دارفور … وتهافت الحكومة والأحزاب السياسية على قصعتها
د. حسين أدم الحاج
7 January, 2009
7 January, 2009
helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
عادت دارفور, كما ظلت منذ إستقلال السودان, إلى سوق المكايدات والمزايدات السياسية, وبدأت قوى السودان القديم تتكالب عليها لإرجاعها لبيت الطاعة بعد أن فلتت من عقالها نتيجة لثورتها الناشبة الآن, وما الحراك السياسى والتناغم الذى يدور الآن بين حزب المؤتمر الوطنى من ناحية وجملة من الأحزاب السياسية الأخرى من ناحية ثانية إلاَّ مؤشرات واضحة فى ذلك الإتجاه, لكن واقع الحال وتبيان مسار الأمور تشير إلى عكس ذلك وتدل على أنَّ دارفور سوف لن تلتفت إلى الماضى, وإذا كان السودان الجديد قادم فإنَّ "دارفور الجديدة" قادمة أيضاً لكى تعدل من مسار الدولة السودانية المهترئ, وقد ظلت تفعل ذلك طوال تاريخها, وهى إن تفعل ذلك الآن فإنَّما تفعلها بعد أن دفعت مهرها غالياً من أرواح أبنائها ودمائهم, فالعشرات الألوف من الذين ذهبوا لربهم وهم فى قراهم وبواديهم دونما ذنب جنوه سوى أنهم على الطرف الآخر, والآلاف من القرى التى أزيلت بكاملها ثمَّ محاولة إفساد كل مقومات الحياة فيها بحيث تصعب العودة إليها مرة أخرى لإعمارها لا يمكن أن تمضى هكذا دونما عائد, ولقد صدق المناضل المصرى سعد زغلول حينما كتب وهو ما يزال تلميذاً فى مرحلة الصبا أنَّ للحروب فوائد مثلما للسلام أيضاً, إلاَّ أننا نصف ما حدث ويحدث اليوم فى دارفور بالثورة, لأن الثورة الجادة تأتى وفى أحشائها فكراً مغايراً وفلسفة جديدة تنبذ الكثير من المفاهيم القديمة وتبنى الجديدة على أسس مغايرة فى عملية أشبه بعملية الهدم والبناء كما يقول علماء الجيولوجيا.
تهافت المبادرات بشأن قضية دارفور:
فاجأ الرئيس عمر البشير الشعب السودانى فى أمسية التاسع من شهر فبراير 2004م ببيان أعلن فيه عن إنتهاء العمليات العسكرية بدارفور وأن القوات المسلحة تسيطر على مسارح العمليات وأنها مستعدة لردع كل من يردع أمن المواطنين, وأعلن أيضاً العفو العام عن كل من حمل السلاح وتسليم نفسه خلال شهر لأقرب مخفر شرطة وعلى وزارة العدل إتخاذ التدابير لضبط حيازة السلاح, كما أعلن عن تشكيل لجنة لإعادة بناء النسيج الإجتماعي بدارفور ودعا إلي مؤتمر جامع للتنمية والسلام وحيا جهود أبناء المنطقة الداعية للحوار وأشاد بموقف الرئيس التشادي إدريس دبي الساعي لحل مشكلة دارفور سلمياً. وجاء في البيان والذي تضمن تسع مواد منها معالجة أوضاع المتضررين، وفتح مسارات الإغاثة، وترتيب عودة النازحين بالتنسيق مع مفوضية اللاجئين وحكومة تشاد, كما أكد البشير في بيانه على توجيه الجيش وأجهزة الأمن لضبط حيازة السلاح وتكوين لجنة قومية للتعايش السلمي.
ومن غريب الصدف أن يعقد الصادق المهدى رئيس حزب الأمة مؤتمراً صحفياً وقبيل دقائق من بيان البشير, وكأنَّما كان هناك تنسيق مسبق فيما بينهما, ناشد فيه رئيس الجمهورية والحكومة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم بإعلان وقف فوري لإطلاق النار من جانب واحد لمدة 3 أشهر, وأعلان دارفور الكبري منطقة كوارث وتكوين هيئة قومية لإستقطاب الإغاثات الداخلية والخارجية لنجدة الإقليم وتكوين منبر سياسي جامع يضم المؤتمر الوطني الحاكم والأحزاب الممثلة في الجمعية التأسيسية لعام 1986م والحركة الشعبية وحركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة (حاملة السلاح بدارفور) وزعماء القبائل الكبرى وشخصيات من أبناء دارفور على أن يجري التشاور بشأن تكوين المنبر ويكتمل في ظرف أسبوعين, كما ودعا إلى تفويض المنبر لمناقشة قضايا الإقليم على أن ينجز مهامه في ظرف ثلاثة أشهر (صحيفة البيان الأماراتية 10/2/2004م), وأعلن التزام حزبه بالعمل للحصول على تجاوب كافة الأطراف المعنية مع هذا الإعلان في ظرف (72) ساعة من قبول الحكومة, وحذر من ان إستمرار أزمة دارفور سيفضي إلى إستقطاب إثني حاد يعم البلاد ويمزق كيانها الاجتماعي كما ويفضي إلي إنقسام الرأي العام حولها بما يهدد إتفاق السلام المرتقب ويفتح الباب للمزايدات غير المسئولة من أفراد وجماعات وتبرر التدخل الإجنبي, كما أوضح أن فرص نجاح هذا التحرك كبيرة لأسباب أهمها أن قبائل دارفور الكبري إتخذت مواقف متعلقة أزاء الأزمة بجانب إستعداد النظام للإعتراف بالرأي الآخر, وأضاف أن هناك ثلاثة عوامل برزت في كثير من مناطق السودان لاسيما في دارفور من بينها تفشي ثقافة العنف وألياته وإستعداد جهات اقليمية ولوبيات دولية لأحتضان أطراف نزاع سودانية لذلك فإن التصعيد الإمني والعسكري لا يمكن أن يحسم أزمة دارفور, وأكدَّ ان مبادرته لا يتعارض مع حواره مع الحكومة وأن الظروف تقتضي تحركاً إستثنائياً و أنه إذا ما رفضت الحكومة طلبه هذا فإن (لكل حادث حديث), وأن إستجابة الحكومة ستجد تأييداً واسعاً وإن العكس هو الصحيح وشدد بأن الحل العسكري لن يجدي لأن حملة السلاح لهم جيوب أخرى لذلك فإنهم لن يختفوا وحذر من أنهم ينظمون صفوفهم الآن ويعملون على توحيد رؤيتهم أزاء أزمة الإقليم!
وقد قام الصادق المهدى بحراك واسع لتسويق مبادرته فقد أوردت صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 13/2/2004م أنَّه قد أجرى محادثات مغلقة مع علي عثمان محمد طه النائب الأول للرئيس السوداني, وأنَّهما قد ركزا في نقاشهما على فرص حل مشكلة دارفور سلماً بعد المبادرة التي طرحها المهدى وإقترح فيها تفويض منبر قومي لحل الإزمة سياسياً عبر مؤتمر يضم كل القوى السياسية. من جهته وجه علي عثمان محمد طه اللجنة السياسية العليا المعنية بدارفور بدعوة كافة الأحزاب السياسية التي تباين موقفها تجاه مبادرة عمر البشير الرئيس السوداني لحضور المؤتمر الجامع الذي إقترحه البيان الرئاسي الصادر أمس الاول بشأن دارفور (سودانيز اون لاين 12/2/2004م).
من جانب آخر ناشد مبارك الفاضل مساعد رئيس الجمهورية رئيس حزب الأمة الفيدرالي كافة القوى السياسية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بتفعيل مبادرة رئيس الجمهورية ومساندتها وإنزالها لإرض الواقع وأشار إلى أنَّ الحكومة لا ترفض مساهمة الإسرة الدولية للمتأثرين بالحرب والدور الإنساني إلا أنَّها ترفض تدويل قضية دارفور ونفى أن يكون هناك إحتكار للسلطة والتنافس السياسي متاح للجميع (الأنباء 13/2/2004م).
وقبل أن تهدأ الأجواء أو يتمكن المجتمع من إستيعاب ما ورد فى تلك المبادرات المتسارعة أطلق حزب المؤتمر الشعبي مبادرته الخاصة في إطار نفس المشكلة طرحها الدكتور الحاج آدم يوسف، أمين الاتصال التنظيمي بحزب المؤتمر الشعبي لولاية جنوب دارفور, إشتملت علي عدم تدخل الحكومة الإتحادية في مسألة الإمن وتركه للحكومة الولائية في دارفور، بجانب منحها السلطات والإمكانات اللازمة. وإعتبرت قضية حاملي السلاح شأنا سياسيا يعالج بالحوار بين الحكومة المركزية وأبناء دارفور الذين حملوا السلاح والذين لم يحملوه (سودانيز اون لاين 15/2/2004م). لكنَّ الدكتور الترابى غيَّر موقف حزبه من المؤتمر مؤخراً وأعلن أنَّ حزبه سوف لن يشارك فيه وزاد بأنَّ أحزاب المعارضة الرئيسية قررت مقاطعته, لكنه لم يوضح ما هى تلك الأحزاب, ووصف المؤتمر بأنه "مصطنع ومطبوخ ولن يحل المشكلة" (الحياة اللندنية 25/2/2004م).
وفي أول رد فعل حول الخطاب الذي وجهه عضوا الكونغرس الأميركي إلى الرئيس بوش والذي يطالب بالتحقيق مع 12 مسؤولا سودانياً، قال المتحدث بإسم الحركة الشعبية لتحرير السودان ياسر عرمان في إتصال مع صحيفة الشرق الأوسط: "إن حكام الخرطوم لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئا فهم يمارسون الإرهاب الآن في دارفور ومن قبل ذلك مارسوه في شعبنا شمالا وجنوبا، وإن الأفضل لحكام الخرطوم إستغلال الفرص النادرة والإتجاه نحو السلام العادل والتحول الديمقراطي"، وتابع عرمان "عليهم الإتجاه نحو الحل السياسي في دارفور والتعلم من دروس الماضي في الجنوب والتوقف عن إنتهاكات حقوق الإنسان التي وصلت إلى حد قصف اللاجئين الأبرياء، وأن العمل العسكري في دارفور لن يفيدهم، كما إن المناورات في مفاوضات الإيقاد لن تفيدهم أيضا" (الشرق الأوسط 21/2/2004م).
فى خضم هذا التهافت إنقسمت هذه الأحزاب بينها فيما يختص بذلك السيل من المبادرات, وأخذوا ينتقدون بعضهم بعضاً, فى حالة أشبه بحالة "مبادرات الوفاق الوطنى ومجموعة العشرة" وغيرها من تلك التى لم تراوح مكانها, وفى هذا السياق فقد شكك حزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الدكتور حسن عبد الله الترابي في مصداقية المبادرة التي أطلقها البشير, وقال عبد الله حسن أحمد نائب الترابي أن الحكومة سبق أن أعلنت مبادرات سياسية فى السابق ولكنها لم تقم بانفاذها وتوقع أن تكون مبادرة البشير تكتيكاً لكسب الوقت مشيراً إلى أن الحكومة تفتقر إلى المصداقية, من ناحيته رحب الحزب الإتحادي الديمقراطي الذي يترأسه محمد عثمان الميرغني بحذر على المبادرة لكنه حذَّر من أي تصعيد للمشكلة عسكرياً, وأشار إلى أن العمليات العسكرية التي جرت مؤخراً تضرر منها المواطنون بشكل كبير, وقال إن النصر العسكري لا يعدو أن يكون كسب جولة في معركة طويلة مشدداً على أن الخيار المطلوب هو الحل السياسي للمشكلة بإعتبارها مشكلة سياسية في المقام الأول, ولعلَ أقوى التصريحات وأصدقها من واقع الأمور هو ما ورد على لسان يوسف حسين, الناطق الرسمي بإسم الحزب الشيوعي, والذى أشار إلى أن وقف إطلاق النار خطوة إيجابية لكنه طالب بإستئناف التفاوض تحت إشراف دولي وشدد على أن عدم إتخاذ هذه الخطوة سيجعل من مبادرة البشير بلا قيمة, وطالب الحكومة بتشكيل لجنة إتحادية لتقصي الحقائق التي حدثت من جراء تصعيد العمليات العسكرية مؤخراً, وإتهم الحكومة بقصف المدنيين وحرق القرى ودعا لإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وإعادة النازحين واللاجئين لمناطقهم الأصلية, إلى جانب إتخاذ تدابير تحول دون إنتقال العمليات العسكرية لمناطق أخرى بدارفور, ونبه إلى ضرورة نزع السلاح من ميليشيات القبائل العربية, وأضاف أن مشكلة دارفور لا يمكن حلها إلا عن طريق الحل السياسي الشامل.
إنَّ المبادرات التى قدمتها الحكومة وحزبا الأمة والشعبى لا تعدو أن تكون مجرد مناورات لإحتواء أزمة دارفور من منطلقات مصلحية وحسابات حزبية محضة تحاول الإلتفاف على لب القضية والتى أشار إليها بوضوح تصريح يوسف حسين أعلاه, ولعلَّ موقف الحركات المسلحَّة كان حاسماً فى الرد على البشير وأولئك الذين يثرثرون فى مجالس العاصمة, فقد صرَّح عبدالواحد محمد أحمد النور رئيس حركة تحرير السودان أنَّ حركته لاتزال تسيطر على ثلث مساحة الريف في دارفور وإن قوات الجيش وميليشياتها ترابط داخل المدن الرئيسية فقط، ووصف ما جاء في بيان البشير بأنه "هراء" وعار من الصحة وليس له علاقة بما يدور على الأرض, لكنَّه أكدَّ إستعداد حركته لقبول وقف النار الشامل والدخول في مفاوضات شريطة أن يتم الأمر تحت مظلة دولية, من جانبه نفى أبوبكر حامد نور المنسق الميداني لحركة العدل والمساواة, وهي الفصيل الرئيسي الثاني الذي يقاتل في دارفور, أن تكون حملات الجيش كسرت شوكة حركته, وقال إنَّهم فى حركتهم مستعدون للحوار على أن يكون ذلك تحت رعاية المجتمع الدولي وحمّل الحكومة مسئولية عدم الحوار (سودانيز أون لاين 12/2/2004م).
إنَّ من الملاحظات المهمة التى تستوجب الإهتمام حول هذه المبادرات هو عدم تجاوب الأهالى فى دارفور مع ما يحدث حولها من مغالطات فى منتديات الخرطوم السياسية ومجالسها بالرغم من أنَّها تعنى بقضيتهم بالدرجة الأولى, فهم يعرفون جيداً مقدار ما حدث لهم من جرائم وتشريد بحيث إنعدمت معها الثقة بينهم وبين الجانب الحكومى, ولهم تجارب غزيرة فى هذا المجال, ولعلَّ مظاهرات أبناء الإقليم التى تجوب عواصم العالم الكبرى لدليل واضح على ذلك, خاصة المظاهرة التى قام بها تجمع روابط طلاب دارفور بالجامعات السودانية بحر الأسبوع الماضى و لخَّصت لهذه النقطة تحديداً, فقد أصدر هؤلاء الطلاب بياناً وسلموا رسالة إلى مكتب الأمم المتحدة بالخرطوم طالبوا فيه بتشكيل لجنة "لتقصي حقائق حول الكارثة الإنسانية في دارفور" وأنَّ "الأوضاع الإنسانية تزداد تدهورا مع توالي الكوارث المتمثلة في المجازر الجماعية والإبادة العرقية وحرق القرى والإعتقالات التعسفية", وأضافوا فى بيانهم أنَّ إعلان الرئيس البشير الأسبوع الماضي إنتهاء العمليات العسكرية في دارفور هو "حلقة جديدة في مسلسل الكذب" من قبل النظام بالنظر إلي إستمرار المعارك, وإتهم البيان حديث الحكومة حول عودة اللاجئين السودانيين في تشاد الذين أفرزتهم الحرب في دارفور "ضرب من المزايدة", وطالبوا الولايات المتحدة بإرسال فريق لتقصي الحقائق حول عمليات الإبادة الجماعية والمجازر البشرية وتقديم المتورطين لمحاكمة عادلة" (سودانيز أون لاين 16/2/2004م), لكنَّ الجدير بالملاحظة فى هذه الحادثة هو تصريح المكتب الصحفي للناطق الرسمي باسم الشرطة بالخرطوم حول أن الجهات المختصة ظلت ترصد محاولات لبعض التنظيمات والقيادات للتقليل من شأن قرارات الرئيس التي أصدرها مؤخراً والقاضية بالعفو عن حاملي السلاح بدارفور والدعوة لمؤتمر سلام شامل، واصفةً تلك الجهات بأنها تعمل على إستغلال الطلاب لتحقيق مكاسب لها. إنَّ صدور مثل هذا التصريح يعكس ضمور الفرص لإنفاذ المبادرة بعد دخولها حلبة المزايدات السياسية.
ما الذى يجمع بين حزب الحكومة وحزبى الأمة والشعبى بشأن قضية دارفور:
جملة من الأسباب تلك التى تجعل الحكومة وحزبها المؤتمر الوطنى بجانب أحزاب الأمة والمؤتمر الشعبى تتهافت بمبادرات مهترئة بشأن أزمة دارفور, أولاهما هو أنَّهم جميعاً مشتركون فيما حلً ويحل بدارفور من كوارث, فالنزاع القائم الآن لا يمثل إلاَّ نتاج سلسلة طويلة من التطورات المجحفة بحق أهل هذا الإقليم أخذت منحنى خطيراً عندما كان الصادق المهدى نفسه رئيساً للوزراء تمثلت فى مذكرة التجمع العربى الشهيرة, والتى أمسك رئيس الوزراء عن الحديث عنها فحسبها مناصروا المذكرة رضاً وتأييداً لهم الشيئ الذى أدَّى إلى إستفحال الأمور بعدها نتيجة لتوافر السلاح المتدفق عبر الحدود الغربية والمدفون فى رمال الصحراء والموهوب من الحكومة لبعض قبائل التماس لمساندتها فى حربها ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان, كل ذلك إقترن بغطاء آيدلوجى إستهدف أول ما إستهدف غالبية أهل الإقليم فكانت تلك المجازر الرهيبة فى ديار الفور عام 1989م, ثمَّ جاء إنقلاب الإنقاذ ليضيف ضغثاً على إبالة فوجد الأرض مهيئة لبذر سموم جديدة وتجيير ولاء أهل الإقليم سياسياً عبر ما أسموه المشروع الحضارى وإعادة صياغة المجتمع السودانى, ولمَّا إستعصى عليهم ذلك قرروا قطع العقدة من أساسها بدلاً عن محاولة حلِّها فبدأ التضييق على القبائل الكبرى بدءاً بمنتصف عام 1990م, أى بعد عام واحد من الإنقلاب, وإندفعت قوات الجيش المسنودة بمليشيات الدفاع الشعبى تعيث دماراً فى ديار تلك القبائل فى وسط دارفور الشيئ الذى إضطر معه المهندس داؤود يحيى بولاد إلى طلب العون من أعدى أعداء الحكومة فى محاولة يائسة لإغاثة أهله من حملات إبادة مؤكدة.
من يتحمل مخطط مثل هذا؟ لا شك فى أنَّ هذه الأحزاب الثلاثة الكبيرة مشاركة فى تحملها بدرجات متفاوتة متمثلة فى سكوت حزب الأمة فى مبتدئها ثمَّ أدلجتها بنظريات هؤلاء الذين هم فى المؤتمر الشعبى الآن وتنفيذ تلك النظريات بواسطة الذين هم فى المؤتمر الوطنى اليوم, وما زالوا يواصلون تنفيذها, ولقد سارعت الحكومة دون هوادة أو كلل فى إستباحة أرض دارفور وتأجيج نيران النزاع فيها وإنبرت لتفتيت ديار القبائل الكبرى بطريقة تعسفية, وإقتطاع جزء من شمال دارفور وضمها للولاية الشمالية, وتصفية مشاريع التنمية رغم قلتها, والعبث بأموال طريق الإنقاذ الغربى ضاربة بعرض الحائط كل سمات الأمانة والثقة فى حفظ المال العام, وكأنَّ كل ذلك لم يكفها فواصلت مسلسلات الدم والخراب وبروز مليشيات الجنجويد ثمَّ القصف الجوى المحموم مؤخراً فى أبشع سياسة يمكن لنظام حكم أن يرتكبه ضد جزء من شعبه.
يحدث كل ذلك وحزب الأمة, الشريك السياسى المفترض لأهل دارفور, لم يتحرك, والحراك الذى نعنيه هنا هو الحراك الفاعل (بيده) لا عن طريق النقد المبطن والتصريحات الصحفية المبتورة وإصدار المبادرات التى تتم صياغتها وراء أبواب مغلقة لا تعيش بضعة ساعات تنتهى إلى لا شيئ كما فقاعات الصابون. واليوم يأتى الصادق المهدى, بعد خراب مصر وطيران الأرواح البريئة إلى بارئها, ليدلى بمبادرة مهزوزة واضعاً يده فى يد الإنقاذ الملطخة سلفاً بدماء أهل دارفور يحسب أنه يستطيع أن يحسن صنعا! لقد ذكرنا فى مقال سابق أن لو أنَّ الصادق المهدى ترك بقائه فى القاهرة ودورانه بين مدن العالم وتوجه إلى دارفور ليقضى فيها أسبوعين مثلاً ينصح من ينتصح ويهدى من يستهدى لكان قد أنقذ أرواحاً كثيرة, والأعمار بيد الله, أو لكان قد أوقف هذه الهجمات الهمجية, والتى لا تزال تستمر وإلى اليوم, تفتك بأرواح العباد وتدمر حياتهم دون وجه حق, وقد كان بإمكانه أن يفعل ذلك لكنه آثر السكوت مرة أخرى, إنَّ سكوت الصادق المهدى عن كل ذلك طيلة الفترة الماضية ومنذ مذكرة التجمع العربى تحديداً تضعه فى خانة المساءلة الأخلاقية ونراه الآن أخيراً يحاول العودة إلى دارفور ولكن من بوابة الإنقاذ! إنَّ محاولته هذه سوف لن يكون بأفضل من العطار الذى يحاول إصلاح ما أفسده الدهر, نحسب أنَّه قد إختار الطريق الخطأ.
الأمر الآخر والهام فى تهافت هذه الأحزاب على قضية دارفور هو رغبتهم فى إبرام مصالحة فوق رؤوس أهل دارفور وإستغلال ذلك لتجاوز حسابات خاصة بكل منها, أهمَّها هو محاولة الحكومة لدفن ما حدث من مآسى وقتل وتشريد للأهالى المدنيين بعيداً عن أعين المساءلة الدولية ومحاولة إخفائها تحت البساط (Under the carpet), فحكومة الإنقاذ تعلم تمام العلم حجم الكوارث وإنتهاكات حقوق الإنسان التى إرتكبتها هى والمليشيات المساندة لها بحق أهل دارفور, ولذلك فهى تصر إصراراً متعاظماً بعدم فتح أى مجال لتدخل دولى مهما كان شأنه قد يمتد ليشمل تحقيقاً عن تلك التجاوزات, والتى إذا ما تمت قد تطال مسئولين كبار فى نظام الحكم خاصة وأن هناك نداءات ودعاوى قوية بحق بعض منهم كما لاحظنا فى الفترة الأخيرة, ولعلَّ الصادق المهدى يريد أيضاً مساعدة الحكومة فى إنقاذ نفسها من هذه الورطات, وقد ظلَّ يفعل ذلك دوماً كلما دارت نائبات الدهر على نظام الإنقاذ, بل نراه متشدداً أكثر من النظام نفسه ومدافعاً عن فكرة عدم إتاحة الفرصة لأى تدخل دولى, فقد حذَّر مؤخراً في "لقاء الصحافة والسياسة" الشهري بمنزله بالملازمين من ان المناخ الخارجي فيه درجة عالية من الإستعداد للتدخل غير الحميد لكن التحرك الشعبي إذا ما تم فإنه يمنح صدقية لما يعتزم أن ينفذه الجميع. وأشار إلى أن التقارير التي أصدرتها منظمة العفو الدولية ومركز الدراسات الإستراتيجية بواشنطن ومجموعة الأزمات الدولية تدعو جميعها للتدخل في الشأن السوداني لأنه غير مؤهل في إعتقادها لحل مشاكله, وأكد أن تقرير منظمة العفو الدولية خطير وأن رد المسئولين الحكوميين عليه غير كاف, ودعا للإرتقاء بالخطاب الحكومي إزاء التقرير خاصة وأن بعض بنوده إتهمت الحكومة بالقيام بجرائم حرب وبأنها خرقت القانون الدولي وإتفاقية جنيف لعام 1949م, وأضاف أنه اذا لم يتحرك الرأي العام المحلي بشكل فاعل وغير مفعول فان الرأي العام العالمي سيتحرك لتنفيذ وصاياه على السودان (البيان 12/2/2004م). لقد كتب الصحفى محمد لطيف المحلل السياسى بجريدة الرأى العام موضوعاً بعنوان "الرئيس والإمام هل يجتمعا على دارفور؟" (الرأى العام 11/2/2004م), وفى عنوانه لهذا لمز وغمز ربما يعرف تماماً ما وراءه, أورد فيه "أنَّ أهمَّ ما طرحه الصادق المهدي فى مبادرته لحل قضية دارفور هو إمكانية التوفيق بين إستراتيجية الدولة الجديدة تجاه أزمة دارفور والتي عبر عنها مبادرة البشير وبين مبادرة حزب الأمة التي أطلقها المهدي في ذات اليوم, ويقول إنَّ تفعيل هذه المبادرة سيضيف إلى الجهد الوطني في محاصرة أزمة دارفور ويقلل من فرص التدويل", وربما تكون هذه العبارة الأخيرة هى بيت القصيد وراء مبادرة حزب الأمة. بدورنا نتساءل لماذا يفعل الصادق المهدى ذلك وماذا يريد أن يقول؟ لماذا يحاول أن يدعم جانب النظام الغاشم وفى نفس الوقت يتجاوز جرائم تاريخية حلَّ بأهم قاعدة إنتخابية لحزبه؟ ويلغى أطناناً كبيرة من المرارات خلَّفها هذا النظام بنفسه خاصة وأن جانباً كبيراً من تلك المرارات تتعلق بأرواح الآلاف من المواطنين الأبرياء ظلوا آمنين فى قراهم البعيدة قد لا يعرفون الفرق بين البشير والنميرى إلى أن أتاهم داهم فى ظلمة الليل, إنَّ الجانب المحزن فى سياسات الصادق المهدى هو تجاهله لما حلَّ بهؤلاء الناس من كوارث وعدم الإشارة إليها مطلقاً فى تصريحاته, وإلاَّ فكيف نجد تفسيراً لإستنكافه زيارة الإقليم ولو لمرة واحدة طوال الفترة الماضية أو إتخاذ مواقف أكثر تشدداً ضد النظام بشأن قضايا هؤلاء البشر, فعندما عاد مع حزبه من القاهرة قبل ثلاثة أعوام تقريباً قام بعدها بطواف على بعض المناطق فى ولايات نهر النيل والنيل الأبيض وكردفان وما زال يطوف لكنه أهمل دارفور بحجمها الكبير وأهلها الكثير! حقيقة إنه لأمر يؤسف له, وكمتابع للأحداث بدارفور ومآلات أشياء كثيرة يمكننى القول لو أنَّ حزب الأمة ومنذ عودته من القاهرة قد حصر نفسه وبرامجه وندواته كلها حول مشكلة دارفور فقط لكفاه زاداً حقيقياً فى مقبل الصراع السياسى القادم على الساحة السياسية السودانية, وهو صراع رهيب ستتساقط دونه رؤوس كبيرة, لكن لمن تدق الأجراس!
ناحية ثانية هناك إحتمال أن يتم فهم مبادرة الصادق المهدى من زاوية الإنتهازية السياسية, فبعد تعاظم الإهتمام الدولى بقضية دارفور والإحتمال الكبير للتدخل الحميد أسوة بمناطق مماثلة يحاول حزب الأمة أن يقفز على ذلك بمبادرة يعتقد أنها يمكن أن تعيد إليه بعض المصداقية بين أناس لم يعرفوا فى تجربتهم السياسية أى حزب غيره, لكنهم فجعوا فيه وفى تصرفاته فى أشد الفترات حرجاً فى تاريخهم كانوا معلقين خلالها بين الموت والحياة فنفضوا أيديهم منه الآن, ويجدر بنا هنا أن نعيد فهمنا للعلاقة العقدية بين الناخب والحزب السياسى فإذا كانت الديمقراطية عائدة وراجحة, كما يقول الصادق المهدى نفسه, فإنها سوف لن تعود كما بالأمس وإنما تستوجب أول ما تستوجب تأهيل تلك العلاقة الشرطية بين الحقوق والواجبات حتى يستقيم الميزان. وفى الحقيقة فإنَّ العالمين بإستراتيجية حزب الأمة نحو دارفور يعرفون أنَّ هذا الحزب أو قادته لا يرغبون البتة فى أن يروا بروز أى صحوة سياسية فى دارفور كيما يظل الإقليم منطقة مقفولة لنفوذهم, ولذلك فقد ظلَّت إستراتيجيتهم تعمل ضد مثل هذه التوجهات بل ومحاولة تخريب أى تنظيمات محلية قد يشتم منها تهديداً لقواعدهم هناك, إنَّ تجربة "جبهة نهضة دارفور" لمثال واضح فى هذا المجال فهذه الجبهة قد نشأت أساساً لمناهضة ظاهرة تصدير النواب, وهى ظاهرة مارستها قيادة الحزب فى السابق وبخبث عبر إرسال مرشحين لها من غير أبناء الإقليم ليفوزوا فى دوائرها الإنتخابية المغلقة, ولقد كان السيد أحمد إبراهيم دريج والدكتور على الحاج محمد من القيادات الشابة فى تلك الجبهة, بالرغم من أنَّهم ليسوا مؤسسيها, وقد فاز السيد دريج فى دائرة زانجى كمرشح مستقل فى إنتخابات 1965م, التى أعقبت ثورة أكتوبر, وكان وقتها يتمتع أيضاً بوضعه كقائد لجبهة نهضة دارفور وكأقوى شخصية مؤثرة فيها, فإشتغلت إستراتيجية حزب الأمة تجاهه حتى تمَّ ضمَّه إلى كوادره فإنهار بذلك أقوى عمود فى الجبهة وتفرق أعضاؤها أيدى سبأ وتوجه الدكتور على الحاج لحزب الإخوان المسلمين, ولم تقم لتلك الجبهة قائمة وإلى اليوم الشيئ الذى دفعت دارفور من أجله ثمناً غالياً وخسرت خسراناً مبينا متمثلة فى فقدها لأهم بوتقة كان يمكن من خلالها تفريخ قيادات محلية صلبة و واعية بقضايا دارفور وما هذا الخواء فى القيادات الحاكمة اليوم إلاَّ نتيجة لذلك, وعلى العموم سنعود لدراسة تجربة جبهة نهضة دارفور دراسة تحليلية فى مقال قادم لنا بإذن الله. المهم فى الأمر أن حزب الأمة قد تمكن من خلال تلك المؤامرة من إعادة سيطرته السياسية على دارفور ونتيجة لذلك نجده قد فاز بمعظم المقاعد البرلمانية فى الإنتخابات القومية المتتالية, وبالقطع فقيادته لا تريد لأبناء الإقليم ومثقفيها أن يتحدوا أبداً, ولعلَّنا نلاحظ فى حديث الصادق المهدى فى مؤتمره الصحفى الذى ورد أعلاه ما يشير إلى ذلك وتخوفه من وحدة أبناء الإقليم وذلك من خلال قوله "إنَّ الحل العسكري لن يجدي لأنَّ حملة السلاح لهم جيوب أخرى لذلك فإنهم لن يختفوا, وحذَّر من أنهم ينظمون صفوفهم الآن ويعملون على توحيد رؤيتهم أزاء أزمة الاقليم", إنَّ الجزء الأخير من هذه العبارة (وحذَّر من أنهم ينظمون صفوفهم الآن ويعملون على توحيد رؤيتهم أزاء أزمة الاقليم) يجب أن نضع تحتها خطان لأنَّ بين سطورها يكمن حذر الصادق المهدى ولا يريد لتلك الوحدة أن تكتمل حتى وإن إستدعى ذلك التحالف مع نظام الإنقاذ لضربها, وليس من المستبعد أن يكون هنالك تفاهماً وتنسيقاً قد تمَّ فى هذا الإتجاه وإلاَّ فكيف نفسر هرولة الصادق المهدى المحمومة نحو الحكومة وفى هذا الوقت تحديداً! لذلك فإنَّ لحزب الأمة مصلحة حقيقة فى لملمة قضية دارفور لكن دون أن يؤدى ذلك إلى توحيد أبنائها أو يحقق وحدتهم لأنَّ المستهدف الأكبر حينها سيكون حزب الأمة نفسه. إنَّ الصادق المهدى وحزبه لا شكَّ فى أنهم متابعون بقلق للحراك العالمى لأبناء دارفور, والغيرة الوطنية الصادقة التى يبدونها تجاه إقليمهم, إضافة إلى مراجعتهم الحالية لهشاشة تناول الأحزاب التى نصفها بالقومية لقضايا أهلهم, وما يدور داخل كل ذلك من مخاض قد نحسبه لا تحمل أخباراً سارة لهذا الحزب فى مقبل العراك السياسى الحر.
لقد وردت جملة من الإنتقادات للمبادرة التى تقدم بها حزب الأمة بشأن قضية دارفور ويمكننا أن نشير إلى بعض الملاحظات حولها أهمها هو عدم إكتراث حتى النظام الحاكم به الشيئ الذى أثار غضب الصادق المهدى شخصياً وإنتقد قرارات البشيرمقارنة بالمقترحات التي تقدم بها هو لحلِّ أزمة الاقليم (البيان 12/2/2004م). إنَّ شكوك الفعاليات السياسية نحو هذه المبادرة لم يقتصر على الحكومة فقط بل إنَّ غالبية الردود التى أشارت إليها كانت باردة مما دفع دكتور عبد النبي علي أحمد الامين العام لحزب الامة القومي أن يدافع عنها في الورقة التي قدمها أمام الإجتماع الذي عقد بالمركز العام للمؤتمر الوطني ويشير إلى إمكانية تجاوب حملة السلاح والرأي العام المحلي والعالمي معها, وأنَّ فرصها لحل أزمة دارفور أكبر من التجاوب الذي يمكن أن تحصل عليه المبادرة الرسمية التي أطلقتها الحكومة السودانية، كما أشار أيضاً إلى أن مبادرة حزبه قد حددت مفهوم القومية وأوضحت صلاحيات المنبر السياسي القومي، وحددت موعدا لإنجاز المهام بالقوي الوطنية, وأنَّها تدعو إقليميا جيران السودان في الغرب للحضور كمراقبين, لكنه فى الوقت ذاته وجه إنتقادات عديدة لمبادرة الحكومة وقال إنها خلت من تحديد مواعيد معينة تنتهي فيها ولم تتضمن تفاصيل لإجندة المؤتمر الجامع ولم تتحدث بصراحة عن وقف إطلاق النار ولم تحدد صلاحيات المؤتمر الجامع والقوي السياسية المشاركة وأجندة المؤتمر (موقع سودانيز أون لاين 16/2/2004م), إنَّ التساؤل الذى ينبرى هنا هو كيف ضمن قادة هذا الحزب إمكانية تجاوب قادة حملة السلاح مع مبادرتهم فى الوقت الذى أكدَّ فيه هؤلاء القادة أنفسهم رفضهم للجلوس على أى مائدة للتفاوض دون رعاية ورقابة دولية؟ إنَّ مثل هذا الموقف يستدعى من حزب الأمة إجراء عملية جراحية عميقة لمبادرته حتى تستقيم وتكون مقبولة على الأقل من الجهة المعنية تحديداً.
حقيقة يمكن القول وبالنظر إلى تطور الأمور فى دارفور أنَّ حزب الأمة يمكن أن يفقد كثيراً من رصيده الإنتخابى فيها, ليس بسبب عزوف أنصاره عنه, بل بسبب عزوفه هو عنهم, وتقاعسه عن التفاعل معهم فى ظروف كانوا فيه فى أمَّس الحاجة إليه وإلى من يواسيهم ويقف بجانبهم, وبالنظر إلى الواقع أيضاً فقد كان لحزب الأمة ثقل كبير ووضع هام بين مختلف القبائل بدارفور, خاصة العربية منها, وقد ساندته مجتمعة فى آخر إنتخابات ديمقراطية حرة وأعطته عدد 34 مقعداً برلمانياً يوازى ثلث المقاعد التى حصل عليه الحزب فى البرلمان ومكنت رئيسه الصادق المهدى لأن يتبوأ رئاسة الوزارة, ولذلك فقد كان عشم أهل دارفور كبيراً فى أن يتمكن هذا الحزب من لجم زمام الفتنة ووقف حملات المجازر التى يتعرضون لها لكنَّ يبدو أنَّ أملهم قد خال وذهب ظنَّهم مع السراب, ولا أدرى بأى وجه سيواجه قادة هذا الحزب أهل دارفور فى أول إنتخابات برلمانية حرة بعد زوال هذا النظام! لقد إعتذر الرئيس اليوغندى يورى موسيفينى للشعب اليوغندى يوم أمس وأبدى أسفه عن عدم تمكنه من حماية أرواح مجموعة من الأهالى الأبرياء قام قوات جيش الرب بقتلهم فى قراهم وترك البقاء فى قصره بكمبالا ليجلس مع أهالى الضحايا تحت الشجر فى قراهم يطيب خاطرهم ويوجه الجيش لتوفير الحماية لهم (أخبار البى بى سى 24/2/2004م), فهل سيفعل الصادق أو البشير ذلك, ولو من باب الإعتذار, بحق الضحايا الأبرياء من أهل دارفور؟
إنَّ رفض البشير لأى رقابة دولية على المفاوضات كما يطالب به مسلحو دارفور يتضمن إعترافاً صريحاً وخوفاً من أن يجرجر ذلك التدخل لقضايا أخرى, خاصة فيما يتعلق بتهم الإبادة البشرية والتصفية العرقية, ومن هنا كانت دعوته لقيام مؤتمر قومى لحلَّ أزمة دارفور غير معروف الشكل والرائحة والهوية لينعق فيه محاسيب النظام ويتم من خلاله تبرئة الحكومة من كل جرم إقترفته, هذا إن لم يشمل قراراتهم توجيه أصابع اللوم لأهل دارفور أنفسهم.
إنَّ فكرة المؤتمر القومى الجامع ما هى إلاَّ محاولة لتعميم القضية وتذويبها تحت أطنان هائلة من الخطب الرنانة والزعيق والنعيق والتلاعب بالآيات القرآنية بحيث تضيع معها عين الحقيقة وتتلاشى الآمال المعقودة عليه من خلال وعود فارغة قد تكون سبباً لتمرد جديد. إنَّ مصدر الشك فى كفاءة هذا المؤتمر هو أنَّ قراراتها ونتائجها سوف ترفع لهذه الحكومة نفسها لتنفيذها! وكأننا يا عمرو لا رحنا ولا جئنا, فما هى الضمانات لذلك؟ وإذا كانت الحكومة هى نفسها جزء من المشكلة وسبب الكارثة فكيف يمكن الوثوق بها فى أنَّها ستنفذ ما سيتم الإتفاق عليه؟ وهل فعلت ذلك تجاه مواقف مشابهة فى السابق؟ هذا المؤتمر ما هو إلا حرث فى البحر.
من ناحية ثانية, ومن خلال نظرة أولية لتكوين اللجنة العليا لتنظيم ذلك المؤتمر, نرى أنَّ الحكومة قد حرصت على أن يكون المؤتمر هو مؤتمرها هى, لتمرير قراراتها, لا مؤتمراً لحل القضية من أساسها, فحشدت أنصارها وجاءت بعزالدين السيد كرئيس للجنة العليا للتحضير للمؤتمر بالرغم من أنَّه ليس من أهل دارفور, من ناحية أخرى نجد أنَّ طاقمها المؤلف للإشراف السياسى على ملف دارفور يتكون من المهندس المهندس الحاج عطا المنان أمين المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم, وهو من أبناء الولاية الشمالية, ممسكاً بملف دارفور فى حزب المؤتمر الوطنى, وعباس الخضر رئيس الهيئة البرلمانية بالمجلس الوطنى هو أيضاً رئيس اللجنة البرلمانية لمعالجة الأوضاع في دارفور, ودكتور محمد مندور المهدي أمين أمانة الخدمات بالتنظيم الحاكم يمثل عضو الحزب الموفد لمتابعة مشكلة دارفور, و الشريف عمر احمد بدر وزير الاستثمار رئيس اللجنة القومية العليا لدعم دارفور, كل هؤلاء ليسوا من أهل المنطقة ولا يعرفون خصائصها وتراثها المتنوع لكن الحكومة أوكلت لهم بملفات مفصلية عن الأزمة هناك, وقد أشارالحاج وراق إلى ذلك بنبرات واضحة فى عموده "مسارب الضي" بجريدة (الصحافة 22/2/2004م) وذلك بقوله: "يأتي تشكيل اللجنة القومية المكلفة بتنفيذ بيان رئيس الجمهورية ليضرب بكل ذلك عرض الحائط! رئيس اللجنة من غير أبناء دارفور وليس له سابق علاقة بالملف! ومقرر اللجنة أحد الولاة الحكوميين بما يعني أنَّه من أطراف الازمة المباشرين! ولا تضم اللجنة سوى عددية قليلة من الشخصيات المستقلة التي تصدع بالحق، وعددية ضئيلة من الشخصيات الناقدة أو المعارضة، وفي ذات الوقت تحتشد اللجنة إحتشاداً بعشرات الشخصيات الرسمية من الوزراء وممثلي الهيئات والإتحادات الحكومية! والإنطباع الذي تعطية اللجنة لاتخطئه عين : هذه لجنتنا كحكومة ومن لا يريدها فليشرب من البحر، حتى ولو كان بحراً من الدماء!! والمأساة أنَّ الهدف من تشكيل اللجنة إنَّما هو إيقاف بحر الدماء بالذات!", ثمَّ يمضى فيقول "أما المأساة الأكبر فحقيقة أنَّه لا توجد آلية للمحاسبة على الأخطاء السياسية في الحكومة، لو كانت هناك مثل هذه الآلية لعزل المستشارين السياسيين الذين أشاروا على رئيس الجمهورية بمثل هذا التشكيل, ولعلَّ الفرصة لا تزال سانحة لإستدراك الأمر: لماذا لا يراجع أعضاء اللجنة تكوينها في إجتماعهم الأول، فيلتمسوا من رئيس الجمهورية أن يرأس اللجنة أحد أبناء دارفور: إبراهيم دريج أو عبد الله آدم خاطر أو د. عبد البني علي أحمد أو فاروق أحمد آدم أو التجاني آدم الطاهر أو إبراهيم سليمان أو الشفيع أحمد محمد أو من غيرهم بمن فيهم مسؤول الهيئة البرلمانية لنواب دارفور من المؤتمر الوطني نفسه؟! ويلتمسوا كذلك أن تفتح عضوية اللجنة لتشمل عناصر أخرى هامة وأساسية من أبناء دارفور من أولئك الذين يريدون حل قضايا ولاياتهم وفي ذات الوقت لديهم الحذر الأخلاقي اللازم تجاه دماء أهاليهم!!", نعم لقد صدق الرجل وهو حس وطنى أصيل فى مجال الحريات وصلابة الرأى, وهكذا تخطط الحكومة لعقد مؤتمرها دون إشراك فاعل لأهل القضية أنفسهم, وتعد العدة لحشده بكم هائل من محاسيبها وأنصارها الذين سيعملون بكل جهدهم لتفريغ قضية دارفور من معانيها ومآلاتها, وكنس أوساخها تحت البساط, خاصة فيما يتعلق بجرائم الإبادة العرقية وتجاوزات الجنجويد التى تريد الحكومة إبقائها بعيدة عن أعين التدخل الدولى.
أمَّا فيما يتعلق بالمؤتمر الشعبى فقد طالب الدكتور الترابى في حوار خلال الأيام الماضية مع طلاب جامعة النيلين بالخرطوم إلى بضرورة حل قضية دارفور في إطار الحل السوداني بعيداً عن التدخل الخارجي مسانداً موقف الحكومة من ناحية تكتيكية (الشرق الأوسط 24/2/2004م), وقد لا يكون له أو لحزبه خير فى جرِّ تحقيق دولى لما حدث ويحدث بدارفور, ولعلَّه بمراجعة التاريخ القريب فإنَّ الترابى متورط فى كارثة دارفور شأنه شأن الآخرين, يكفيه تصريحاته المبكرة فى سنوات الإنقاذ الأولى, عندما كان الكل فى الكل, بضرورة تهجير بعض القبائل من مواطنها الأصلية ونزعها من سلاحها لصالح قبائل وافدة, ثمَّ إنَّ النزاع السياسى العنيف الذى جرى فى الماضى بينه وبين عدد من كوادره الشابة من أبناء دارفور قد يشكل حاجزاً مستعصياً لتجاوزه, إنَّ المقولة التى تسرى فى أجهزة الإعلام حول تبعية الحركة المسلحة بدارفور للمؤتمر الشعبى لفيه كثير من خلط الحقائق, وعلى العموم مهما بلغ من وجود بعض كوادر دارفورية فى حزب الترابى فإنَّ صندوق الإقتراع الإنتخابى يظل هو الفيصل, ففى إنتخابات عام 1986م لم تحصل الجبهة الإسلامية القومية إلاَّ على مقعدين جماهيريين فقط فى كل الإقليم بجانب مقاعد الخريجين الأربعة, وكلنا نعلم التكتيكات التى تمَّ إتباعها للسيطرة على تلك المقاعد, أمَّا فى التنافس الحزبى الحر القادم فربما لا نرى بعدها أى وجود مؤثر لهذه الأحزاب مجتمعة وربما نرى تياراً سياسياً دارفورياً جديداً, وما هذه الثورة إلاَّ إرهاصات لذلك.
كل هذه الحقائق تشير إلى أنَّ لكل من هذه الأحزاب الكبيرة حساباتها الخاصة فى مسألة دارفور, لكنَّها جميعاً تتفق على ضرورة تفريغ ثورتها الناشبة من أى مضمون مستقبلى قد تهدد هيمنتهم الطويلة على مقدرات البلاد, كما أنَّها تتفق أيضاً على ضرورة ألاَّ يتمكن هذا العملاق النائم من الوقوف على قدميه لأنَّه حينها ستتغير أوضاع كثيرة, كما إنَّ الثابت فيها هو أنَّ لكل من هذه الأحزاب وكلاء من أبناء الإقليم قد لا يتوانون, كما هو مشاهد اليوم, فى لجم طموح أهليهم ونيل حقوقهم المشروعة من أجل مناصب ثانوية ديكورية يصيرون فيها "كتمومة الجرتق", ولا ندرى هل ينام هؤلاء ملء جفونهم بينما الديار التى ترعرعوا فيها وخرجوا منها تحترق آناء الليل وأطراف النهار, أين هم منها؟
هل يتعامل نظام الإنقاذ مع قضية دارفور من خلال نظرة فوقية؟
مثقفو دارفور المتابعون بخفايا أمورها يعلمون أن موضوع دارفور يقع فى دائرة المسكوت عنه فى دهاليز حزب الأمة ولذلك لا طائل من رجائه فى شيئ, وكذلك يعرفون مدى الإنتهازية التى يحاول من خلالها الترابى وحزبه المؤتمر الشعبى التأثير على حركة دارفور ولو بقصد النكاية والكيد السياسى, أمَّا النخبة الحاكمة من أهل الإنقاذ فحدث ولا حرج فألسنتهم تجاه قضية دارفور لا تخلو من سكاكين مسنونة و نظرة فوقية وقول فاحش تنبئ عن قدر غير قليل من الإزدراء والصفق المتعمد, وقد أشرنا فى سابق مقالاتنا إلى ذلك وخلصنا إلى أن مردَّه قد يعود إلى أحداث بعينها صارت الآن فى ذمة التاريخ لكنها تركت بقعاً داكنة فى الذاكرة تنبعث أبخرتها بين الفينة والأخرى لتشكل سياسات محددة تجاه دارفور فى محاولة أشبه بعملية جلد الحاضر بسياط الماضى. لقد جمعتنى ظروف مظاهرة رابطة أبناء دارفور بالولايات المتحدة الأمريكية والتى جرت مؤخراً بنيويورك بالسيد السفير الفاتح عروة ممثل السودان الدائم بالأمم المتحدة والذى إستقبل وفدنا إستقبالاً حسناً بمكتبه بالبعثة السودانية أثناء تسليمنا له خطاباً إلى الرئيس البشير بخصوص قضية دارفور, ولقد ذكرت له فى تلك المقابلة أنَّ مشكلة الإنقاذ مع أهل دارفور تتمثل بجلاء فى نقاط ثلاثة: أولها القتل الجائر وعدم إدانة الحكومة أبداً لما يحدث من قواتها ومليشيات الجنجويد وتجاوزاتها اللا إنسانية بحق المواطنين الأبرياء بجانب إصرارها على عدم حل تلك المليشيات ونزع سلاحها رغم الإلتزام بذلك فى محادثات أبَّشى الأولى, ثانيها اللغة التخاطبية الفوقية والإستهجان التى تصف الثوار من أبناء الإقليم بالنهابين واللصوص وقطاع الطرق وإصرار النائب الأول ورئيسه على تكرار ذلك بصورة دائمة تنم عن سياسة إغتيال للشخصية وتبسيط للقضية, ومن المعروف إنَّ إستخدام مثل هذه اللغة لم يتم من قبل أبداً ضد أى من الحركات التى رفعت السلاح فى وجه الحكومة فى أقاليم السودان الأخرى فلماذا يتم الآن إستخدامها ضد مقاتلى دارفور وبهذه الكثافة؟ وثالثها عدم إعتراف الحكومة مطلقاً بأنَّ لهؤلاء الناس قضية أصلاً ومحاولة تبسيط المشكلة فى نزاعات متفرقة بين الرعاة والمزارعين إنخدع بها محاسيبها من أبناء الإقليم وصاروا يرددون ذلك مثل الببغوات دون إعتبار لدورهم فى التعبير عن حقوق أهاليهم, وهنا تنبع جلَّ مشاكل الحكومة مع أهل دارفور. لقد إبتدع النائب الأول عبارة "الحساب ولد" وكررها كثيراً فيما يختص بمطالب أهل دارفور فى التنمية وتبعه البشير فى ذلك إلى درجة وصفه للحركات المسلحة بأنَّهم يريدون السلطة ولا يشبهونها! لقد حكى لى بعضهم أنَّ وزير إنقاذى أخذ يسخر من أفراد وفد الحركة المسلحة الذين إلتقاهم فى مفاوضات أبَّشى الأولى, ووصفهم قائلاً بأنَّ هؤلاء ليسوا بسودانيين لأنَّهم لا يتحدثون اللغة العربية وهم ليسوا بتشاديين لأنهم لا يتحدثون اللغة الفرنسيةَ! ونحن بالقطع نتعجب ونتساءل: إذن من أين جاء هؤلاء؟
نقطة أخرى تتعلق بالخطاب الحكومى وتقاريرها الرسمية عن الأوضاع فى دارفور, فبينما ظلَّت الحكومة تدعى كل يوم بسيطرتها المطلقة على كل الإقليم وفتح الممرات وتوصيل مواد الإغاثة نظلُّ نسمع تصريحات بخلاف ذلك من قادة الحركة المسلحة ومن المسئولين الدوليين الذين يسمح لهم بزيارة الإقليم, فقد أوردت قناة الجزيرة فى موقعها على الإنترنت يوم الجمعة الماضى خبراً مفاده أنَّ المبعوث الأميركي لشؤون السودان مايكل بيرغر قد دعا فى لقائه بالأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى, الجامعة العربية والحكومة المصرية إلى العمل معا من أجل تهدئة ما وصفه بالوضع الخطير في دارفور غربي السودان, وفي غضون ذلك قال مبعوث الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان توم إريك فرالسين يوم الأربعاء الماضى إن موظفي الإغاثة عاجزون عن الوصول إلى أغلبية كبيرة من النازحين الذين أرغموا على الفرار بسبب القتال في دارفور ويبلغ عددهم حوالي مليون شخص, وأنَّ قنوات تقديم المساعدات لا تزال مغلقة، مضيفا أن الموقف غير آمن وأن فرق الإغاثة لا تملك وسيلة للدخول، والممرات التي يشار إليها من قبل الحكومة بأنَّها مفتوحة ليست مفتوحة, كما أوضح بأن الحكومة لا تعطي تصاريح للموظفين لمغادرة العواصم الثلاث لدارفور (الجزيرة نت 20/2/2004م). من نصدق إذاً؟ إنَّ المواطنين فى المدن الكبرى بالإقليم يقولون أنَّهم وقوات الجيش موجودون داخل المدن لكن لا أحد يستطيع الخروج منها! الشيئ الذى يدعم تصريح السفير توم فرالسين.
مبررات التدخل الدولى:
صارت إحتمالات التدخل الدولى لرعاية ملف السلام بدارفور واردة إلى حد كبير, ومع إقتراب نهائيات ماراثون نيفاشا فإنَّ الأنظار بدأت تتجه بقلق نحو طى ملف دارفور بالتزامن معها, والأمريكان والدول الغربية الراعية للشأن السودانى إضافة للمنظمات الدولية ذات العلاقة, خاصة منظمتى العفو الدولية وأطباء بلا حدود, سوف لن تسعد بأى إتفاق سلام يوقع بشأن جنوب السودان بينما تظل نيران الحرب مشتعلة بدارفور, وقد ورد كثير من التصريحات من مختلف الجهات تشير إلى حتمية التدخل خاصة وأنَّ ثوار دارفور أصبحوا مقتنعين أكثر من أى وقت مضى بضرورة التدخل, بل ووضعوه كشرط لازم لأية مفاوضات, وبينما ترفض الحكومة ذلك وتستنكرها فليس لها خيار آخر. إنَّ العقدة الرئيسية فى مبادرة الحكومة ومبادرات القوى المساندة لها هى أنَّها جميعاَ لا تخاطب جذور المشكلة, وتتعداها بمكر لتتناول قضايا فرعية قد لا تصل إلى مراتب الأهمية بالنسبة إلى لب القضية, فقضايا مثل توزيع الثروة وإقتسام السلطة وتعويض كل المتأثرين بالنزاع, خاصة أولئك الذين فقدوا ذويهم وقراهم وأملاكهم وأموالهم, وإجراء تحقيقات قانونية حول جرائم المذابح والحرائق سوف لن تهتم بها الحكومة كثيراً, وبالتالى فإنَّ دعوتها الحالية لعودة اللاجئين من تشاد إلى داخل السودان هى دعوة فطيرة إذ كيف يعودون ولأجل ماذا طالما أنَّ قراهم ومزارعهم وبساتينهم قد دمرت بما فى ذلك مصادر المياه ومراكز الخدمات مثل المدارس والشفخانات والأسواق. إنَّ الذين يطالبون بعودة هؤلاء الناس عليهم أن يسألوا أنفسهم أولاً عن ماذا جهزوا لهم من إعتمادات تعينهم على العودة إلى مسار حياتهم الطبيعية؟ الأمر الثانى والأهم فى ذلك هو هل تمكنت الحكومة من السيطرة على مليشيات الجنجويد حتى تطلب من هؤلاء الأبرياء العودة وتتركهم ليصيروا بعدها فى قوائم الموتى؟ إنَّ مليشيات الجنجويد ما زالت تمرح وتسرح فى الإقليم وتخفَّى جزء كبير منهم في فيالق ما يسمى بقوات الدفاع الشعبى وليس هناك من ضمانات ألاَّ يعودوا لمواصلة جرائمهم وهى جرائم كبيرة لا يعلم مداها إلاَّ الله, لكلِّ ذلك فإنَّ التدخل الدولى صار أمراً لازماً وذلك ما أكده السيد أحمد ابراهيم دريج، رئيس التحالف الفيدرالي الديمقراطى السوداني وعضو هيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي المعارض، وبالرغم من إجتماعه مع النائب الأول فى نيروبى إلاَّ أنَّه قد عبَّر بشدة عن مطالبته برقابة دولية على أية إتفاقات لوقف إطلاق النار في دارفور, بل وحمَّل الحكومة السودانية خرق إتفاقية أبشي التي وقعت في تشاد مع المسلحين في إقليم دارفور، معتبرا أنَّ العمليات العسكرية قد إزدادت أكثر بعد تلك الإتفاقية بدلا عن العكس, وشدد على أن أي إتفاق بلا ضمانات دولية "لا يمكن أن يحدث تغييرا نظرا لإنعدام الثقة الذي ساد بعد الهجومات العسكرية على القرى الآمنة بعد توقيع إتفاقية تشاد" (الشرق الأوسط 28/1/2004م).
لقد ظلَّت الحكومة والأجهزة الإعلامية تردد بأنَّ القوات الحكومية دحرت التمرد في دارفور لكن عضو البرلمان الأوروبي ريتشارد هويت نفى ذلك وأكَّد عقب زيارته لعدة مدن بدارفور خلال الأيام القليلة الماضية إستمرار القتال فى دارفور, وأنه ليس ثمة دلائل على توقف العمليات العسكرية بالمنطقة رغم تأكيد الحكومة على إنَّها توقفت, وأضاف الرجل بأنَّ "الجنجويد" يواصلون أعمال الشغب في معظم المناطق الريفية، وأنَّ الوضع الإنساني في دارفور يمثل "كارثة مروعة وعميقة" وإتَّهم الحكومة بمنع الصحفيين من الذهاب إلى المنطقة "لإخفاء هذا الصراع عن العالم". وقال إنَّ منظمات الإغاثة لا تصل سوى إلى 15% فقط من المحتاجين بسبب إتساع نطاق الصراع والقيود التي تفرضها الحكومة. وقال هويت إنَّه ما لم تدخل الحكومة في محادثات للسلام مع المتمردين غرب البلاد فلن يكون لمفاوضات السلام التي تجرى في كينيا لإنهاء الحرب الأهلية في الجنوب معنى. وأضاف "لا يمكنهم أن يصوروا أنفسهم على أنَّهم أنصار السلام الذين يعملون لإنهاء الحرب الأهلية في الجنوب.. في وقت ينفذون فيه ما يوصف بأنه تطهير عرقي في دارفور" (الجزيرة نت 24/2/2004م).
إنَّ مسألة التحقيق فى جرائم الإنتهاكات والقتل الجائر بواسطة المليشيات فى دارفور لا يمكن أن تقوم بها إلاَّ جهات دولية محايدة لها من الأمكانات العلمية والتمويلية والشفافية ما ستجعل نتائج تحقيقاتها مقبولة على المستوى العالمى ومقنعة على المستوى المحلى, كما إنَّ هذه الجهات مستعدة للقيام بالمهام الموكلة إليها دون كلل أو تفريط, فمثلاً بالنسبة للمذبحة التى إرتكبتها قوات جيش الرب الأوغندى ضد الأهالى الأبرياء فى قراهم قبل أيام قليلة أعلنت "محكمة الجزاء الجنائية الدولية" فتح تحقيق حولها, وقد أدَّت تلك الجريمة إلى مقتل أكثر من 200 شخص يوم السبت الماضي في شمال أوغندا في أعنف هجوم نسب إلى متمردي "جيش الرب" خلال تسع سنوات, وقالت المحكمة إنَّ "المدعي العام لويس مورينو أوكامبو سيحقق في تلك الجرائم التي أرتكبت في مخيم بارلونيو للنازحين. وأوضحت المتحدثة باسم المحكمة كلاوديا بيردومو إنَّه "تحقيق أولي وسيبت المدعي في وقت لاحق في فتح تحقيق رسمي" (الشرق الأوسط 25/2/2004م). فإذا كانت هذه مثل هذه الجهات تهتم بمقتل مأتى شخص فما بالها إذا عرفت بأنَّ هنالك الآلاف قد لاقوا نفس المصير أو أسوأ منه. إنَّ التدخل الدولى فى هذه الحالة "خير" لا بد منه!
مقترح توفيقى كمدخل لحل قضية دارفور:
نعتقد أنَّ النزاع بين أهل دارفور والحكومة السودانية سيستمر دون محاولة للتوفيق بين مطلب كل من طرفى القضية, فالحكومة تصر على مبادرتها رغم قصورها وتضاؤل فرص نجاحها, والحركة المسلحة تصر من جانبها على ضرورة إشراف المراقب الدولى على أية مفاوضات رغم رفض الحكومة على ذلك, وطالما أن الأمور تسير بهذه الكيفية فستنتهى إلى طريق مسدود, وعليه نرى ضرورة دمج هاذين المطلبين فى مبادرة واحدة الشيئ الذى يتضمن تنازلات متبادلة من الطرفين, وعلى هذا الأساس نود أن نطرح حلاً توفيقياً كمخرج مناسب من خلال الرؤية التالية:
لقد دعا البشير اللجنة المكلَّفة بالإعداد للمؤتمر الجامع إلى تقبل أي اقتراحات من أبناء دارفور في الداخل والخارج, وبالرغم من الشكوك الكثيفة حول إمكانية خروج المؤتمر بأى شيئ نافع نود أن نسجل موقفنا هنا شهادة للتاريخ, ولا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فى الحكومة إن لم تستمع. ومن منطلق حرصنا على تحقيق السلام العادل فى دارفور, وفى كل ربوع البلاد, وتأكيدنا على الوحدة الوطنية الراسخة, أود أن أؤكد على جملة من الملاحظات حول التطورات الأخيرة بدارفور وموقفى الشخصى كإبن من أبناء دارفور منها, أجملها فى النقاط التالية:
(1) يجب الترحيب بوقف النزاع الذى ضرب أرجاء دارفور خلال الفترة الماضية, ونرجو أن يعم السلام والوفاق وسمات التعايش السلمى بين كل مكونات شعب الإقليم, وأن تعود دارفور إلى سابق عهدها من الإلفة والوئام, ولقد عبَّر أبناء دارفور بمختلف إتجاهاتهم فى داخل السودان وخارجها عن ذلك وفى مناسبات كثيرة, وناشدوا الحكومة لتوخى الإنحياز للحلول السلمية والكف عن تكرار أخطاء تاريخية ظلَّت الدولة السودانية تعانى من آثارها المدمرة وإلى اليوم.
(2) طالما أنَّ القتال ليس هدفاً فى حد ذاته فمن الأوجب أن تدلف محاولات رأب الصدع إلى لبِّ الصراع مباشرة, والوصول إلى جذور المشكلة لإيجاد الحلول الناجعة لها والتى تحفظ لأهل دارفور إحترامهم وحقوقهم المشروعة وطنياً ودستورياً فى نطاق الدولة السودانية.
(3) لقد إحتوى بيان الرئيس البشير على تعميم مستفيض وتبسيط مخل للقضية وأغفل جملة من القضايا المفصلية المتعلقة بصلب النزاع, وبدا وكأنَّ الهدف من وراء البيان هو إلقاء الذين حملوا السلاح لأسلحتهم وتسليم أنفسهم ثمَّ ترك مناقشة القضايا الجوهرية والتى تمثل لب الصراع لمؤتمر يتم إعداده بلهفة, ودون أية هويَّة سوى أنَّها قومية فضفاضة, ثمَّ لا يملك أى من الصلاحيات أو الضمانات التى تجعل لها القدرة على تنفيذ ما سيخرج به من قرارات.
(4) إغفال الحكومة للإتصال المباشر مع حملة السلاح ورفضها حضور مؤتمر جنيف للمسائل الإنسانية تشى بغموض موقفها الحقيقى من القضية إجمالاً, وتعكس شكوكاً جمَّة حول مصداقية تعاملها مع أهمَّ قضية تشغل بال الشعب السودانى والمجتمع الدولى اليوم فيما يتعلق بالأوضاع فى السودان, إنَّ محاولات تهميش النزاع فى دارفور وتبسيطه عبرالماكينة الإعلامية سوف لن يساعد على حلَّه بتركيز وعمق كافيين مما قد يجعل القضية لا تراوح مكانها.
(5) أى محاولة جادة لحلِّ النزاع تستوجب بالأساس مخاطبة أطراف عديدة لها صلات قوية ومباشرة بقضية دارفور والإستئناس بآرائهم, يشمل ذلك أبناء دارفور والقيادات الأهلية بالداخل وفصائل الحركة المسلَّحة وأبناء دارفور ومثقفيها بالخارج.
لكل ذلك فإنَّه يجدر التحفظ على ما يجرى الآن من عجلة وهرولة لتبسيط القضية وإعتماد الحلول المؤقتة التى لا تخاطب روح القضية أو تشملها حصراً مما قد يفتح الباب واسعاً لأساليب الخداع والمناورة, وبناءاً عليه نعتقد بأنَّه إذا كان لا بد من قيام مؤتمر قومى لحلِّ قضية دارفور بالداخل فيجب أن يتم ذلك عبر تدرج معقول قد يشمل ثلاثة مراحل أساسية نوجزها فى الآتى:
أولاً: ترتيب مفاوضات مباشرة للسلام بين الحكومة وفصائل الحركة المسلحة برعاية دولية تكون مقبولة من الطرفين, ويمكن أن تكون الحركة الشعبية لتحرير السودان ممثلاً فيها بحسب وضعها كشريكة فى الحكم أثناء الفترة الإنتقالية بجانب الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها راعية لتطبيق إتفاقية السلام فى السودان على الأقل خلال الفترة الإنتقالية المتمثلة فى الست سنوات, وكذلك الأمم المتحدة بوصفها المعنية بالجوانب الإنسانية وإعادة تأهيل الحياة بدارفور, وأن تتم فى دولة محايدة مثل كينيا أو جنيف مثلاً, وتتصدى هذه المفاوضات لكل الملفات والملاحق وكافة القضايا المتعلقة بصلب النزاع وتحديد الضمانات الكافية لتنفيذ ما سيتم الإتفاق عليه على أن تنتهى بتوقيع إتفاق سلام نهائى.
ثانياً: أن يسبق بدء هذه المفاوضات هدنة لوقف إطلاق النار يتمكن خلالها كل طرف من ترتيب أوراقه وملفاته, وأن يُترك للحركات المسلحة الخيار فى أن تأتى بوفد موحَّد يمكن أن يضموا إليه آخرين من أبناء الإقليم من غير المنضوين تحت ألويتها كما يشاءون, وقد يشمل ذلك السياسيين والمثقفين وغيرهم من كوادر وأبناء الإقليم.
ثالثاً: فى غضون فترة تلك المفاوضات المباشرة يتم الترتيب بصورة هادئة لعقد مؤتمر قومى دستورى تُرفع إليه نتائج تلك المفاوضات الموقعة بين الحكومة وفصائل الحركة المسلَّحة بدارفور لإعتمادها بصورة قومية حتى لا يقفز عليها أو يتجاوزها أى أحد مستقبلاً, ذلك بجانب مناقشة هذا المؤتمر القومى لتصورات وبرامج دعم التعايش السلمى ورتق الخروق القبلية بإقليم دارفور.
إنَّ من الأهمية بمكان أن تكون الحلول المطروحة للأزمة المتفاقمة بدارفور ناجزة وشاملة بحيث لا تترك مجالاً لتكرار ما حدث مستقبلاً, كما تجدر الإشارة إلى أهمية أن تكون هذه الحلول والمداخلات عادلة ومنصفة ومقنعة وأن يشعر مواطن الإقليم بالرضاء الذى سيزيل الغبن المكبوت ويجبر الخواطر ويطفئ بؤر التذمر والإحتجاج, لكن فى سبيل ذلك كله تجدر الإشارة فى نفس الوقت إلى جملة من المحاذير التى يتوجب الحذر حيالها نوجزها فى النقاط التالية:
(1) سيرة الحكومة فى إبرام العهود والمواثيق مجروحة فيها بشهادة كل طوائف الشعب السودانى والمراقبون الدوليون, فمثلاً تمَّ التعاهد من قبل على إتفاقية الخرطوم للسلام مع الفصائل الجنوبية التى إنشقت عن الحركة الشعبية لتحرير السودان, بل وتمَّ تضمين تلك الإتفاقية فى دستور البلاد عام 1998م, لكنها إنتهت من حيث بدأت الشيئ الذى دفع بموقعيه من قادة الفصائل الجنوبية للإحتجاج والعودة مرة أخرى إلى أحضان الحركة التى إنسلخوا منها مبكراً.
(2) بالنسبة لدارفور فقد خرج مؤتمر الفاشر التداولى, والذى إنعقد مع بداية إستفحال الأزمة العام الماضى, والذى حضره أكثر من 500 شخص, بقرارات هامة يعتقد الكثير من الذين شاركوا فى صياغتها بإمكانيتها أن تكون ناجزة لكنها إنتهت بدورها فى محلها عندما ذهب الرئيس البشير إلى ذات المدينة وأعلن إطلاق يد الجيش لحسم التمرد. تجنباً لعدم تكرار ذلك يتوجب وجود ضمانات دولية قوية وحازمة لأى إتفاقات يتم إبرامها بين الطرفين.
(3) عقدة العقد فى أزمة دارفور هو إنعدام الثقة بين الجانبين, الحكومة من جانب والحركات المسلَّحة وأهل دارفور من جانب آخر, وشعور بعض الأطراف فى الإقليم بأنَّ الحكومة غير مستعدة أو جادة لتقديم أى شيئ لهم حتى وإن بادروا هم بمد أيديهم, وهم فى ذلك يشيرون لكارثة طريق الإنقاذ الغربى كحقيقة مجسدة. على الحكومة أن تدرك ذلك وأن تتعامل معها كحقيقة يقع العبء عليها أولاً لتجاوزها.
(4) محاولات طى الأزمة ودفنها لا تجدى لدعم مستقبل دارفور أو السودان أجمع, بل لا بد من الصراحة والشفافية والسماح للجان تحقيق مستقلة, دولية ومحلية, للقيام بدراسات وتحليلات كافية لمسببات الأزمة, بجانب إجراء تحقيقات قانونية عميقة حول إتهامات القتل والتشريد وحرق القرى وتحديد التعويضات اللازمة, والبحث عن الحقيقة, حتى لا تتكرر هذه المأساة مرة أخرى, ثمَّ يعقب ذلك تنشيط مبادرات المصالحة والوحدتين الإقليمية والوطنية.
(5) على قادة الحكومة أن يعدلوا من خطابهم نحو أهل دارفور ويجنحوا نحو اللغة التوفيقية التى لا تستفز أحداً, كما يجب على حكام ولايات دارفور والوزراء المشاركين على المستوى القومى أن يتبصروا دورهم ويحسنوا حديثهم أيضاً, وينصرفوا لخدمة أهليهم والتعبير عن همومهم بدلاً عن محاولات خداع الذات والرأيين الداخلى والعالمى بحقيقة الأوضاع فى دارفور إلى درجة أنَّهم قد صاروا معها يمثلون جزءاً أساسياً من المشكلة.