التالية:
أولاً: تمَّ الإستيلاء على سلطنة دارفور بالقوة الجبرية تبعها ضمَّها لدولة السودان الإنجليزى المصرى ضمَّاً قسرياً منهية وجودها ككيان مستقل, وقد تمَّ ذلك فى سياق مؤتمر برلين (84-1985م) بين القوى الأوربية حيث أعطوا أنفسهم الحق للتكالب على أفريقيا والسيطرة عليها مما أدى إلى نشوب التنافس الأوروبى على الفوز بمناطق نفوذ فيها ومن بينها سودان المهدية ودارفور, فبإقتراح من البرتغال عام 1884م دعا المستشار الألمانى بسمارك الدول الأوربية المتنفذة يومها لمحادثات لحسم الخلافات الناشبة بينهم حول السيطرة على أفريقيا, وقد كان ثمانين فى المائة من مساحة القارة الأفريقية وقتئذ مستقلةً تخضع لحكم الأنظمة التقليدية المحلية فى حدود سياسية معروفة فيما بينها قسمتها إلى حولى خمسين دولة وشبه دولة حول القارة تستوعب أكثر من ألف من القبائل والثقافات المحلية التى لم تكن منسجمة مع بعضها فى غالب الأحيان, على هذه الخلفية إجتمع سفراء 14 دولة أوربية فى برلين فى يوم 15 نوفمبر 1884م يمثلون النمسا/المجر, بلجيكا, الدنمارك, فرنسا, ألمانيا, بريطانيا العظمى, إيطاليا, هولندا, البرتغال, روسيا, إسبانيا, السويد/النرويج (اللتان كانتا متحدتين فى الفترة 1814-1905م), تركيا والولايات المتحدة الأمريكية, ولقد كانت فرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى والبرتغال اللاعبين الكبار وكانوا يسيطرون بالفعل على أجزاء واسعة من القارة الأفريقية, ورغم إستمرار ذلك المؤتمر حتى 26 فبراير 1885م إلاَّ أنَّه إنتهى دون التمكن من حل الخلافات القائمة والتى من أجلها تمت الدعوة للإجتماع, فإندفعت بعض هذه الدول فى محاولة للسيطرة على أكبر حصة من القارة متجاوزة الحدود السياسية للكيانات القائمة ودونما إعتبار للفوارق اللغوية والثقافية المتوطنة بين تلك المجتمعات الشيئ الذى أدخلتها فى نزاعات فيما بينها, لكن بحلول عام 1914م تمكنت هذه القوى الأوربية من إكمال سيطرتها على أفريقيا فحققت بريطانيا العظمى هدفها فى مد مستعمراتها من القاهرة إلى الكاب, ومن بينها السودان الإنجليزى المصرى, وخلقت لها مواطئ قدم فى ساحل الذهب غرب القارة متمثلة فى سيطرتها على دولتى نيجيريا وغانا, كما سيطرت فرنسا على معظم غربى القارة, وفازت البرتغال بموزامبيق على الساحل الشرقى وأنجولا على الساحل الغربى, وإبتلعت بلجيكا حوض الكونغو, بينما قنعت إيطاليا بالصومال وأجزاء من إثيوبيا, وحصلت ألمانيا على ناميبيا وتنزانيا. وبالنسبة لدارفور فقد بدأ النزاع حولها منذ العام 1910م من خلال محاولة الفرنسين التقدم غرباً نحو حوض النيل قبل أن تتمكن سلطنة دار المساليت من وقف زحفهم فإستقرت الأوضاع على ما نعرفه اليوم من الحدود السودانية التشادية, ونسبة لشكوك بريطانيا من نوايا الفرنسيين التوسعية شرقاً, ومن خلال إصطدامهم فى نقطة فاشودة العسكرية, فقد آثروا تأمين الحدود الغربية من إمبراطوريتهم الجديدة بالإستيلاء على سلطنة دارفور وضمِّها بصورة رسمية كجزء من أملاكها حتى لا يفكر الفرنسيون فى معاودة محاولاتهم مرة أخرى وعلى هذه الخلفية تمَّ إنهاء السلطنة. لكنَّ الشاهد فى الأمر أن كل الدول الأفريقية التى سقطت تحت الإحتلال الإستعمارى الأوروبى فى تلك الفترة قد نالت إستقلالها السياسى الواحدة تلو الأخرى فى مرحلة التحرر الوطنى فى الخمسينات والستينات من القرن الماضى وإستعادت كياناتها السياسية والإجتماعية مثلما كانت فى ماضيها قبل قدوم المستعمر.
ثانياً: لقد تمَّ ضم دارفور إلى السودان دون إستشارة أهلها أو حتى تمثيلهم أو أخذ رأيهم فيما حدث أو ما سيحدث لهم, أى أنَّها ضُمَّت بمن فيها وما فيها دون إعتبار لكيانهم, وقد تواصلت نفس تلك السياسات بعد إستقلال البلاد بالرغم من المشاركة الفاعلة لأهل الإقليم فى إنجاز مشروع الإستقلال.
ثالثاً: على المستوى العالمى, وفيما يختص بالدول التى تم الإستيلاء عليها بواسطة دول أخرى وضمَّها بطرق قسرية ملغيةً وجودها ككيانات قائمة, نجد أن القانون الدولى قد إحتفظ لها بحق تقرير المصير, وفى أفريقيا أمثلة حيَّة لذلك متمثلة فى إرتريا وتقرير مصيرها عن إثيوبيا, وناميبيا وتقرير مصيرها عن جنوب أفريقيا, وما زالت مشكلة الصحراء الغربية فى نزاعها مع المغرب معلقةً فى دهاليز الأمم المتحدة. من ناحية أخرى نجد أنَّ دولة الإتحاد السوفيتى السابق تمثل حالة بأكملها فى هذا الجانب, فقد كانت تلك الدولة تتكون من 15 جمهورية إتحادية ظلت تعرف بالجمهوريات السوفيتية أكبرها جمهورية روسيا والتى كانت تمثل 75% من مساحة الدولة آنذاك والأهم تأثيراً على مجرياتها, وبجانب تلك الجمهوريات توجد أيضاً حوالى 130 من المقاطعات والكايتونات تضم قوميات صغيرة متعددة داخل جسم تلك الدولة الهائلة وتتمتع بقدر من الحكم الذاتى مراعاة لخصوصياتها المحلية, ما يهمنا هنا هو أنَّ تلك الجمهوريات السوفيتية كانت تمثل بالأساس قوميات مختلفة ففى الجانب الأوربى من دولة الإتحاد السوفيتى كانت هناك جمهوريات ليثوانيا, لاتفيا, إستونيا, بيلاروسيا, أوكرانيا ومالدوفيا, وتضم منطقة القوقاز جمهوريات جورجيا, آذربيجان, وأرمينيا, أما منطقة الوسط الآسيوى فضمَّت جمهوريات كل من كازخستان, أوزبكستان, توركمستان, قرقيزتان وطاجيكستان. المهم فى الأمر أن معظم هذه الجمهوريات كانت مستقلة ومعترفة بها عالمياً ككيانات قائمة قبل أن تستولى عليها الدولة الروسية فى الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية (1917-1940م) وتضمها قسراً إلى حدودها فى تحد صارخ لإستقلاليتها وخصائصها الذاتية وكينوناتها القومية, بل وحاولت جاهدة إذابتها فى القومية الروسية وفرض اللغة الروسية عليها كلغة رسمية لكل الدولة, وفى سبيل تحقيق ذلك إستخدم الجيش الأحمر الروسى أشدَّ أصناف العذاب ضد الوطنيين من أبناء تلك الجمهوريات وبالغت فى تصفيتهم جسدياً ونفيهم إلى أصقاع سايبيريا الباردة ليموتوا من القهر والجوع والمرض, وقد إستمرت سياسات البطش تلك حتى خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتكوين حلف وارسو فنجد أن دولة الإتحاد السوفيتى لم تتردد مطلقاً فى التدخل العسكرى لحسم مظاهر التوتر والتذمر ضدها فى دول الحلف فإستخدمت الجيش الأحمر لإجتياح دولة المجر عام 1958م, ودولة تشيكوسلافيا عام 1968م, ثم تدخلت فى أفغانستان عام 1980م وكانت بداية إنهيارها كقوة عظمى. إنَّ الشاهد فى إنهيار دولة الإتحاد السوفيتى بدءاً من عام 1989م هو حصول معظم تلك الجمهوريات المقهورة والمكونة لها على إستقلالها سريعاً وبموافقة صريحة من الجمهورية الروسية نفسها التى ورثت الدولة الكبرى الزائلة وكل المزايا العالمية التى كانت تتمتع بها, ولم تغب شمس العام 1990م إلاَّ وصارت كل من تلك الجمهوريات متمتعة بإستقلالها السياسى. عطفاً على هذه النظرة من خلال نافذة القانون الدولى نجد أنَّ دارفور قد لا تختلف فى أمرها كثيراً عن ذات هذه الدول.
رابعاً: بناءاً على هذه الخلفية يمكننا أن نقرر أنَّه إذا كان هناك إقليم واحد فى السودان يستأهل التمتع بحق تقرير المصير فهو إقليم دارفور! ومع إحترامنا للإخوة فى جنوب السودان إلاَّ أنَّنا نظن بأنًّ ما حصلوا عليه من حق لتقرير مصيرهم السياسى يفتقد السند الصريح فى لوائح القانون الدولى, وإنَّ هذا الحق ما حصلوا عليه إلاَّ نتيجة لحالة "الإرهاق" وسؤ تقديرات الحكومة السودانية وسياساتها العرجاء الممعنة فى إلغاء الآخر, ومحاولة صياغة الدولة قسراً على رؤى أحادية التوجه تماماً كما حدث فى الإتحاد السوفيتى, الشيئ الذى تولد عنه إحتقان إجتماعى وشعور الكثيرون بالغبن وبأنَّهم صاروا مواطنين من الدرجات الدنيا لا يحق لهم التمتع بخيرات بلدهم ولا يحلمون أبداً بأن يتسنموا يوماً مناصب الحكام, طالما أن تلك المناصب قد تم تفصيلها بمقاسات محددة كحق خاص لجماعات بعينها ولذلك كان هذا التذمر والإنفراط, وقد يكون من ضمن السياسات الهادفة للجماعات المسيطرة على مقدرات البلاد طرد الجنوبيين من السودان وفصلهم فى دولة مستقلة, بل وتنادوا بذلك علناً وفى وسائل الإعلام القومية, حتى لا "يخرِّبوا" عليهم الترتيبات والمصالح الخاصة بهم, لكن يبدو أنَّ الأقدار قد شاءت أن يأتى ذلك "التخريب" من حيث لم يحتسبوا فهدمتها على رؤوسهم ولذلك كان هذا القتل الوحشى والتدمير الإنتقامى فى دارفور, ولعلَّ ذلك يثبت ما عبرنا عنه قبلاً من أنَّه لا توجد مواقف قومية حاسمة فى تاريخ السودان منذ ضمِّ دارفور إليها إلاَّ وتجدها ركيزةً أساسيةً فيها, ومن خلال هذا الإرث تستمد دورها المتوقع دائماً فى إعادة تأهيل مسار هذا الوطن.
خامساً: برغم الإجحاف التاريخى بحق أهل دارفور إلاَّ أنَّهم ظلوا ملتزمين بالأوضاع الجديدة التى حاق بهم فى إطار الدولة السودانية فى فترتى الإستعمار والإستقلال, بل وأظهروا إلتزاماً قوياً بوحدة الوطن وبنائها متستصحبين تراثهم الهائل فى ثقافة الحكم والدولة والإلتزام بمبادئ المواطنة والتجرد فوضعوه فى خدمة السودان الدولة منذ لحظة ضمَّهم إليها. ولذلك فقد عكس سلوكهم وممارساتهم الوطنية درجة عالية من الإلتزام أكدت بأنَّهم ليسوا بإنفصاليين, ولا بعنصريين, ولم يفكروا أبداً فى الإنفصال عن السودان أو المطالبة بتقرير المصير, وسيظل ذلك قدرهم إستناداً على إيمانهم المطلق بوحدة تراب الوطن ووحدة مكونات شعبه, وإنَّ ما ورد أعلاه من نقاط لا يعدو أن يكون تعبيراً عن واقع تاريخى كان يمكن أن يأخذ أتجاهات مغايرة حسب أهواء السياسة الدولية التى حكمت مسار إقليم دارفور والدولة السودانية إجمالاً منذ فترة التكالب الإستعمارى على أفريقيا وما أعقبها من تطورات وسياسات, لكنَّا نعتقد بأنَّه قد آن الأوان لمراجعة كل ذلك فى إطار وحدة السودان وضمن سياق المرحلة القادمة وبناء السودان الجديد والتصدى لإشكاليات معقدة مثل قضايا الهوية والثقافة وتوزيع الثروة والمشاركة المنصفة فى أوعية السلطة والأجهزة العليا فى الدولة, أى "إعادة التفاوض".
سادساً: بناءاً على هذه الخلفية, وعلى ما هو ماثل أمامنا الآن على أرض الواقع فى دارفور, يجب أن تتم مراجعة شاملة لعلاقة دارفور بدولة السودان وتحديد موازين جديدة على أسس مغايرة عمَّا كان سائداً فى الماضى تتضمن إعترافاً بخصوصياتها وحقوقها التاريخية ووضعها المستقبلى فى إطار القومية السودانية, لقد أشرنا أعلاه لنظرية الدكتور عبد الله علي إبراهيم فى حواره مع صحيفة الرأى العام عن مبدأ "إعادة التفاوض" لتشكيل منطقى للدولة السودانية وضرورة "إجراء المساومة التاريخية حول الوطن كضرورة حتمية", ولأهمية ذلك الحوار نورد هنا مقتطفات هامة منه كونه يعبر تماماً عن أزمة السودان حيال نفسه ويتقاطع فى نفس الوقت مع جذور أزمة دارفور بجلاء فاضح, فقد ذكر أنَّ السودان لم يبدأ مرحلة إعادة ذلك التفاوض بعد وأنَّ الخيال الوطنى المحدود عجز عن إستيعاب نداءات التباين الثقافى والتعدد العرقى, وأنَّ دولة السودان القائمة حالياً لا تعدو أن تكون دولة إستعمارية فى تركيبتها وعقليتها الباطنة, وأنَّ السودان لا يزال محكوماً بدولة الرعايا, وأنَّه لا مخرج من الأزمة إلاَّ بإجراء المساومة التاريخية. ويمضى فيقول أننا إذا أرجعنا الامر إلى بدايته فإنَّ الدولة التى ورثناها عن الإستعمار لم تحدث لها أية مراجعة وظلت محافظة على عقليتها الباطنة القائمة على إدارة وتقاليد وصفوة أجنبية وهى بالطبع صفوة خائفة ومعزولة ومنقطعة وتؤمن نفسها بإمتيازات، ولذلك فقد عجزوا عن مجابهة القضايا والتى تفاقمت بمرور الأيام وتراكم السنوات, فالجنوبيون كانت شروطهم بالإستقلال أن تتم مفاوضة تحت مسمى الفيدرالية أو غيرها من المسميات ولم يوافقوا أصلاً أن يكونوا جزءاً من السودان القديم، وإنَّما كان مطلبهم أن يتم إستيعابهم على أساس خصائصهم، ومثل الجنوبيون سرعان ما خرجت جماعات أخرى مثل إتحاد البجا فى الفترة 57-1959م, وتلا ذلك جبهة نهضة دارفور ومنظمة سونى - وفى الخرطوم ظهر ما يسمى بالحبة الزرقاء (الرقيق السابقين) ونشأت منظمات تتحدث عن سودان آخر, ولذلك فإن الدعوة هى دعوة لإعادة التفاوض وهى قضية كان ينبغى أن يفرغ السودان منها منذ العام 1956م لكن الحكومات فى الحقب المختلفة والصفوة والأحزاب ظلت تبتعد عن المهمة. ويتابع الدكتور عبد الله فيقول إنَّ الحركة الوطنية هى التى ورثت الدولة الإستعمارية ومن ثم تحركت الصفوة فى مدارات ثقافية وعرقية جعلتها مسدودة ولعل أبلغ عبارة يمكن أن ندلل بها على هذا الواقع ما ذكره باحث عن السودان إذ يقول (إن الصفوة ورثت الوطن الأرض كلها لكنها تعاملت مع الوطن العريض بثقافة محدودة) وهذا ما نعبر عنه دائماً (بأمة أصلها للعرب ودينها خير دين يُحَب), هذه هى المعانى التى تجمعت وتحددت، ولم يكن هناك مهرب ونتيجة لذلك فقد غيبت أقاليم بأكملها، فالجنوب لم يكن يلتفت إليه والحركة الوطنية لا تعيره نظرة إلاَّ بمقدار أنَّ هناك مؤامرة إستعمارية يجب أن تتوقف، هذا الخيال المحدود هو الذى ورث الوطن ومن بعد بدأ يعد للعملية السياسية- هذا الخيال المحدود رفض أن يستوعب الدعوات والنداءات للتباين الثقافى والتعدد العرقى ولذلك فإنَّ الحركة الوطنية سرعان ما نمت وخبت وسرعان ما تلفحت بعباءة الطائفية. ويتابع فيقول إنَّ الحركة الإسلامية ورثت الحركة الوطنية فى أشكالها الجنينية وفى خيالها الأول البرئ بدعواها القائمة على العروبة والإسلام وأصبحت المعبرة عنها ولاتزال حتى اليوم تدافع عن ما تسميه بالثوابت, وهى ذات ثوابت الحركة الوطنية الأساسية "العروبة والإسلام", وتمدد هذا على مستوى جهاز الدولة والوطن - ولعل هذا هو الذى ظل مانعاً وحائلاً أمام فكرة إعادة التفاوض, وبسبب الإعتصام بهذه الفكرة تظل قضايا مثل الشريعة - العاصمة، قضايا معقدة ومفصلية وغير قابلة للحل بكفاءة ورشد، ذلك أنَّ الخيال الأساسى لهذا الوطن إنَّما إنبنى على الفكرة الوطنية وهى فكرة تنهض على إستئثار مجموعة بالحكم صورتها عن نفسها هى صورة الحاكم! ولا يتوفر لديها الإستعداد لملاقاة الآخرين فى منتصف الطريق, كما تختلط فيها الهوية بالمطامع وإقتسام المناصب! ولعل هذا ما يفسر أنَّ الحركة الإسلامية لا يمكن أن تقبل حتى تصوراً أن يتولى رئاسة الجمهورية فرد غير مسلم. ويختتم الدكتور عبدالله على إبراهيم حديثه متسائلاً عن ما هو الإرث الثقيل الذى ينبغى علينا جميعاً أن نجابهه؟ ويجاوب على ذلك بنفسه فيقول بأنَّه يجب علينا أن نتحمل عبء المساومة التاريخية وأن نواجه قضايانا وأن نحدد موضوعات التفاوض, كذلك يجب أن يوجه النقد للفكرة الوطنية، وألاَّ نتصور أنَّها فكرة إيجابية بإطلاق وأن نتحرر من أسرها، ولذلك بدلاً من التباكى علينا أن نوجه النقد لفكرة الوطنية لنتعرف على من أعمانا من النظر للتعقيد, فالفكرة الوطنية قامت على فكرة البوتقة وحشر الناس بالقوة, ولكننا فشلنا فى إجراء المساومة التاريخية وهذا مادفع السودان ثمنه باهظاً من عمليات عنف وعنف مضاد (الرأى العام 8/5/2003م). تلك نظرة ثاقبة وضعت أصبعها على الجرح, وبدورنا نؤكد على ذلك, ونؤمن عليه, بل وندعو بأن يتم ذلك أيضاً بشأن ملف دارفور فى سياق التغيير المرتقب خلال الفترة القادمة كعملية لا بد منها حتى يستقيم أمرها فى الموازين القومية للدولة السودانية.
سابعاً: مشروع "إعادة التفاوض" حول وضع دارفور الوطنى والدستورى فى إطار الدولة السودانية القادمة يجب أن يستند على إطار فكرى إستراتيجى ووعى عميق لمقابلة الفكر الإستراتيجى للطرف الآخر المهيمن على مقدرات الأمة والذى بدأ فى لملمة نفسه وتنظيمه بدرجة عالية من الدقة وتحريكه للإمساك بالمفاصل الأساسية لأى ترتيبات فى الحكم وإدارة دفة البلاد فى المرحلة القادمة بعد إكمال ترتيبات إتفاقية السلام, إنَّ السيطرة على كل مراكز السلطة القوية, ووسائط الإعلام, ومنافذ الإقتصاد والبنوك, وفرض النظام البنكى الإسلامى لدعم مصالح وإثراء شريحة منتفعة, وخصخصة التعليم والعلاج لعزل وإهلاك الطبقات الفقيرة من أبناء مناطق الهامش, والسيطرة على وزارة البترول من الخفير إلى الوزير والتوظيف فيها على أساس القبيلة, وتحويل الجيش إلى قوة غاشمة لإذلال الشعب وإبادة أبناء المناطق المعزولة كلها سياسات يجب مناهضتها بالفكر والنشاط العقلانى, ولذلك فإنَّ مجابهة الفكر الآخر تحتاج أول ما تحتاج إلى فكر مماثل له أو متفوق عليه فى القدرة والكفاءة وليس من الضرورى أن يكون مضاداً له فى الإتجاه طالما أنَّ الهدف هو بناء دولة فى مناخ صحى معافى.
ثامناً: من كل ذلك يجدر بنا أن نصل إلى خلاصة منطقية هى أنَّ حل قضية دارفور لا ولن يمكن أن يتم من خلال برنامج تبسيطى يعتمد بناء طريق أو طريقين أو إنشاء مدرسة أو مدرستين أو حفر عدد من آبار المياه كما يعتقد الواهمون قصيرى النظر, إنَّما تتعدى المسألة إلى سبر آفاق واسعة ورحبة أقلَّها الحكم الذاتى الموسَّع وتمكين الإقليم من التمتع بخيراته ومصادره الطبيعية وبناء علاقاته الخارجية والتجارية الممتدة, فهو يجاور ثلاثة دول وعلى صلة تاريخية بمصر, وإثراء ثقافات أهله وبعث تراث القبائل المتنوع والمغمور فى كل الجوانب, وتنشيط مجالات دراسة تاريخه والتنقيب عن آثاره, وتطوير مناهجه التعليمية وبناء جامعاته ومراكزه البحثية المتخصصة, وتأهيل مشروعاته الخدمية والتنموية, بالإضافة إلى نيل حقوقه المشروعة وطنياً ودستورياً فى نطاق الدولة مع إستحقاق أبنائه فى إدارة دفة الحكم وعلى كل المستويات, خاصة منصب رئاسة الجمهورية والوزارات السيادية النافذة, والتى ظلَّت حكراً لجماعات محددة منذ إستقلال السودان.
تاسعاًً: طرح وترتيب الجوانب الفكرية والإستراتيجية لمشروع "دارفور الجديدة" يجب أن يتحصن ضد آفات السياسة السودانية, وهى أفات كثيرة وخبيثة, خاصة ضد ما ظللنا نطلق عليه زوراً وبهتاناً الأحزاب القومية والتى تحولت كآليات لإمعان السيطرة على مناطق الهامش, فهى بالنسبة لدارفور بيت الداء وسبب الكوارث التى تعصف بها, ولذلك فإنَّ الأطر الفكرية التى تنبع من أهل الإقليم ومثقفيهم تحتاج بالمقابل إلى أطر سياسية لحملها وتطويرها والتبشير بها والدفاع عنها وتطبيقها لصالح أهل الإقليم والسودان أجمع. ولكى نكون واضحين دون لبس أو دوران يجب أن نشير وبصريح العبارة إلى أنَّ هذه الأطر السياسية إنَّما نعنى بها تحديداً ضرورة قيام "حزب سياسى"!, والطرح هنا منطقى وموضوعى فما من حركة تحرير عسكرية قامت فى أى بقعة فى العالم وإنتصرت لإرادة شعبها إلاَّ وتحولت لحركة سياسية أو حزب سياسى تقودهم فى مرحلة البناء الوطنى, وما مآلات الحركة الشعبية لتحرير السودان وتحركاتها الماثلة أمامنا الآن إلاَّ شاهداً على ذلك, وما مآلات الحركة المسلَّحة بدارفور إلاََّ متنكباً لتلك الخطى وقع الحافر على الحافر. ولأهمية هذا الموضوع سنعود إليه بشيئ من التفصيل فى المستقبل القريب بإذن الله.
عاشراً: تأطير الجوانب الفكرية الإستراتيجية وتكييف الحركة السياسية تحتاج أول ما تحتاج لترتيب بيت دارفور من الداخل ولملمة أطراف مجتمعه ومن هنا يأتى الحذر ويتمثل مكمن الخطر, فالجماعات التى هيمنت على مقدرات البلاد ومنعت "إعادة التفاوض" سوف لن تسعد بأى حال أن ترى دارفور طليقة حرة ترتع فى رعاها, وها هم الآن يتكالبون عليها لإعادتها إلى عقالها. لمجابهة هذه المعضلة وتجاوزها لصالح الإقليم يجب العمل الفورى والمخلص لتوحيد أبنائه ونشر ثقافة التجرد والإلتزام التام بقضاياه, والحاجة هنا تدعو أيضاً إلى قيام جهد فكرى مميز ومرن, كما إنَّه يجدر ببعض المجموعات من أهل الإقليم مراجعة مواقفهم السابقة, ونقولها بصريح العبارة إنَّ على إخواننا من أبناء وأهل بعض القبائل العربية ضرورة القيام بعمل إيجابى يصب فى هذا الإتجاه, لقد أشار الأخ أبوبكر القاضي إلى هذه النقطة تحديداً فى مقال له نشر بموقع سودانايل بعنوان "ألحقوا كردفان قبل فوات الأوان" عن مذكرة أبناء كردفان الأخيرة إلى الحكومة السودانية, بشأن مطالبهم المنطقية فى الثروة والسلطة وحقوقهم فى منطقة أبيى, حيث أورد جملة من آثار تلك المذكرة على الأوضاع في دارفور نذكر منها: "إنَّ أسعد الناس بمذكرة كردفان هم حملة السلاح في دارفور من أبناء «الزرقة» وذلك للأسباب التالية: 1 ـ مذكرة أبناء كردفان وهم عرب مثل عرب دارفور, وأكثر قرباً من عرب دارفور للمركز, تشكل تعزيزا قوياً لحملة السلاح في دارفور, إذ هي رسالة صريحة لعرب دارفور للإنتباه إلى مشاكلهم ضد المركز وهذا يقتضي التعاون بينهم وبين الفور والزغاوة وبقية القبائل الزنجية التي حملت السلاح سلفاً, وتؤكد الإستلاب الذي وقع فيه عرب دارفور الذين إستغلتهم الحكومة المركزية في معركتها ضد إخوانهم من أبناء الهامش في دارفور, 2 ـ مذكرة أبناء كردفان المطلبية التي تطالب بالعدل والمساواة في قسمة السلطة والثروة تؤكد عدالة قضية أبناء دارفور الذين تصفهم الحكومة المركزية باللصوص وقطاع الطرق" .. ألخ (سودانايل 12/2/2004م). وبالرغم من أننا لا نشمل كل عرب دارفور فى ذلك إلاَّ إنَّه مما يسعدنا ويثلج صدورنا فى هذا المجال هو أنَّ الكثير من تلك القبائل قد أحجمت عن متابعة الحكومة فى ضلالها, بل إنَّ قبيلة معينة رفضت رشوة مقدارها 17 مليار جنيه لتجييش أبناءها لقتال الثوار, ومع ذلك نود أن نرى تحركاً علنياً صريحاً فى إتجاه المصالحة بل والمبادرة بها خاصة من جانب المثقفين والنظار والشيوخ مع ضرورة لجم جماح بعض "أنصاف المتعلمين" من أبناء القبائل و"الحكامات" الذين ظلوا ينفخون فى نيران الفتنة العرقية خلال الفترة الماضية, ونتمنى أن تتمكن "رابطة دارفور العالمية" فى حال قيامها من التصدى الحاسم لمسألة وحدة أبناء الإقليم وبسط لواء التعايش السلمى ورتق الخروق القبلية بين كل مكونات وطوائف أهل دارفور دون حجز أو حجر على أحد فتلك من أهم مرتكزات قيامها ومحور إهتماماتها.
ختام:
يدور نقاش صاخب منذ فترة فى وسائل الإعلام السودانية حول ما يجرى فى مفاوضات السلام بكينيا, ويبدوأنَّ هناك شعور من بعض المحللين بأنَّ الحكومة قد تورطت فى مستنقع نيفاشا بينما يعتقد آخرون أنَّ السودان كله ومستقبل الوطن قد تورطا أسوة بحكومته, ولقد أشار بعضهم بأنَّ ما يتم فى المفاوضات الحالية ليس تقسيماً للسلطة أو الثروة وإنَّما تتعداها لتقسيم الوطن نفسه, وبدورنا نخشى أن تكون الأمور قد وصلت إلى هذا الدرك من الإنهيار, إنَّ المشكلة الأساسية والخطيرة هى أنَّ الحكومة ليست لها بوصلة تعينها فى تحديد إتجاه سيرها فتتمثل سياساتها غالباً فى ردود الأفعال, ونتيجة لذلك لا تخرج من مطب إلاَّ وتقع فى غيره, إنَّ وجود قوات عسكرية أجنبية بعشرات الألوف وبقرار من الأمم المتحدة بدعوى رعاية إتفاقية السلام, بجانب ورود بعض التلميحات حول إحتمال تولى حاكم العراق الحالى بريمر تنفيذ ذلك, سيضع السودان تحت رحمة الوصاية الدولية المباشرة وبيدنا فعلنا لا بيد عمرو. ومن المعروف أنَّه فى أوقات الأزمات التى تهدد أمن الدولة ووحدتها فإنَّها تسعى أول ما تسعى إلى تأمين جبهتها الداخلية وتجميع قدراتها المبعثرة لدرء الخطر, لكن حكومتنا الذكية آثرت أن تسبح عكس التيار مولدة المزيد من الضغوط والفتن التى تتجاوزها لتطعن فى روح وجود الوطن نفسه وهذه نتيجة طبيعية لرفض وإنكار "إعادة التفاوض".
بالنسبة لدارفور فإنَّ على أبنائها ومثقفيها النظر إلى المستقبل بالفكر والعزيمة والإستعداد له, فتلك معركة أخرى لا تقل أهمية فى عمقها عمَّا يحدث اليوم, وهى مرحلة الجهاد الأكبر, مرحلة البناء الداخلى والعمران والإنطلاق مسنوداً بوحدة أبناء الإقليم وأهله ومرتكزاً على وحدة الوطن وترابه وشعبه.
helhag@juno.com <mailto:helhag@juno.com>
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
تمهيد:
أورد الدكتور عبدالله على إبراهيم فى حوار صحفى مع صحيفة الرأى العام منتصف العام الماضى رؤية تحليلية لطبيعة المشكل السودانى وأسباب تفاقمه بناها حول ضرورة إجراء نقد ذاتى عميق للأسس الفكرية والثقافية والإجتماعية لبنية الدولة السودانية الحديثة, كما قدم تحليلاً وافياً لأسباب فشل النخب الحاكمة فى تجربة بناء الدولة وصيانة الوطن وتحديد الهوية, وقد صاغ كل ذلك بمنطق متماسك ونظرة تاريخية فاحصة أوجزها فى دعوته ل "إعادة التفاوض", أو وجوب مراجعة واجبة لإصلاح ما إعوج فى نشأة وتطور البناء الوطنى, والقيام بتشكيل منطقى للدولة السودانية مع ضرورة "إجراء مساومة تاريخية حول الوطن كضرورة حتمية" تستدعى تنازلات عميقة لتستوعب كل مكونات الشعب السودانى, خاصة المناطق الطرفية والمهملة, والتى تعرضت لتجاوزات النخب الحاكمة فى تصوراتهم نحو مكونات المجتمع القومى, وسنعرض فقرات مما جاء فى ذلك الحوار لاحقاً فى هذا المقال. غير أنَّ ما يعنينا اليوم فى المشكلة السودانية يظل متمثلاً فى أزمة دارفور والمجازر البشعة التى يتعرض لها المواطنون هناك دون أدنى محاولة من الدولة لحمايتهم سواء أكانت من جيوشها وطائراتها الحربية أم من مليشياتها الهمجية, بل ولم نسمع يوماً أن أدانت الدولة ما يحدث من تجاوزات الشيئ الذى يمكن فهمه من خلالها موافقتها الضمنية على ذلك, وقد تطورت الأمور فى الأشهر الأخيرة لتتحول إلى كارثة إنسانية حقيقية إلى درجة ألاَّ تغرب شمس أى يوم إلاَّ وتكون عشرات الأنفس قد أُزهقت وجملة من القرى قد أُحرقت وتشردت الألوف ما بين الجبال والوديان والوهاد يهيمون على وجوههم فى محاولة يائسة للفرار من القتل, فمن لم يمت تحت القصف الحكومى العشوائى والموجَّه مات تحت جحافل مليشيات الجنجويد الذين تطوروا من ركوب الخيل والجمال إلى التحرك بالعربات ذات الدفع الرباعى, والذين بعدما دمروا وأحرقوا كل القرى الصغيرة المبعثرة فى أنحاء الإقليم الواسعة توجهوا نحو البلدات الكبيرة مثل تدميرهم بحر الأسبوع الماضى لمحليات طويلة وكورما وتارنى ومن قبلها هجومهم على كبكابية والهجوم الأخير على كتم, بل ويتمركزون اليوم على مقربة من مدينة الفاشر ذاتها إستعداداً للهجوم عليها بالرغم من وجود أكبر قيادة عسكرية بغرب البلاد فيها, كما تمَّ إدخال ممارسات لا إنسانية بشعة فى مسلسل المآسى متمثلةً فى جرائم الحرب كالإغتصاب وإختطاف الأطفال, خاصة البنات فوق سن العاشرة, وقتل الأطفال الذكور, ولذلك فمن لم يمت جراء تلك الهجمات المنظمة والمتواترة هلك نتيجة الجوع والعطش والمرض والمسغبة.
هذا هو الحال فى دارفور اليوم, تخلى الدولة تماماً عن واجباتها المفروضة عليها شرعاً فى حفظ النسل وصيانة النفس والدفاع عن الأرض والعرض, فتحولت نفسها إلى وحش كاسر مفترس, لكن ضد من؟ فهؤلاء القرويون العزل لم يعادوا أحداً ولم يبادروا بالإعتداء على أحد وظلوا كل حياتهم يعيشون هناك بعيداً فى الهامش, بل إنَّ بعضهم لم ير شرطياً أو مسئولاً حكومياً فى حياته, ولم يتوقعوا يوماً أن يهجم عليهم من يروع أمنهم ويبدد شملهم, ولقد صاروا اليوم تحت رحمة ربهم وحده ليس لهم غيره من مجير أو عاصم, وبالرغم من أنَّ ما يجرى من جرائم قد صار حديث العالم ووكالات الأنباء إلاَّ أنَّ مسئولى الحكومة يستنكرون ذلك فى لؤم ويغضبون من سماعها, وتظل وكالاتها وأجهزتها الإعلامية تنتقد ذلك وتحاول تفنيدها بمكر, بل وتتطاول بعجرفة لتطلب من هذه الأجهزة العالمية سحب تصريحاتها وبياناتها بخصوص ما يجرى من كوارث, لكن الحقيقة تظل دوماً ناصعة ويظل الحق دائماً أبلج, والناس فى دارفور يتعلقون بقشة الحياة لحظة بلحظة والمواطنون فى كل أنحاء البلاد وحول العالم يتابعون ما يجرى بقلق مريع, وكذلك المجتمع الدولى, وتظل حكومة جمهورية السودان هى الوحيدة التى تمثل الإستثناء ولكن إلى متى؟
كيف سنبنى وطناً يتعايش فيه الجميع سواسية تحت مثل هذه الأوضاع الشائنة؟ وكيف سيفهم هؤلاء البؤساء الذين نجوا من أن يكونوا مجرد أرقام فى قوائم الموتى أنَّهم مواطنون فى دولة ذات كيان وسيادة؟ وعلى أى أسس من المواطنة والولاء سينشأ هؤلاء الملايين من الأجيال الصاعدة وهم يرون بعيونهم البريئة أنَّ ديارهم تُحرق وتُهد فوق رؤوسهم وأنَّ أهليهم يقتلون ويسحلون بذات قوى الدولة المناط بها حمايتهم والمحافظة على أمنهم فى المقام الأول؟ أوليس ذلك واجبهم ومهنتهم التى يرتزقون منها ويعيشون عليها؟ ولماذا يحدث لهم ذلك بالأصل؟ المهم إنَّ ما يحدث فى دارفور اليوم وما حدث خلال قرابة المائة سنة الماضية يستدعىالمراجعة وضرورة "إعادة التفاوض" لتقويم وضعها ضمن هيكل الدولة السودانية, وهو وضع شائن وبئيس, وإنَّ الأوان قد آن لإعادة ترتيب تلك العلاقة والتى نشأ معوَّجاً, وظلَّ معوَّجاً, ولا يمكن أن يمضى معوَّجاً هكذا إلى الأبد كما يريد بعضهم, وما يحدث اليوم ليس بشيئ عارض بل له جذور وقيعان وقمم وسفوح وواقع معاش وآثار لاحقة وقد حان الوقت لسبر كل ذلك.
خصوصية دارفور:
أهل دارفور هم ملح المجتمع السودانى وغالبية تركيب سكانه, ولا نبالغ كثيراً إن قلنا أنَّهم موجودون فى كل بقاع السودان, لا كعابرى طرق أو مقيمين مؤقتين, بل كسكان أصليين, إكتسبوا حقوق المواطنة الكاملة والإقامة فى مختلف أماكن سكناهم بطرق قانونية ومشروعة سواء أكان ذلك عن طريق الولادة, أو الإقامة, أو العمالة المهنية الدائمة, أو الموالاة الدينية, أو أثناء الهجرة إلى الحج, أو النزوح الإضطرارى, أو عبر القوة العسكرية الطاردة, أو حتى التهجير القسرى بواسطة الإستعمارين التركى والإنجليزى. ولذلك فإنَّ ما يحدث فيها اليوم ليس بشيئ خاص بها أو بمجموعات من قاطنيها وإنما تتراوح صداها بين أكثرية السودانيين لكونها تخاطب مناطق وعى وغير وعى فى وجدانهم الكامن وشعورهم الجمعى فتنعكس فى شكل مفاهيم وردود أفعال متباينة تمثل فى نهاية المطاف دلالات هامة على المستوين الإجتماعى والوطنى وفى مجالات كثيرة, وهى بذلك مجتمعة تتوشح الرداء القومى, وتحتفظ بخصوصيتها فى ذات الوقت, وما يدور فيها اليوم من تطورات ليس بمعزل عن كل ذلك.
وتتجلى خصوصية دارفور فى حقيقة كونها ظلَّت تمثل كياناً ثابتاً طوال تاريخها والتى سبقت ميلاد الدولة السودانية الحديثة بقرون عديدة ولم تصبح جزءاً من دولة السودان إلاَّ بالإحتلال الغاشم والقوة العسكرية المسلَّحة, وقد تمكنت عبر سلسلة من السلطنات التى حكمتها من بناء علاقات ومبادلات بدرجات مختلفة مع كيانات العالم الخارجى الحاكمة آنذاك مثل الحلف الدفاعى العسكرى بينها وبين سلطنة ودَّاى ضد الوجود التركى فى كردفان, والمراسلات مع فرنسا ممثلة فى نابليون بونابرت, والمناكفات مع مصر محمد على باشا, و الموالاة مع الخلافة العثمانية فى الإستانة, والهدايا والعطايا لشريف مكّة الحسين بن عليّ بالحجاز, والصداقة مع الشيخ محمد بن على السنوسى شيخ الطريقة السنوسية بليبيا وغيرها من المداخلات الأخرى مع دول غرب وشمال أفريقيا ووسط السودان النيلى .
بجانب هذه الخصوصيات التاريخية فإنَّ تميز الإقليم بمناخات متدرجة من الصحراء القاحلة فى الشمال إلى السافنا الغنية فى الجنوب وإلى ما يشبه مناخ البحر الأبيض المتوسط على سلسلة هضاب جبل مرة الساحرة جعلت منه منطقة جذب وإستقرار لمختلف القبائل, حيث إستجاب تنوع المناخات لطبيعة حياة كل قبيلة من زراعة أو رعى وإختلط كل ذلك لينعكس فى الثراء القبلى والتراث المتنوع وإنصهرت معظم تلك المجموعات ذات الخلفيات الإثنية المتباينة فى بوتقة المدن والبلدات الكبرى لتنتج نموذجاً فريداً من التلاقح العرقى والثقافى تتميز بها نكهة مجتمعات هذه المدن خصوصاً مدينة الفاشر الحاضرة التاريخية للإقليم.
وتشير حقائق جغرافية أفريقيا القديمة إلى موقع دارفور المفصلى فى حركة القوافل التجارية عبر المحور الأوسط والشمالى من القارة الأفريقية, فدرب الأربعين مثلاً, والذى كان ينطلق من كوبى والفاشر إلى أسيوط فى صعيد مصر ثمَّ يتابع درب النيل إلى القاهرة, قد تم تصنيفه من قبل المؤرخين والرحالة الأجانب كأحد أهمَّ خمس طرق عابرة (Highway) للقوافل فى أفريقيا القديمة ولقد لعب ذلك الطريق دوراً كبيراً فى تطوير علاقات دارفور التجارية والسياسية والعلمية والثقافية مع العديد من دول العالم, وبجانب ذلك تظل دارفور حالياً بالنسبة للدولة السودانية تلعب حلقة الربط ليس فقط بينها وبين ثلاثة دول من جهتها الغربية بل ومع دول غرب القارة الأفريقية إجمالاً, وقد سبق أن تحدث رئيس دولة النيجر فى زيارة له للسودان قبل سنوات قليلة عن إمكانية ربط بلاده المقفولة بحرياً بميناء بورتسودان عبر الطريق القارى الأفريقى العابر من مقديشو إلى داكار, حسب خطة الإتحاد الأفريقى لتنمية أفريقيا, والذى يمثل طريق الإنقاذ الغربى المقترح جزءاً منه.
مشروعية "إعادة التفاوض":
بناءاً على تلك الدلالات وغيرها من خصوصيات دارفور التاريخية والثقافية المتعددة فإنَّ قضية ضمِّها إلى دولة السودان يجب التوقف عندها لدواعى موضوعية ربما يثير بعض تساؤلات مشروعة ذات علاقة بالقانون الدولى وما يتعلق بذلك من مسائل سيادة الدول وإستقلاليتها. لقد ضُمَّت دارفور إلى السودان فى مرحلتين أولاهما إلى دولة الحكم التركى المصرى عام 1874م بواسطة الزبير باشا ودرحمة ولم يمكث الأتراك بها إلا بضع سنوات قلقة حلَّت محلهم دولة المهدية, لكنَّ السلطنة تمكنت من إستعادة إستقلالها عشية إنهيار دولة المهدويين عام 1898م, وثانيهما ضمَّها القسرى إلى دولة الحكم الإنجليزى المصرى عام 1916م بواسطة القائد الإنجليزى هدلستون قبل أن يصدر من بريطانيا قرار ضمها رسمياً إلى دولة السودان الإنجليزى المصرى فى الأول من يناير 1917م ملغية وجودها ككيان مستقل لتصبح المديرية التاسعة فى السودان فيما بعد, هذا الضم القسرى الثانى هو ما يجب الإهتمام به من النواحى القانونية على الأقل, وقد تستدعى الإشارة إلى ذلك من عدة جوانب وما قد يرتبط بها من قضايا مستقبلية, نوجزها فى النقاط التالية:
أولاً: تمَّ الإستيلاء على سلطنة دارفور بالقوة الجبرية تبعها ضمَّها لدولة السودان الإنجليزى المصرى ضمَّاً قسرياً منهية وجودها ككيان مستقل, وقد تمَّ ذلك فى سياق مؤتمر برلين (84-1985م) بين القوى الأوربية حيث أعطوا أنفسهم الحق للتكالب على أفريقيا والسيطرة عليها مما أدى إلى نشوب التنافس الأوروبى على الفوز بمناطق نفوذ فيها ومن بينها سودان المهدية ودارفور, فبإقتراح من البرتغال عام 1884م دعا المستشار الألمانى بسمارك الدول الأوربية المتنفذة يومها لمحادثات لحسم الخلافات الناشبة بينهم حول السيطرة على أفريقيا, وقد كان ثمانين فى المائة من مساحة القارة الأفريقية وقتئذ مستقلةً تخضع لحكم الأنظمة التقليدية المحلية فى حدود سياسية معروفة فيما بينها قسمتها إلى حولى خمسين دولة وشبه دولة حول القارة تستوعب أكثر من ألف من القبائل والثقافات المحلية التى لم تكن منسجمة مع بعضها فى غالب الأحيان, على هذه الخلفية إجتمع سفراء 14 دولة أوربية فى برلين فى يوم 15 نوفمبر 1884م يمثلون النمسا/المجر, بلجيكا, الدنمارك, فرنسا, ألمانيا, بريطانيا العظمى, إيطاليا, هولندا, البرتغال, روسيا, إسبانيا, السويد/النرويج (اللتان كانتا متحدتين فى الفترة 1814-1905م), تركيا والولايات المتحدة الأمريكية, ولقد كانت فرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى والبرتغال اللاعبين الكبار وكانوا يسيطرون بالفعل على أجزاء واسعة من القارة الأفريقية, ورغم إستمرار ذلك المؤتمر حتى 26 فبراير 1885م إلاَّ أنَّه إنتهى دون التمكن من حل الخلافات القائمة والتى من أجلها تمت الدعوة للإجتماع, فإندفعت بعض هذه الدول فى محاولة للسيطرة على أكبر حصة من القارة متجاوزة الحدود السياسية للكيانات القائمة ودونما إعتبار للفوارق اللغوية والثقافية المتوطنة بين تلك المجتمعات الشيئ الذى أدخلتها فى نزاعات فيما بينها, لكن بحلول عام 1914م تمكنت هذه القوى الأوربية من إكمال سيطرتها على أفريقيا فحققت بريطانيا العظمى هدفها فى مد مستعمراتها من القاهرة إلى الكاب, ومن بينها السودان الإنجليزى المصرى, وخلقت لها مواطئ قدم فى ساحل الذهب غرب القارة متمثلة فى سيطرتها على دولتى نيجيريا وغانا, كما سيطرت فرنسا على معظم غربى القارة, وفازت البرتغال بموزامبيق على الساحل الشرقى وأنجولا على الساحل الغربى, وإبتلعت بلجيكا حوض الكونغو, بينما قنعت إيطاليا بالصومال وأجزاء من إثيوبيا, وحصلت ألمانيا على ناميبيا وتنزانيا. وبالنسبة لدارفور فقد بدأ النزاع حولها منذ العام 1910م من خلال محاولة الفرنسين التقدم غرباً نحو حوض النيل قبل أن تتمكن سلطنة دار المساليت من وقف زحفهم فإستقرت الأوضاع على ما نعرفه اليوم من الحدود السودانية التشادية, ونسبة لشكوك بريطانيا من نوايا الفرنسيين التوسعية شرقاً, ومن خلال إصطدامهم فى نقطة فاشودة العسكرية, فقد آثروا تأمين الحدود الغربية من إمبراطوريتهم الجديدة بالإستيلاء على سلطنة دارفور وضمِّها بصورة رسمية كجزء من أملاكها حتى لا يفكر الفرنسيون فى معاودة محاولاتهم مرة أخرى وعلى هذه الخلفية تمَّ إنهاء السلطنة. لكنَّ الشاهد فى الأمر أن كل الدول الأفريقية التى سقطت تحت الإحتلال الإستعمارى الأوروبى فى تلك الفترة قد نالت إستقلالها السياسى الواحدة تلو الأخرى فى مرحلة التحرر الوطنى فى الخمسينات والستينات من القرن الماضى وإستعادت كياناتها السياسية والإجتماعية مثلما كانت فى ماضيها قبل قدوم المستعمر.
ثانياً: لقد تمَّ ضم دارفور إلى السودان دون إستشارة أهلها أو حتى تمثيلهم أو أخذ رأيهم فيما حدث أو ما سيحدث لهم, أى أنَّها ضُمَّت بمن فيها وما فيها دون إعتبار لكيانهم, وقد تواصلت نفس تلك السياسات بعد إستقلال البلاد بالرغم من المشاركة الفاعلة لأهل الإقليم فى إنجاز مشروع الإستقلال.
ثالثاً: على المستوى العالمى, وفيما يختص بالدول التى تم الإستيلاء عليها بواسطة دول أخرى وضمَّها بطرق قسرية ملغيةً وجودها ككيانات قائمة, نجد أن القانون الدولى قد إحتفظ لها بحق تقرير المصير, وفى أفريقيا أمثلة حيَّة لذلك متمثلة فى إرتريا وتقرير مصيرها عن إثيوبيا, وناميبيا وتقرير مصيرها عن جنوب أفريقيا, وما زالت مشكلة الصحراء الغربية فى نزاعها مع المغرب معلقةً فى دهاليز الأمم المتحدة. من ناحية أخرى نجد أنَّ دولة الإتحاد السوفيتى السابق تمثل حالة بأكملها فى هذا الجانب, فقد كانت تلك الدولة تتكون من 15 جمهورية إتحادية ظلت تعرف بالجمهوريات السوفيتية أكبرها جمهورية روسيا والتى كانت تمثل 75% من مساحة الدولة آنذاك والأهم تأثيراً على مجرياتها, وبجانب تلك الجمهوريات توجد أيضاً حوالى 130 من المقاطعات والكايتونات تضم قوميات صغيرة متعددة داخل جسم تلك الدولة الهائلة وتتمتع بقدر من الحكم الذاتى مراعاة لخصوصياتها المحلية, ما يهمنا هنا هو أنَّ تلك الجمهوريات السوفيتية كانت تمثل بالأساس قوميات مختلفة ففى الجانب الأوربى من دولة الإتحاد السوفيتى كانت هناك جمهوريات ليثوانيا, لاتفيا, إستونيا, بيلاروسيا, أوكرانيا ومالدوفيا, وتضم منطقة القوقاز جمهوريات جورجيا, آذربيجان, وأرمينيا, أما منطقة الوسط الآسيوى فضمَّت جمهوريات كل من كازخستان, أوزبكستان, توركمستان, قرقيزتان وطاجيكستان. المهم فى الأمر أن معظم هذه الجمهوريات كانت مستقلة ومعترفة بها عالمياً ككيانات قائمة قبل أن تستولى عليها الدولة الروسية فى الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية (1917-1940م) وتضمها قسراً إلى حدودها فى تحد صارخ لإستقلاليتها وخصائصها الذاتية وكينوناتها القومية, بل وحاولت جاهدة إذابتها فى القومية الروسية وفرض اللغة الروسية عليها كلغة رسمية لكل الدولة, وفى سبيل تحقيق ذلك إستخدم الجيش الأحمر الروسى أشدَّ أصناف العذاب ضد الوطنيين من أبناء تلك الجمهوريات وبالغت فى تصفيتهم جسدياً ونفيهم إلى أصقاع سايبيريا الباردة ليموتوا من القهر والجوع والمرض, وقد إستمرت سياسات البطش تلك حتى خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتكوين حلف وارسو فنجد أن دولة الإتحاد السوفيتى لم تتردد مطلقاً فى التدخل العسكرى لحسم مظاهر التوتر والتذمر ضدها فى دول الحلف فإستخدمت الجيش الأحمر لإجتياح دولة المجر عام 1958م, ودولة تشيكوسلافيا عام 1968م, ثم تدخلت فى أفغانستان عام 1980م وكانت بداية إنهيارها كقوة عظمى. إنَّ الشاهد فى إنهيار دولة الإتحاد السوفيتى بدءاً من عام 1989م هو حصول معظم تلك الجمهوريات المقهورة والمكونة لها على إستقلالها سريعاً وبموافقة صريحة من الجمهورية الروسية نفسها التى ورثت الدولة الكبرى الزائلة وكل المزايا العالمية التى كانت تتمتع بها, ولم تغب شمس العام 1990م إلاَّ وصارت كل من تلك الجمهوريات متمتعة بإستقلالها السياسى. عطفاً على هذه النظرة من خلال نافذة القانون الدولى نجد أنَّ دارفور قد لا تختلف فى أمرها كثيراً عن ذات هذه الدول.
رابعاً: بناءاً على هذه الخلفية يمكننا أن نقرر أنَّه إذا كان هناك إقليم واحد فى السودان يستأهل التمتع بحق تقرير المصير فهو إقليم دارفور! ومع إحترامنا للإخوة فى جنوب السودان إلاَّ أنَّنا نظن بأنًّ ما حصلوا عليه من حق لتقرير مصيرهم السياسى يفتقد السند الصريح فى لوائح القانون الدولى, وإنَّ هذا الحق ما حصلوا عليه إلاَّ نتيجة لحالة "الإرهاق" وسؤ تقديرات الحكومة السودانية وسياساتها العرجاء الممعنة فى إلغاء الآخر, ومحاولة صياغة الدولة قسراً على رؤى أحادية التوجه تماماً كما حدث فى الإتحاد السوفيتى, الشيئ الذى تولد عنه إحتقان إجتماعى وشعور الكثيرون بالغبن وبأنَّهم صاروا مواطنين من الدرجات الدنيا لا يحق لهم التمتع بخيرات بلدهم ولا يحلمون أبداً بأن يتسنموا يوماً مناصب الحكام, طالما أن تلك المناصب قد تم تفصيلها بمقاسات محددة كحق خاص لجماعات بعينها ولذلك كان هذا التذمر والإنفراط, وقد يكون من ضمن السياسات الهادفة للجماعات المسيطرة على مقدرات البلاد طرد الجنوبيين من السودان وفصلهم فى دولة مستقلة, بل وتنادوا بذلك علناً وفى وسائل الإعلام القومية, حتى لا "يخرِّبوا" عليهم الترتيبات والمصالح الخاصة بهم, لكن يبدو أنَّ الأقدار قد شاءت أن يأتى ذلك "التخريب" من حيث لم يحتسبوا فهدمتها على رؤوسهم ولذلك كان هذا القتل الوحشى والتدمير الإنتقامى فى دارفور, ولعلَّ ذلك يثبت ما عبرنا عنه قبلاً من أنَّه لا توجد مواقف قومية حاسمة فى تاريخ السودان منذ ضمِّ دارفور إليها إلاَّ وتجدها ركيزةً أساسيةً فيها, ومن خلال هذا الإرث تستمد دورها المتوقع دائماً فى إعادة تأهيل مسار هذا الوطن.
خامساً: برغم الإجحاف التاريخى بحق أهل دارفور إلاَّ أنَّهم ظلوا ملتزمين بالأوضاع الجديدة التى حاق بهم فى إطار الدولة السودانية فى فترتى الإستعمار والإستقلال, بل وأظهروا إلتزاماً قوياً بوحدة الوطن وبنائها متستصحبين تراثهم الهائل فى ثقافة الحكم والدولة والإلتزام بمبادئ المواطنة والتجرد فوضعوه فى خدمة السودان الدولة منذ لحظة ضمَّهم إليها. ولذلك فقد عكس سلوكهم وممارساتهم الوطنية درجة عالية من الإلتزام أكدت بأنَّهم ليسوا بإنفصاليين, ولا بعنصريين, ولم يفكروا أبداً فى الإنفصال عن السودان أو المطالبة بتقرير المصير, وسيظل ذلك قدرهم إستناداً على إيمانهم المطلق بوحدة تراب الوطن ووحدة مكونات شعبه, وإنَّ ما ورد أعلاه من نقاط لا يعدو أن يكون تعبيراً عن واقع تاريخى كان يمكن أن يأخذ أتجاهات مغايرة حسب أهواء السياسة الدولية التى حكمت مسار إقليم دارفور والدولة السودانية إجمالاً منذ فترة التكالب الإستعمارى على أفريقيا وما أعقبها من تطورات وسياسات, لكنَّا نعتقد بأنَّه قد آن الأوان لمراجعة كل ذلك فى إطار وحدة السودان وضمن سياق المرحلة القادمة وبناء السودان الجديد والتصدى لإشكاليات معقدة مثل قضايا الهوية والثقافة وتوزيع الثروة والمشاركة المنصفة فى أوعية السلطة والأجهزة العليا فى الدولة, أى "إعادة التفاوض".
سادساً: بناءاً على هذه الخلفية, وعلى ما هو ماثل أمامنا الآن على أرض الواقع فى دارفور, يجب أن تتم مراجعة شاملة لعلاقة دارفور بدولة السودان وتحديد موازين جديدة على أسس مغايرة عمَّا كان سائداً فى الماضى تتضمن إعترافاً بخصوصياتها وحقوقها التاريخية ووضعها المستقبلى فى إطار القومية السودانية, لقد أشرنا أعلاه لنظرية الدكتور عبد الله علي إبراهيم فى حواره مع صحيفة الرأى العام عن مبدأ "إعادة التفاوض" لتشكيل منطقى للدولة السودانية وضرورة "إجراء المساومة التاريخية حول الوطن كضرورة حتمية", ولأهمية ذلك الحوار نورد هنا مقتطفات هامة منه كونه يعبر تماماً عن أزمة السودان حيال نفسه ويتقاطع فى نفس الوقت مع جذور أزمة دارفور بجلاء فاضح, فقد ذكر أنَّ السودان لم يبدأ مرحلة إعادة ذلك التفاوض بعد وأنَّ الخيال الوطنى المحدود عجز عن إستيعاب نداءات التباين الثقافى والتعدد العرقى, وأنَّ دولة السودان القائمة حالياً لا تعدو أن تكون دولة إستعمارية فى تركيبتها وعقليتها الباطنة, وأنَّ السودان لا يزال محكوماً بدولة الرعايا, وأنَّه لا مخرج من الأزمة إلاَّ بإجراء المساومة التاريخية. ويمضى فيقول أننا إذا أرجعنا الامر إلى بدايته فإنَّ الدولة التى ورثناها عن الإستعمار لم تحدث لها أية مراجعة وظلت محافظة على عقليتها الباطنة القائمة على إدارة وتقاليد وصفوة أجنبية وهى بالطبع صفوة خائفة ومعزولة ومنقطعة وتؤمن نفسها بإمتيازات، ولذلك فقد عجزوا عن مجابهة القضايا والتى تفاقمت بمرور الأيام وتراكم السنوات, فالجنوبيون كانت شروطهم بالإستقلال أن تتم مفاوضة تحت مسمى الفيدرالية أو غيرها من المسميات ولم يوافقوا أصلاً أن يكونوا جزءاً من السودان القديم، وإنَّما كان مطلبهم أن يتم إستيعابهم على أساس خصائصهم، ومثل الجنوبيون سرعان ما خرجت جماعات أخرى مثل إتحاد البجا فى الفترة 57-1959م, وتلا ذلك جبهة نهضة دارفور ومنظمة سونى - وفى الخرطوم ظهر ما يسمى بالحبة الزرقاء (الرقيق السابقين) ونشأت منظمات تتحدث عن سودان آخر, ولذلك فإن الدعوة هى دعوة لإعادة التفاوض وهى قضية كان ينبغى أن يفرغ السودان منها منذ العام 1956م لكن الحكومات فى الحقب المختلفة والصفوة والأحزاب ظلت تبتعد عن المهمة. ويتابع الدكتور عبد الله فيقول إنَّ الحركة الوطنية هى التى ورثت الدولة الإستعمارية ومن ثم تحركت الصفوة فى مدارات ثقافية وعرقية جعلتها مسدودة ولعل أبلغ عبارة يمكن أن ندلل بها على هذا الواقع ما ذكره باحث عن السودان إذ يقول (إن الصفوة ورثت الوطن الأرض كلها لكنها تعاملت مع الوطن العريض بثقافة محدودة) وهذا ما نعبر عنه دائماً (بأمة أصلها للعرب ودينها خير دين يُحَب), هذه هى المعانى التى تجمعت وتحددت، ولم يكن هناك مهرب ونتيجة لذلك فقد غيبت أقاليم بأكملها، فالجنوب لم يكن يلتفت إليه والحركة الوطنية لا تعيره نظرة إلاَّ بمقدار أنَّ هناك مؤامرة إستعمارية يجب أن تتوقف، هذا الخيال المحدود هو الذى ورث الوطن ومن بعد بدأ يعد للعملية السياسية- هذا الخيال المحدود رفض أن يستوعب الدعوات والنداءات للتباين الثقافى والتعدد العرقى ولذلك فإنَّ الحركة الوطنية سرعان ما نمت وخبت وسرعان ما تلفحت بعباءة الطائفية. ويتابع فيقول إنَّ الحركة الإسلامية ورثت الحركة الوطنية فى أشكالها الجنينية وفى خيالها الأول البرئ بدعواها القائمة على العروبة والإسلام وأصبحت المعبرة عنها ولاتزال حتى اليوم تدافع عن ما تسميه بالثوابت, وهى ذات ثوابت الحركة الوطنية الأساسية "العروبة والإسلام", وتمدد هذا على مستوى جهاز الدولة والوطن - ولعل هذا هو الذى ظل مانعاً وحائلاً أمام فكرة إعادة التفاوض, وبسبب الإعتصام بهذه الفكرة تظل قضايا مثل الشريعة - العاصمة، قضايا معقدة ومفصلية وغير قابلة للحل بكفاءة ورشد، ذلك أنَّ الخيال الأساسى لهذا الوطن إنَّما إنبنى على الفكرة الوطنية وهى فكرة تنهض على إستئثار مجموعة بالحكم صورتها عن نفسها هى صورة الحاكم! ولا يتوفر لديها الإستعداد لملاقاة الآخرين فى منتصف الطريق, كما تختلط فيها الهوية بالمطامع وإقتسام المناصب! ولعل هذا ما يفسر أنَّ الحركة الإسلامية لا يمكن أن تقبل حتى تصوراً أن يتولى رئاسة الجمهورية فرد غير مسلم. ويختتم الدكتور عبدالله على إبراهيم حديثه متسائلاً عن ما هو الإرث الثقيل الذى ينبغى علينا جميعاً أن نجابهه؟ ويجاوب على ذلك بنفسه فيقول بأنَّه يجب علينا أن نتحمل عبء المساومة التاريخية وأن نواجه قضايانا وأن نحدد موضوعات التفاوض, كذلك يجب أن يوجه النقد للفكرة الوطنية، وألاَّ نتصور أنَّها فكرة إيجابية بإطلاق وأن نتحرر من أسرها، ولذلك بدلاً من التباكى علينا أن نوجه النقد لفكرة الوطنية لنتعرف على من أعمانا من النظر للتعقيد, فالفكرة الوطنية قامت على فكرة البوتقة وحشر الناس بالقوة, ولكننا فشلنا فى إجراء المساومة التاريخية وهذا مادفع السودان ثمنه باهظاً من عمليات عنف وعنف مضاد (الرأى العام 8/5/2003م). تلك نظرة ثاقبة وضعت أصبعها على الجرح, وبدورنا نؤكد على ذلك, ونؤمن عليه, بل وندعو بأن يتم ذلك أيضاً بشأن ملف دارفور فى سياق التغيير المرتقب خلال الفترة القادمة كعملية لا بد منها حتى يستقيم أمرها فى الموازين القومية للدولة السودانية.
سابعاً: مشروع "إعادة التفاوض" حول وضع دارفور الوطنى والدستورى فى إطار الدولة السودانية القادمة يجب أن يستند على إطار فكرى إستراتيجى ووعى عميق لمقابلة الفكر الإستراتيجى للطرف الآخر المهيمن على مقدرات الأمة والذى بدأ فى لملمة نفسه وتنظيمه بدرجة عالية من الدقة وتحريكه للإمساك بالمفاصل الأساسية لأى ترتيبات فى الحكم وإدارة دفة البلاد فى المرحلة القادمة بعد إكمال ترتيبات إتفاقية السلام, إنَّ السيطرة على كل مراكز السلطة القوية, ووسائط الإعلام, ومنافذ الإقتصاد والبنوك, وفرض النظام البنكى الإسلامى لدعم مصالح وإثراء شريحة منتفعة, وخصخصة التعليم والعلاج لعزل وإهلاك الطبقات الفقيرة من أبناء مناطق الهامش, والسيطرة على وزارة البترول من الخفير إلى الوزير والتوظيف فيها على أساس القبيلة, وتحويل الجيش إلى قوة غاشمة لإذلال الشعب وإبادة أبناء المناطق المعزولة كلها سياسات يجب مناهضتها بالفكر والنشاط العقلانى, ولذلك فإنَّ مجابهة الفكر الآخر تحتاج أول ما تحتاج إلى فكر مماثل له أو متفوق عليه فى القدرة والكفاءة وليس من الضرورى أن يكون مضاداً له فى الإتجاه طالما أنَّ الهدف هو بناء دولة فى مناخ صحى معافى.
ثامناً: من كل ذلك يجدر بنا أن نصل إلى خلاصة منطقية هى أنَّ حل قضية دارفور لا ولن يمكن أن يتم من خلال برنامج تبسيطى يعتمد بناء طريق أو طريقين أو إنشاء مدرسة أو مدرستين أو حفر عدد من آبار المياه كما يعتقد الواهمون قصيرى النظر, إنَّما تتعدى المسألة إلى سبر آفاق واسعة ورحبة أقلَّها الحكم الذاتى الموسَّع وتمكين الإقليم من التمتع بخيراته ومصادره الطبيعية وبناء علاقاته الخارجية والتجارية الممتدة, فهو يجاور ثلاثة دول وعلى صلة تاريخية بمصر, وإثراء ثقافات أهله وبعث تراث القبائل المتنوع والمغمور فى كل الجوانب, وتنشيط مجالات دراسة تاريخه والتنقيب عن آثاره, وتطوير مناهجه التعليمية وبناء جامعاته ومراكزه البحثية المتخصصة, وتأهيل مشروعاته الخدمية والتنموية, بالإضافة إلى نيل حقوقه المشروعة وطنياً ودستورياً فى نطاق الدولة مع إستحقاق أبنائه فى إدارة دفة الحكم وعلى كل المستويات, خاصة منصب رئاسة الجمهورية والوزارات السيادية النافذة, والتى ظلَّت حكراً لجماعات محددة منذ إستقلال السودان.
تاسعاًً: طرح وترتيب الجوانب الفكرية والإستراتيجية لمشروع "دارفور الجديدة" يجب أن يتحصن ضد آفات السياسة السودانية, وهى أفات كثيرة وخبيثة, خاصة ضد ما ظللنا نطلق عليه زوراً وبهتاناً الأحزاب القومية والتى تحولت كآليات لإمعان السيطرة على مناطق الهامش, فهى بالنسبة لدارفور بيت الداء وسبب الكوارث التى تعصف بها, ولذلك فإنَّ الأطر الفكرية التى تنبع من أهل الإقليم ومثقفيهم تحتاج بالمقابل إلى أطر سياسية لحملها وتطويرها والتبشير بها والدفاع عنها وتطبيقها لصالح أهل الإقليم والسودان أجمع. ولكى نكون واضحين دون لبس أو دوران يجب أن نشير وبصريح العبارة إلى أنَّ هذه الأطر السياسية إنَّما نعنى بها تحديداً ضرورة قيام "حزب سياسى"!, والطرح هنا منطقى وموضوعى فما من حركة تحرير عسكرية قامت فى أى بقعة فى العالم وإنتصرت لإرادة شعبها إلاَّ وتحولت لحركة سياسية أو حزب سياسى تقودهم فى مرحلة البناء الوطنى, وما مآلات الحركة الشعبية لتحرير السودان وتحركاتها الماثلة أمامنا الآن إلاَّ شاهداً على ذلك, وما مآلات الحركة المسلَّحة بدارفور إلاََّ متنكباً لتلك الخطى وقع الحافر على الحافر. ولأهمية هذا الموضوع سنعود إليه بشيئ من التفصيل فى المستقبل القريب بإذن الله.
عاشراً: تأطير الجوانب الفكرية الإستراتيجية وتكييف الحركة السياسية تحتاج أول ما تحتاج لترتيب بيت دارفور من الداخل ولملمة أطراف مجتمعه ومن هنا يأتى الحذر ويتمثل مكمن الخطر, فالجماعات التى هيمنت على مقدرات البلاد ومنعت "إعادة التفاوض" سوف لن تسعد بأى حال أن ترى دارفور طليقة حرة ترتع فى رعاها, وها هم الآن يتكالبون عليها لإعادتها إلى عقالها. لمجابهة هذه المعضلة وتجاوزها لصالح الإقليم يجب العمل الفورى والمخلص لتوحيد أبنائه ونشر ثقافة التجرد والإلتزام التام بقضاياه, والحاجة هنا تدعو أيضاً إلى قيام جهد فكرى مميز ومرن, كما إنَّه يجدر ببعض المجموعات من أهل الإقليم مراجعة مواقفهم السابقة, ونقولها بصريح العبارة إنَّ على إخواننا من أبناء وأهل بعض القبائل العربية ضرورة القيام بعمل إيجابى يصب فى هذا الإتجاه, لقد أشار الأخ أبوبكر القاضي إلى هذه النقطة تحديداً فى مقال له نشر بموقع سودانايل بعنوان "ألحقوا كردفان قبل فوات الأوان" عن مذكرة أبناء كردفان الأخيرة إلى الحكومة السودانية, بشأن مطالبهم المنطقية فى الثروة والسلطة وحقوقهم فى منطقة أبيى, حيث أورد جملة من آثار تلك المذكرة على الأوضاع في دارفور نذكر منها: "إنَّ أسعد الناس بمذكرة كردفان هم حملة السلاح في دارفور من أبناء «الزرقة» وذلك للأسباب التالية: 1 ـ مذكرة أبناء كردفان وهم عرب مثل عرب دارفور, وأكثر قرباً من عرب دارفور للمركز, تشكل تعزيزا قوياً لحملة السلاح في دارفور, إذ هي رسالة صريحة لعرب دارفور للإنتباه إلى مشاكلهم ضد المركز وهذا يقتضي التعاون بينهم وبين الفور والزغاوة وبقية القبائل الزنجية التي حملت السلاح سلفاً, وتؤكد الإستلاب الذي وقع فيه عرب دارفور الذين إستغلتهم الحكومة المركزية في معركتها ضد إخوانهم من أبناء الهامش في دارفور, 2 ـ مذكرة أبناء كردفان المطلبية التي تطالب بالعدل والمساواة في قسمة السلطة والثروة تؤكد عدالة قضية أبناء دارفور الذين تصفهم الحكومة المركزية باللصوص وقطاع الطرق" .. ألخ (سودانايل 12/2/2004م). وبالرغم من أننا لا نشمل كل عرب دارفور فى ذلك إلاَّ إنَّه مما يسعدنا ويثلج صدورنا فى هذا المجال هو أنَّ الكثير من تلك القبائل قد أحجمت عن متابعة الحكومة فى ضلالها, بل إنَّ قبيلة معينة رفضت رشوة مقدارها 17 مليار جنيه لتجييش أبناءها لقتال الثوار, ومع ذلك نود أن نرى تحركاً علنياً صريحاً فى إتجاه المصالحة بل والمبادرة بها خاصة من جانب المثقفين والنظار والشيوخ مع ضرورة لجم جماح بعض "أنصاف المتعلمين" من أبناء القبائل و"الحكامات" الذين ظلوا ينفخون فى نيران الفتنة العرقية خلال الفترة الماضية, ونتمنى أن تتمكن "رابطة دارفور العالمية" فى حال قيامها من التصدى الحاسم لمسألة وحدة أبناء الإقليم وبسط لواء التعايش السلمى ورتق الخروق القبلية بين كل مكونات وطوائف أهل دارفور دون حجز أو حجر على أحد فتلك من أهم مرتكزات قيامها ومحور إهتماماتها.
ختام:
يدور نقاش صاخب منذ فترة فى وسائل الإعلام السودانية حول ما يجرى فى مفاوضات السلام بكينيا, ويبدوأنَّ هناك شعور من بعض المحللين بأنَّ الحكومة قد تورطت فى مستنقع نيفاشا بينما يعتقد آخرون أنَّ السودان كله ومستقبل الوطن قد تورطا أسوة بحكومته, ولقد أشار بعضهم بأنَّ ما يتم فى المفاوضات الحالية ليس تقسيماً للسلطة أو الثروة وإنَّما تتعداها لتقسيم الوطن نفسه, وبدورنا نخشى أن تكون الأمور قد وصلت إلى هذا الدرك من الإنهيار, إنَّ المشكلة الأساسية والخطيرة هى أنَّ الحكومة ليست لها بوصلة تعينها فى تحديد إتجاه سيرها فتتمثل سياساتها غالباً فى ردود الأفعال, ونتيجة لذلك لا تخرج من مطب إلاَّ وتقع فى غيره, إنَّ وجود قوات عسكرية أجنبية بعشرات الألوف وبقرار من الأمم المتحدة بدعوى رعاية إتفاقية السلام, بجانب ورود بعض التلميحات حول إحتمال تولى حاكم العراق الحالى بريمر تنفيذ ذلك, سيضع السودان تحت رحمة الوصاية الدولية المباشرة وبيدنا فعلنا لا بيد عمرو. ومن المعروف أنَّه فى أوقات الأزمات التى تهدد أمن الدولة ووحدتها فإنَّها تسعى أول ما تسعى إلى تأمين جبهتها الداخلية وتجميع قدراتها المبعثرة لدرء الخطر, لكن حكومتنا الذكية آثرت أن تسبح عكس التيار مولدة المزيد من الضغوط والفتن التى تتجاوزها لتطعن فى روح وجود الوطن نفسه وهذه نتيجة طبيعية لرفض وإنكار "إعادة التفاوض".
بالنسبة لدارفور فإنَّ على أبنائها ومثقفيها النظر إلى المستقبل بالفكر والعزيمة والإستعداد له, فتلك معركة أخرى لا تقل أهمية فى عمقها عمَّا يحدث اليوم, وهى مرحلة الجهاد الأكبر, مرحلة البناء الداخلى والعمران والإنطلاق مسنوداً بوحدة أبناء الإقليم وأهله ومرتكزاً على وحدة الوطن وترابه وشعبه.